المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اقتصاد الرفاه ..و النمو الاقتصادي


نوره عبدالرحمن "سما"
01-07-2010, 07:05 PM
اقتصاد الرفاه و النمو الاقتصادي

http://fnkuwait.com/nup//uploads/images/fnkuwait-35b37ba775.jpg

اقتصاد الرفاه welfare economics فرع من علم الاقتصاد يُعنى بإدخال القيم الأخلاقية والمفاهيم الإنسانية في عمليات التحليل الاقتصادي وفي معالجة النظم الاقتصادية وتقويمها. ففي هذا الحقل تتلازم الجوانب الاقتصادية مع جوانب اجتماعية معينة وتتداخل معطياتها، ولاسيما أن البحث فيه يتعلق بتحقيق أهداف اقتصادية ذات مضامين اجتماعية من أجل مجتمع الرفاه أو من أجل نظام اجتماعي، تكون الدولة بموجبه مسؤولة عن رفاه مواطنيها أفراداً أو جماعة، يقوم على مفهوم التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين مواطني الدولة الواحدة. وفي حين تنطلق عمليات التحليل في بقية الحقول الاقتصادية بوجه عام، من أسس موضوعية بحتة تأتي جميع انعكاساتها، ومنها الانعكاسات الاجتماعية، نتيجة من النتائج المتعددة، فإن عملية التحليل في هذا الحقل تنطلق من مفاهيم خاصة وفرضيات ذاتية وفق أهداف اجتماعية معتمدة سلفاً ومرغوب في تحقيقها، وإذ ذاك تقاس فيه النتائج الاقتصادية اللاحقة في ضوء انسجامها مع المفاهيم الاجتماعية المعتمدة مسبقاً ودرجة تحقيقها للأهداف الاجتماعية المحددة. وفي الغالب، فإن الاعتبارات الاجتماعية في هذا الحقل تدور حول مسائل عامة مثل تحسين المستوى المعاشي باطراد للأفراد كافة، وإقامة حد من العدالة في توزيع الدخل، وضمان حرية الفرد في انتقاء ما يناسبه من الخيارات الاقتصادية المتاحة، وتحقيق المساواة في الفرص المعاشية، وتعميم المنافع الاجتماعية، والحد من الاستغلال بأنواعه المختلفة، ولاسيما في عمليات تشغيل اليد العاملة ووقف الهدر والمحافظة على سلامة البيئة والحد من تلويثها. لذلك فإن الحلول المثلى للمسائل المتعلقة بهذا الحقل الاقتصادي تكون عادة تلك الحلول التي تتوجه نحو تحقيق أعلى قدر ممكن من النفع العام بجميع صوره ونحو تحقيق مصالح أوسع قاعدة شعبية ممكنة، لا تلك الحلول التي تحقق الكسب الاقتصادي الصرف أو الربح المادي الأعلى لفئة محدودة سواء أكانت تلك الفئة مجموعة أفراد أم شركات أم مؤسسات حكومية.

التطور التاريخي لمفهوم الرفاه والتكافل الاقتصادي

لاشك أن الرفاه أمر نسبي يعتمد على متغيرات كثيرة منها ما يعزى إلى عوامل طبيعية ومنها ما هو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي ومنها ما هو متعلق بالمستوى التقني وتطوره، ثم إن هذه المتغيرات تتأثر بسلسلة لا حصر لها من العوامل والمؤثرات المتبدلة مع مرور الزمن. ومع أن الأدبيات الاقتصادية التي بحثت بعض جوانب موضوع الرفاه والتكافل الاقتصادي قلما تعود إلى ما قبل منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، إبان قيام الثورة الصناعية في أوربة، فإن البحث النظري المتطور في هذا الحقل من علم الاقتصاد لم يبدأ على نحو مركّز إلا منذ نحو نصف قرن فقط. بيد أنه لا يمكن إغفال أهمية بعض أبحاث المدرسة السكولاستية القديمة، وهي الفلسفة المسيحية التي كانت سائدة في العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة، كذلك فإنه تجدر الإشارة إلى أن كتابات الكونت الإيطالي كارافا D.Carafa في القرن الخامس عشر تناولت جوانب من النزعة الاجتماعية ونادت بوجوب الاهتمام بالموازنات المالية وضرورة تضمنها اعتمادات تخصص للإنفاق على المسائل الاجتماعية، كما تناولت البحث في مبدأ العدالة الاقتصادية وأسلوب إدارة الدولة وإرساء الأسس الواضحة لإقامة إطار محدد للاقتصاد الوطني.

وتعد بعض الكتابات التي برزت في القرن الثامن عشر في أوربة بمنزلة المنعطف الفكري الكبير لمفهوم الرفاه والتكافل الاقتصادي والاجتماعي في الغرب. فقد ظهرت مؤلفات ميل J.S.Mill وكتابات بنتام J.Bentham المتعلقة بالمنفعة utilitarianism والمذهب القائل بأن هدف السلوك البشري هو: «تحقيق أعظم الخير لأكبر عدد من الناس″. ثم تطور الجانب الاقتصادي فنياً فيما بعد على أيدي إدجْورُث Y.Edgeworth وباريتو V.Pareto ومارشال A.Marshall وبيغو A.C.Pigou وآخرين في بعض الجامعات الأوربية والأمريكية.

وإذا كان تاريخ الأدبيات الغربية التي بحثت في هذا الموضوع لا يعود إلى ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي، فإنه لثابت أن المضمون الاجتماعي للرفاه الاقتصادي القائم على التكافل هو من الظواهر القديمة التي لازمت الإنسان على نحو أو آخر منذ فجر التاريخ، فالإنسان اجتماعي بالفطرة. وبما أنه ليس هذا المكان المناسب للتوسع في التمحيص التاريخي للمضمون الاجتماعي والاقتصادي للحضارات القديمة، فإنه لحري التنويه بما تتضمنه الحضارة العربية حول بعض جوانب هذا الموضوع.

تجدر الإشارة إلى أن حضارة الصحراء العربية والأعراف القبلية والقيم الاجتماعية لحياة البداوة قد زخرت بمفاهيم راسخة تتعلق بمسائل التكافل الاجتماعي والاقتصادي داخل القبيلة الواحدة بوجه خاص وفي حياة البداوة بوجه عام. ثم إن الديانات السماوية التي بزغت في شرقنا العربي قد حملت معها مفاهيم جديدة وقيماً سامية في أسس التكافل الاجتماعي وفي مفاهيم الرفاه والمساواة بين البشر.

فالديانة اليهودية أوصت بالتعاضد الاجتماعي ومد يد العون إلى الذين يحتاجون إليها، ولكنها قصرت ذلك على أتباع الديانة اليهودية فقط.

وفي الديانة المسيحية، تعد محبة الآخرين وإكرام اليتيم والأرملة والمسكين والمريض والسخاء في الصدقات من صلب التعاليم الدينية، وهي توصي أيضاً بأن يجري كل ذلك في الخفاء ومن غير منة أو فخر.

أما الإسلام، فإنه زاد في هذا الصدد على ما جاء قبله، إذ هو يختلف ليس فقط في حضه على الصدقات بل في كونه جعل الزكاة [ر] ركناً أساسياً من أركان الدين وفي جعلها حقاً للمعوزين في أموال الموسرين. فالزكاة من حيث الوجوب والأهمية تأتي مباشرة بعد ركن الصلاة، وقد تكرر ذكرها كثيراً في القرآن الكريم إذ وردت في ثلاثين موضعاً وجاء معظمها مقترناً بكلمة الصلاة، كما في قوله تعالى: }طس تلْكَ آَياتُ القُرآنِ وكِتابٍ مُبِين، هُدى وَبُشْرَى للمُؤمِنِينَ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالآخِرةِ هُم يُوقِنُونَ{ (النمل 1-3).

والزكاة في الإسلام غير الصدقة. وأوسع منها بكثير، وإن كانت بعض الصدقات تعد، شرعاً، جزءاً من الزكاة.

ومن الملاحظ أن الزكاة لم تفرض في الإسلام محاربة للأغنياء، إذ «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده»، بل فرضت لاستئصال العوز والفقر اعتماداً على مبدأ «الغرم بالغنم». فقد كُلف بها القادرون على دفعها فقط، وجعل لها الإسلام أهدافاً اقتصادية وأخلاقية واجتماعية وسياسية. وإذا ما نُظر إليها في ضوء المعطيات العصرية تبيّن أنها بمنزلة نظام كامل من الأنظمة التي تعنى بالضمان الاجتماعي الشامل.

وإضافة إلى نظام الزكاة فإن الشرع الإسلامي قد تطرق إلى مسائل التكافل المعيشي في مواضع مختلفة ومتعددة منها منع الربا وحض الناس على إقراض المعسرين إقراضاً حسناً، والتوكيد على إطعام الفقير والإحسان إليه، وإشاعة التآخي بين الناس }إنما المؤمنون إِخْوة{ (الحجرات 10) والحث على التعاون }وتَعَاونُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوى ولا تعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والعُدْوان{ (المائدة 2) ومنع حجب المنفعة عن الآخرين }فَويلٌ للمُصَلِّينَ، الذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِم سَاهُون، الذِينَ هُمْ يُرَاؤونَ، ويَمْنَعُونَ المَاعُون{ (الماعون 4-7). وقد ذهب المفسرون إلى القول إن الماعون هو كل شيء نافع للناس.

وهكذا فإن الإسلام قد سبق الاقتصاديين الغربيين بعدة قرون في طرح مبادئ التكافل الاقتصادي والاجتماعي، وفي إيجاد نظام مالي واضح ومتكامل لتعميم المنفعة الاقتصادية ولتوسيع قاعدة الرفاه كيما تشمل الناس أجمعين. وفي الحديث الشريف «الخلق كلهم عيال الله أقربهم إليه أنفعهم لعياله».

المنطلقات النظرية لمسألة الرفاه والتكافل الاقتصادي ومعاييرها

لما كانت مسألة الرفاه والتكافل الاقتصادي تتضمن عناصر ومبادئ ومفاهيم غير اقتصادية المنشأ من زاوية «المنطلق الإيجابي لعلم الاقتصاد الحديث» positive approach، وكانت تنطوي على جوانب اجتماعية وأخلاقية وفلسفية وعلى قيم ذاتية، فلقد جنح المنظرون إلى معالجتها من زاوية «المنطلق المعياري القياسي» normative approach. لذلك فإن الإطار النظري لهذا الحقل من علم الاقتصاد مازال يعاني من نقص فني يمكن رده بوجه عام إلى أمرين رئيسيين: الأمر الأول يعود إلى نوعية الفرضيات التي اعتمدت في بناء الإطار النظري ومثاليتها، والأمر الثاني يتعلق بصعوبات وإشكالات إحصائية ورياضية وقياسية لدى احتساب العناصر غير الاقتصادية كالمنفعة والمساواة والسعادة، إلا أن ذلك كله لم يمنع الكثير من الاقتصاديين من اقتحام المسالك الشائكة بمنهجية منطقية لاستكمال الإطار النظري المطلوب وتطويره.

وإذا كان الاقتصادي الشهير بيغو يعد الرائد في إطلاق الأسس النظرية الحديثة لهذا الحقل الاقتصادي في مؤلفه الشهير الذي ظهر عام 1920، معتمداً على جميع الذين سبقوه في التصدي لهذا الموضوع منذ ظهور كتابات بنتام قبل ذلك بمئة وخمسين عاماً، فإن بيغو نفسه قد اعتمد نظرية «المنفعة» التي كانت حتى ذلك الحين غير مكتملة البنيان وكانت تعاني من مثالب علمية وفنية أساسية.

وينطلق الإطار النظري الحديث لمسألة الرفاه والتكافل الاقتصادي من مقولتين أساسيتين مترابطتين، الأولى ترى أن رفاه الفرد يزداد إذا ما أفسح له في المجال للارتقاء إلى مستوى أعلى في سلم التراتيب الخاصة المتعلقة بخياراته المعيشية، والثانية ترى أن رفاه المجتمع كله يزداد عندما تزداد سوية رفاه فرد واحد فيه من دون أن تواكبها أي تراجعات في سوية الرفاه المتحققة لأي فرد آخر من أفراد المجتمع ذاته.

وببساطة من دون التطرق إلى الأساليب الفنية المعقدة لعلم الاقتصاد[ر]، وإذا ما تم الانطلاق من «الحالة السكونية»، فإنه يمكن القول إن القاعدة النظرية لتحليل معايير الرفاه والتكافل الاقتصادي تعتمد عموماً على تحقيق عدد من «الشروط الحدّية» marginal conditions المطلوبة لتحقيق التوازن الاقتصادي العام، سواء في مجال الإنتاج أو التبادل السلعي أو الاستهلاك، وذلك في اقتصاد يعمل في شروط من الكفاية التامة والفعالية التنافسية الكاملة perfectly competitive economy. وإن الشروط الحدّية الواجب تحقيقها للوصول إلى الحد الأعلى الممكن من الرفاه لجميع أفراد المجتمع هي أولاً: الشروط الحدية للتبادل السلعي التي تكون معها النسبة الحدية للإحلال أو للاستعاضة marginal rate of substitution بين أي سلعتين استهلاكيتين (أو بين أي مجموعتين من السلع الاستهلاكية) متماثلة لجميع الأفراد المستهلكين لهاتين السلعتين، ثانياً: الشروط الحدية للإحلال أو للاستعاضة في عناصر الإنتاج التي تكون معها النسبة الحدية للإحلال التقني marginal rate of technical substitution بين أي عنصري إنتاج (أو أي زمرتين من زمر المدخلات) متماثلة للمنتجين كافة. ثالثاً: الشروط الحدّية للإحلال الإنتاجي أو للاستعاضة الإنتاجية marginal condition for product substitution التي تكون معها النسبة الحدية للتحويل الإنتاجي marginal rate of transformation in production مساوية للنسبة الحدية للإحلال أو للاستعاضة الاستهلاكية المذكورة آنفاً لأي سلعتين (أو مجموعتين من السلع الاستهلاكية) ولكل فرد يستهلك هاتين السلعتين (أو المجموعتين من السلع). ونظرياً، فإنه يفترض لتحقيق هذه الشروط الحدية المطلوبة وجود أسواق تعمل بفعالية كاملة وبكفاية تنافسية تامة وذلك فيما يتعلق بجميع جوانب العرض والطلب لجميع المدخلات والمخرجات للعناصر الاقتصادية.

والمقصود في كل هذه المعايير الحدية وتحقيقها هو وضع كل مواطني المجتمع على اختلاف مهنهم ومواقعهم في شروط متكافئة من حيث الاستفادة من فعالية الاقتصاد الوطني، ومع أن بعض الاقتصاديين قد رأوا أن توفير القواعد اللازمة لتحقيق هذه الشروط الحدية كاف لتوفير مجتمع اقتصاد الرفاه فإن بعضهم الآخر أصر على إضافة شرط جديد يتعلق بموضوع توزيع المنفعة واهتم بجوانب مسألة المساواة وجنح إلى قبول تقويم الهيئات المعنية في الدولة، من أجهزة تخطيط وغيرها، وقبول أحكامها وعدّها المرآة التي تعكس بدقة وجه العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها المجتمع كله.

كذلك فقد ركزت مدرسة ثالثة على مبدأ المفاضلة بين «النفع الاجتماعي» social benefit و«الكلفة الاجتماعية» social cost، واعتمدت في منهجها على مقولة أن الطلب لأي سلعة في السوق يفترض أن يظهر سعر السلعة، أو الكلفة الحدية للعناصر الاقتصادية اللازمة لإنتاج تلك السلعة، كما يراها المستهلك، وذلك في ظل الشروط التنافسية المثلى. وعليه فإن المستوى الأعظمي للرفاه الاقتصادي لا يتحقق إلا عندما تكون «الكلفة الحدية الاجتماعية» مساوية «للنفع الحدي الاجتماعي». ومن هذا المنطلق، اهتمت هذه المدرسة بإثارة الحالات التي تولد تبايناً بين «الكلفة الحدية الخاصة» marginal private cost و”الكلفة الحدية الاجتماعية» marginal social cost وبين «النفع الخاص» و«النفع الاجتماعي أو العام» وما يترتب على ذلك من ظهور فروقات سلبية أو إيجابية بين «النفع الاجتماعي» و«الكلفة الاجتماعية» التي تتجلى في وجود وفورات اقتصادية external economies أو هدر اقتصادي external diseconomies للمجتمع كله. وتعزى أسباب هذا التباين وما ينجم عنه من فروقات في التوازنات الاقتصادية إلى أوضاع إنتاجية معينة تتعلق عادة بنوعية الملكية أو بعوامل تقنية صرفة أو بحجوم الخدمات العامة التي توفرها الدولة، وبطبيعة هذه الخدمات، وأفضل مثال على التباين بين «النفع الحدي الاجتماعي» و”الكلفة الحدية الاجتماعية» هو المقارنة بين الفائدة التي يجنيها الاقتصاد الوطني أو منطقة المشروع والتلوث الذي قد ينجم عن هذا المشروع ويلحق إضراراً بالبيئة المحيطة، مما يؤثر سلباً في إنتاج المشاريع الأخرى المجاورة لمنطقة المشروع أو في الأوضاع المعيشية للتجمعات السكنية القريبة منها، كدخان المصنع الذي يضر بالمزارع أو كتلوث المياه الذي يسبب مشاكل صحية للجوار. وقد يكون هذا التباين إيجابياً أو سلبياً بحسب حالة كل مشروع وما يترتب عليه من أضرار وفوائد. أما المصدر الآخر للتباين فيتعلق ببعض الخدمات الاجتماعية التي توفرها الدولة بالحجوم والطاقات التي تشمل جميع المواطنين ويتم تمويلها من الموارد العامة. ثم يتبين لاحقاً أن استعمالها الفعلي لا يتعدى الحاجة الحقيقية لفئة قليلة من المجتمع وليس لأفراد المجتمع كله. وقد تكون نتائجها معروفة مسبقاً ولكن الدولة تحابي بها فئة من الناس.

وأخيراً، فإن الواقع الحياتي ومستجداته المتواصلة قد دفعت الاتجاه الأحدث للتنظير الاقتصادي إلى اعتماد أساليب التحليل وفق الإطار «الديناميكي» (الحركي) وإدخال جميع المتغيرات التي يمليها عامل الزمن ومحاولة استقراء أثر كل ذلك التغيير الممكن في القيم والمفاهيم الاجتماعية ذاتها، الأمر الذي جعل القاعدة النظرية لمسألة الرفاه والتكافل الاجتماعي قاعدة فضفاضة جداً إلى درجة ظهرت معها مدرسة نظرية مغالية تنادي بإيقاف عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بزعم أنها تفسد البيئة الكونية وتخرب الطبيعة مما قد يقلل من درجة الرفاه والتكافل الاقتصادي عينه.

برامج التكافل الاجتماعي

تزامن ظهور برامج التكافل الاجتماعي في أوربة مع التحولات الاجتماعية التي برزت في أثناء عملية الانتقال من المجتمعات الزراعية إلى المجتمعات الصناعية إبان الثورة الصناعية فيها، فقد واكب التحويل الصناعي خلل اجتماعي كبير تناول معظم القيم والعادات والروابط الاجتماعية التي كانت غالبة من قبل. وقد تصاعدت حدة الخلل الاجتماعي نتيجة تفاعله مع المتغيرات الاقتصادية الجديدة، ومع الخلل المعاشي الحاد الناجم عن الهجرات الواسعة من الريف إلى المدن، ومع الدرجة العالية للاستغلال الذي غالباً ما مارسته الطبقة الجديدة لأرباب العمل التي لم تكن في المراحل الأولى مقيدة بتشريعات وأنظمة ضابطة.

وبصورة عامة، فقد عانت الطبقة العاملة في معظم المجتمعات الصناعية من غياب برامج الضمان الاجتماعي مدة قاربت القرنين والنصف تقريباً، أي منذ انهيار النظام الزراعي القديم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، علماً بأن بعض المجتمعات كان أسرع من غيره في اعتماد أسس التكافل الاجتماعي وتطويره.

وتعد بريطانية رائدة في مجال إثارة المسائل الاجتماعية مع أنها لم تكن الأولى في اعتماد برامجها. وذلك لأنها كانت سباقة في التصنيع من جهة ولكون النظام البرلماني الذي كان قائماً قد وفر منبراً حراً علت من خلاله الأصوات الداعية إلى التكافل الاجتماعي من جهة أخرى، وتعود جذور برامج التأمينات الاجتماعية التي أقرتها حكومة حزب العمال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تحت شعار الضمان الاجتماعي من المهد إلى اللحد إلى ما كان يعرف بقانون الفقراء the poor law الذي أقرت نصوصه الأولى عام 1601 وتناول بعض جوانب مسؤوليات المجتمع في التصدي لمشكلات الطبقات الفقيرة. وقد خضع هذا القانون لتعديلات مستمرة على مدى ثلاثة قرون من الزمن، بيد أنه مع تنامي قوة الحركات العمالية واشتداد التيار الاشتراكي وبروز حزب العمال، في مطلع القرن العشرين، قوة سياسية جديدة، بدأت مسألة التكافل الاجتماعي تأخذ بُعداً جديداً وعلت الأصوات المطالبة بأن تكون الدولة هي المسؤولة عن توفير الضمان الاجتماعي لفئات الدخل المحدود وعن تمويله. وفي المدة الواقعة بين 1906 و1948 تم سن الكثير من التشريعات التي عنيت بالجانب الاجتماعي انطلاقاً من الوجبات المجانية والرعاية الطبية للطلاب المعوزين، إلى المعاشات التقاعدية للمسنين والرواتب للأيتام وللعاطلين عن العمل وتعويضات الأمومة، وانتهاء بالطبابة المجانية ومعونات الوفاة.

ومع أن بريطانية كانت تتمتع بدرجة عالية من الوعي الاجتماعي فقد سبقتها دول أوربية أخرى إلى إقرار تشريعات برامج التكافل الاجتماعي، ففي سويسرة أقرت مدينة بازل عام 1789 نظاماً للتأمين ضد البطالة، وفي ألمانية اعتمد بسمارك عام 1883 أول نظام عام للتأمين الاجتماعي في أوربة، وجرى توسيعه بعد ذلك حتى أصبح في عام 1889 شاملاً لمعظم حالات الطوارئ والمرض والعجز. كذلك تبعت النمسة وهنغارية خطوات النظام الألماني، وشهدت الدول الاسكندنافية حركة مماثلة انطلقت من النروج. وبسقوط روسية القيصرية نهج البلاشفة نهجاً اشتراكياً يقوم في جوهره على مبدأ «من كل بحسب قدرته ولكل بحسب حاجته». أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد سنت عام 1935 «قانون الضمان الاجتماعي» الذي جاء على أثر «الكساد الاقتصادي الكبير» الذي أصابها وما رافق ذلك من اتساع في معدلات البطالة.

ومن السمات الأساسية لبرنامج الضمان الأمريكي أن المصدر الرئيسي لتمويله هو الاقتطاعات من رواتب العاملين من جهة ومن أموال الجهات المستخدمة لهم من جهة أخرى. وبذلك لا تنفرد الدولة بتحمل نفقات التمويل.

أما في الدول العربية، فإن الحركات العمالية والاشتراكية لم تبدأ بالظهور قوى مؤثرة إلا بعد نجاح حركات الاستقلال الوطني عن القوى الأجنبية. وقد حققت بعض البلدان العربية، ولاسيما التقدمية منها، خطوات واسعة في تطبيق الكثير من أوجه التكافل الاجتماعي وكان القطر العربي السوري في طليعة الأقطار العربية التي تبنت برامج التكافل الاجتماعي ونادت بها. وبما أن الغالبية السكانية في المجتمعات العربية تدين بالإسلام، فإن للزكاة دوراً مهماً في ترسيخ أسس التكافل الاقتصادي والاجتماعي وتعزيزها في الدول العربية.

وعالمياً، لا بد من الإشارة إلى أن الشعور الإنساني واحد أينما كان، وأن التكافل الاقتصادي والاجتماعي هو حاجة بشرية لا تحدها الحدود الجغرافية والسياسية، لذلك فلقد ازداد الوعي العالمي لهذه المسألة. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية أُحدثت منظمة الأمم المتحدة [ر] التي تتصدى مؤسساتها وأجهزتها المتخصصة لإزالة الكثير من المثالب الاجتماعية والاقتصادية في كل مكان ولمواجهة حالات الطوارئ والكوارث ومد يد المساعدة الاقتصادية والاجتماعية على الصعيد الدولي، ولاسيما للبلدان الأكثر فقراً، مرسخة بذلك نظاماً عالمياً للتكافل الاقتصادي والاجتماعي.

و نهاية القول فإن برامج المحافظة على البيئة الطبيعية والحد من التلوث محلياً وعالمياً تعد من مستجدات مبدأ التكافل الاجتماعي والاقتصادي، إذ إن التزايد السكاني المتنامي وحركة النمو الاقتصادي المستمرة يؤثران سلباً وباستمرار على المكونات الطبيعية ومواردها وعلى الحقوق المتساوية للبشر فيها. وإن الاستهتار بالمسائل الطبيعية والبيئية من قبل فئات محدودة سواء كانت من المنتجين أو من المستهلكين يسبب في الغالب أضراراً اقتصادية واجتماعية لا تعوض لا تصيب البلد المعين فقط بل تصيب المجتمع العالمي كله.


الموسوعة العربية :محمد بشارة كبارة


مراجع للاستزادة

- I.M.D.LITTLE, A Critique of Welfare Economics, Second Edition (Oxford University press. Oxford 1965).
- MELVIN W.REDER, Studies in the Theory of Welfare Economics (Columiba University press, New York 1947).