المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فلسفة الثعبان المقدس *مكتبة متكاملة للقصص القصيرة في الأدب العربي


نوره عبدالرحمن "سما"
06-07-2010, 03:06 PM
فلسفة الثعبان المقدس *

كان هناك ثعبان وعصفور يعيشان في غابة وارفة الأشجار والظلال جوار مدينة ما.. التقيا ذات مرة وتعارفا.

- ما أجملك أيها العصفور وما أبها ريشك الملون وتغريدك العذب.

نظر العصفور في امتنان إلى الثعبان وردد في حياء

- أنت تراني جميل في مرآة نفسك الطيبة فأنت أيضاً لك جلد بديع صاغته ريشة فنان مبدع، هذه النجوم الزرقاء والخطوط الحمراء.

ابتسم الثعبان ابتسامة ودودة وأردف

- هل تعرف يا صديقي البشر ؟!

نظر العصفور إلى صديقه في دهشة

- البشر من بني آدم أسمع عنهم فقط

أردف الثعبان في توجس

- انتبه جيداً !! أحياناً يأتون إلى هنا

- لكني لم أرد أحداً منهم حتى الآن

- إني أخاف عليك منهم، قد يراك صبي طائش في يده مقلاع فيصيدك بحجر فتسقط على الأرض مضرجاً في دمائك، يأخذك إلى البيت وينزع ريشك الجميل ويشويك ويأكل لحمك القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في أعياد النيروز*..

ارتعش العصفور وهو يسمع لثعبان يتحدث في تلذذ واللعاب يسيل من فمه على لحيته فيلعقه بلسانه المزدوج، فردد في وجل.

- آه رباه .. أنا لا أريد أن يفعلوا بي ذلك.

- إنهم لا يقدرون الجمال، يرونك قطعة من اللحم تشوى وتؤكل في الأعياد ويروني حقيبة من الجلد الفاخر تشرى وتهدى إلى السيدات الساقطات..

- أنت تعرف كثيراً عن البشر يا صديقي

- وما خفي أعظم، هل ترى تلك الصقور المسكينة مع المصورين؟ … هل تعتقد أنها جاءت بنفسها إلى المدينة لتقوم بمثل هذا العمل الشاق، تضع على الأكتاف أمام أضواء الفلاشات وسط هذا الضجيج ؟!. "إنهم ذهبوا واقتنصوها من معاقلها في الجبال المجاورة وأتوا بها إلى المدينة وباعوها إلى المصورين ".

- مسكينة هذه الصقور النبيلة.

- أجل تعيش هكذا بلا زوجة.. ولا أبناء ولا عش مربوطة الساق مهيضة الجناح مكسورة الخاطر.

- أنت فيلسوف يا صديقي

- أنا لست فيلسوفاً بل أعرف الحقيقة، لماذا لا يأتوا بالحيوانات التي رضت حياة الذل بين البشر كالحمير والكلاب والدجاج لتقوم بهذا العمل الكئيب؟ الجلوس أما الكاميرات بدل الصقور.

- أنت حكيم يا صديقي.

- أنا لست حكيما بل أعرف الحقيقة، حتى هذه الحيوانات المسكينة عندما يدركها الكبر يتركونها تهيم على وجهها في الطرقات تواجه الموت جوعاً ومرضاً ، ثم يلقوا بها في المزابل، فلا تحصل على موت كريم يليق بخدماتها الجليلة لبني البشر.

- أنا لن أمكنهم مني أبداً .. سأعيش حر وأموت حر.

- قلت لك أنهم يأتون ولا يرحمون لقد فعلوا ذلك لبني جلدتهم من البشر السود الإفريقيين أيضاً.

- السود !!

- كان هؤلاء السود يعيشون أحراراً مثلنا في الغابات، فجاءوا إليهم من بلادهم البعيدة وراء البحار وأسروهم واقتادوهم في الأغلال ليعلموا في معسكرات العمل في سيبيريا *، ويبيعونهم ويشترونهم كالسلعة تماماً.

- إن البشرة قساة !! لماذا يفعلوا ذلك بالسود؟

- لأنهم يكرهون اللون الأسود.. الحقد في نظرهم أسود، الموت عندهم أسود.. انظر بنفسك إلى تلك الغربان التي ترتفع في حدائقهم ولا أحد يأبه لها.. لأنها قبيحة المنظر وصوتها فج، فهم يتشاءمون منها .. لكن إذا ذهبت أنت إلى الحدائق سيكون لك شأن آخر.

- ماذا !! .. ماذا تعني؟

ضحك الثعبان في خبث :

- سيأسروك ويجعلوك في قفص ذهبي، يضعونك في استقبال الفنادق أو قصور المترفين يتسلى بك أطفالهم التعساء.

أدهشت العصفور العبارة الأخيرة "التعساء".

- هل تعتقد أن أطفال الأسر الموسرة تعساء؟

- نعم لأنهم يعيشون في سجون بلا قضبان.. إن ذويهم يحرمون عليهم التجول ليلاً أو الذهاب إلى السينما.

- لماذا؟

ضحك الثعبان ضحكة ماجنة وردد بصوت يشوبه الغنج.

- يخافون عليهم من ( ……)

ضحك العصفور في جزل ويبدو أن أحاديث الثعبان أخذت تروقه

- لن أذهب إلى تلك الحدائق في المدينة أبداً.

- ألم اقل لك أنهم قادمون، صه ألا تسمع، مهما تأخروا فإنهم يأتون.

خفض الثعبان رأسه وأدناه من الأرض، ثم صاح بصوت مبحوح

" إنهم قادمون .. إني أسمع وقع أقدامهم تقترب من الغابة، لا بد أنهم يحملون البنادق لألوية الحمراء.. اللعنة !!" .

دب الرعب في قلب العصفور المسكين وأخذ ينتقل من غصن إلى غصن في توجس ويتلفت يمنى ويسرى.

- أين المفر ؟ … أين اختبئ؟ إنهم قادمون.

ردد الثعبان في حنو بالغ مس شغاف قلب العصفور

- " تعال إلي .. سأحميك منهم، لن أجعلهم يأخذوك الأقفاص وأعياد النيروز.

نظر العصفور في عيني الثعبان المحمرتين والمتقدتين شبقاً وشعر بالدوار فسقط من بين الأغصان وارتمي بين أحضان صديقه الماكر، تنفس الثعبان الصعداء وأطلق زفرة حارة أشعلت جسد العصفور المسكين وردد في تشفي.

- نعم لن يأخذوك.. لأني سأكلك وأجعلك تسري في دمي وأضمن بذلك لجمالك الفاني الخلود الأبدي. ".

صعق العصفور المغدور، ثم شهق من الألم وقد أحس بالناب المسموم ينغرس في جسده " الغض، أغمض عينيه استسلم للقدر المحتوم".


هوامش :
- فلسفة الثعبان المقدس: العولمة : النظام العالمي الجديد.
- عيد النيروز : عيد يحتفل به الفرس.
- سيبيريا : صحراء جليدية في الاتحاد السوفيتي سابقاً.


* * *

استشهادي

الضيعة التي أختارها جدي ياسين لنقيم معه بعد أن حلت اللعنة بالمكان منذ نزوحنا من بلدة دير ياسين كانت أشبه بالجنة الموعودة.. منزل حجري مكون من طابقين.. به شرفة تطل على بساتين الكروم والزيتون في المنطقة التي تحيط بها الجبال من كل جانب وترتبط بمدينة رام الله بطريق ترابي، تراه من الشرفة التي أعتاد جدي الجلوس فيها كل صباح يجتر الذكريات ويشهد شروق الشمس بين الجبال.. الطريق يمتد أمام نظر جدي حتى يتوارى خلف الجبال كحية غبراء طويلة، كان جدي يتأمل هذا الطريق المترب بعينين كعيني الصقر وبقلب متوجس من شرفته العالية.. بعد أن تدفعه أمي فاطمة بكرسيه ذو العجلات فقد تقدم به العمر كثيراً..

يتألف بيتنا من أربع غرف في الطابق الأرضي، غرفة نقيم فيها أنا وشقيقي الصغير بسام.. غرفة يقيم فيها جدي وحده، غرفة يقيم فيها خالي محمود وحده أيضاً وتقيم زوجته زهرة وطفله محمد مع أمي.. لعلكم تتساءلون. لماذا يقيم خالي محمود وأسرته الصغيرة معناَ هكذاً؟!

* * * * *

قبل عامين وفي عيد الفطر.. قامت أمي كالمعتاد بصنع الكعك وتجهيزه لنا. أنا وجدي لنأخذه في زيارتنا المعتادة لخالي محمود في رام الله لتهنئته بالعيد والبيت الجديد، في ذلك اليوم المشهود عندما نزلنا من الحافلة واتجهنا إلى بيت خالي في الضاحية الجديدة فوجئنا بجنود الاحتلال يحاصرون المنزل والجرافات تقف عن كثب.. اقتربنا من المنزل وجدت زوجة خالي زهرة تولول.. خرج الجنود يسحبون خالي محمود النحيف البنية بقسوة ويقذفون به وطفله الذي بين يديه في الشارع وتحركت الجرافات لهدم المنزل الجديد، ظل خالي يقاوم بشدة والجنود يدفعونه ويسقط في الأرض المرة تلو المرة، استشاط جدي غضباً وناولني سلة العكك ودفعني بعيداً وانقض على الجنود وانتزع خالي من براثنهم واحتضنه، ظل جسد خالي ينتفض بشدة وأخذ يعوي في حرقة. كانت نظرة واحدة لعينيه الطيبتين كافية لأعرف أن خالي قد فقد عقله تماماً، حدق فيه جدي في أسى متمتماً.

- يرحمك الله يا ولدي محمود .. أنت لا تتقن شيء سوى الشعر ولا تستطيع مقارعة اللعنة التي حلت بالمكان !!

ظل محمود يصرخ ويهزئ ويلعن حتى بعد تركنا المدينة.. وقفلنا عائدين إلى البيت .. هناك استقبلتنا أمي المتشحة دائماً بالسواد والهلع يغمر عينيها ومنذ لك اليوم وضع جدي القيد على كاحل خالي المجنون وحبسه في غرفته وحيداً.. كنت دائماً أنظر في عيون خالي الزاهلتين وفمه المطبق بإصرار وأحس باالهوان.. ويقوم جدي بنظافته وحلاقة شعره ويحرص دائماً على ابعاد أي أداة حادة أو شيء يجعله يؤذي نفسه.

* * * * *

في البهو الكبير حيث نجتمع على الطعام تطالعك صورة عائلية لأسرتي.. أمي وأبي عبدالناصر الذي استشهد في حرب الاستنزاف في أواخر الستينيات بعد أن نفذ عملية ضد قوات الاحتلال ومن حينها وأمي غارقة في السواد والنواح وتردد دائماً أنها في انتظار الضيف ولما كبرت عرفت أن الضيف الذي تنتظره أمي الصابرة هو ملك الموت.

تطالعك أيضاً صورة شقيقتي سعاد، كانت تقيم معنا في الطابق الثاني مع زوجها وأولادها ثم هاجرو إلى لبنان في بداية الثمانينات، ذبحت مع زوجها وأولادها في مجزرة صبرا وشاتيلا وفي تلك الأيام بكت أمي بكاء امرأً وانهار جدي وأصبح يجلس على الكرسي ذو العجلات.

* * * * *

جدي ياسين رجل صلب المراس، قوي الشكيمة، له جسد فارع ومفتول العضلات، كانت تجمعني به أكثر من صداقة لابد أنه يرى نفسه في شخصي، أخبرني كيف كانوا في الماضي يقاومون الاحتلال واللعنة التي حلت بالمكان … أخبرني عن صديقه سعيد الذي يطلق عليه أبو النصر .. كان جدي يزور عائلة أبو النصر في دير ياسين .. أو قل ما تبقى من عائلة الرجل.. امرأة مسنة تجلس وحيدة في بيت كان حافل بالذكريات، ويدور هذا الحوار بيني وبين جدي.

- أين زوجها يا جدي؟

- في السجن منذ 1948.

- اين ابناؤها؟

- في امريكا وهم يحملون شهادات عليا.. أنهم أسرة عبقرية.

كنت اتجول في ردهات المنزل الخالي .. رأيت صورة لامرأة جميلة تحمل طفل وتحيط بها الملائكة.

- لمن هذه الصورة يا جدي ؟

- إنها مريم العذراء.

- هل هم مسيحيون يا جدي ؟

- نعم.

- هل هم فلسطينيون ؟

- نعم .. وعندنا تكبر قليلاً سأخذك لتزور أبو النصر.

وأظل أدور في البيت الخالي الذي يلفه الصمت وجدي جالس يرشف الشاي مع المرأة المسنة تحدثه عن أخبار ولديها وأحفادها في أمريكا وتوصيه لزوجها عندما يذهب إلى زيارته في السجن..

* * * * *

عندما ذهبنا إلى زيارة أبو النصر في السجن، وجدت إثارة لا توصف، كان جدي في اليوم الذي يقرر فيه السفر لزيارة صديقه يكتنفه نشاط غير عادي يرتدي أجمل الثياب ويحلق ويتطيب ويحمل معه حقيبة ملأة بكل ما يفرح الرجال خلف الأسوار، نمر خلف الأسلاك الشائكة والأبواب العديدة والجدران العالية والتفتيش المضني ونجلس في القاعة الكبرى ونلتقي بسعيد، تصيبني القشعريرة عندما أرى سعيد.. رجل في السبعين من عمره له شعر فضي وعينان زرقاوان تشعان سلام وطمأنينة، كان أيضاً ضخم الجثة كجدي، يتعانقان بقوة ويحاول كل منهما أن يقهر الآخر في لعبة قبضة اليد، وذلك بعد أن يتحدثا أحاديث ذات شجون عن اللعنة التي حلت بالمكان، وبرموز لا أفهمها.. قبل انتهاء الزيارة يقوما بفعلتهما التي تثير استياء الحراس وتزلزل قاعة السجن مستغلان التفاف السجناء حولهما وهما يمارسان لعبة لوي الذراع المفضلة لديهما.. يبدأ الضرب على الطاولة بطريقة رتيبة ويمتد الضرب إلى كل الطاولات ويندفع الزائرين كدوي النحل.

مهما هم تأخروا
فإنهم يأتون
من درب رام الله
أو من جبل الزيتون
من دمى الأطفال
من أساور النساء
باقة أنبياء
ليست لهم هوية
ليست لهم أسماء
يأتون مثل المن والسلوى
من السماء .

ويعم الهرج.. ويعلن الجرس انتهاء الزيارة ويدفعنا الحراس الساخطين للخروج ونتخطى الأبواب الكثيرة والأسلاك الشائكة والجنود المدججين بالأسلحة في رحلة العودة، يغمر وجه جدي الحزن النبيل ويظل صامتاً حتى نعود إلى البيت.

* * * * *

كان الصباح مهيباً والضباب يغمر الوادي، أمام البيت وجدي جالس على شرفته يتأمل الطريق المترب البعيد.. أمي تعد طعام الإفطار وتتحرك كالنحلة بين المطبخ وقاعة الطعام، زوجة خالي زهرة تجلس عن كثب تغسل ابنها على الطست وهو يصرخ في هلع من لذع الماء الدافئ ومن داخل الغرفة المغلقة ينبعث أنين خالي محمود .. ينادي بسام أخي الصغير، أنا جالس أذاكر في دروس الكيمياء اللعينة التي تحشو بها رؤوسنا جامعة نابلس .. خرج بسام ليجمع الزهور البرية ذات الرائحة الزكية والمبللة بندى الصباح لخالي الشاعر .. يشرق وجهه وتزول كل آثار الجنون عندما يجلب أخي بسام الزهور ويضعها في أصيص جوار فراشه، تعود له سكينته ويجلسان يتحدثان كصديقين ودوديين، خالي يحب بسام بصورة استثنائية ويستمع إلى احلامه الغضة، أن يكون لاعب كرة قدم ممتاز مثل اللاعب أحمد راضي.. لاعب كرة القدم العراقي.. ظل بسام دائماً يستقبلني بحفاوة عند عودتي من الجامعة، ويخطف حقيبتي ويأخذ من المجلات الرياضية التي بها صر اللاعب أحمد راضي ويقصها ويجمعها ثم يزين بها غرفتنا.

* * * * *

ظل الجد يتابع حفيده الصغير بنظراته من على الشرفة وعلى فمه ابتسامة عريضة، كان بسام يتنقل كالفراشة من مكان إلى آخر يقطف الأزهار..

فجأة من خلف الضباب لمح التراب والغبار يصعدان إلى عنان السماء، فقد كانت هناك دورية لجنود الاحتلال تقترب على طريق المترب.. نظر إليها الجد في توجس.. رفع بسام رأسه وأخذ يحدق في الأفق المدجج بالجنود بغضب، ألقى الزهور جانباً وأوسع الخطى نحوها.. أخذت تقترب رويداً رويداً.. تشنج الجد في كرسيه المتحرك وأخذ ينادي بصوت متحشرج كالفحيح.

- أحمد .. أحـ … مـ…د.

لا زلت جالس أذاكر دروسي وبكاء الطفل وصوت الراديو ونداء خالي في الداخل يشكلون سيموفينة الصباح.. وضعت أمي الطعام وأخذت تتلفت في توجس.

- أين بسام ؟!

- ذهب لقطف الزهور.

- هيا ناده يا أحمد .. حتى لا يبرد الطعام.

جمعت كتبي ووضعتها في الحقيبة ودفعتها تحت المكتب وخرجت من الباب.. سمعت صوت جدي لأول مرة.. كان يصرخ ويشير بأصبعه إلى بسام الذي غدا نقطة بعيدة تتحرك في الأفق نحو الدورية.

عرفت كجدي الخطر المطبق والمقدم عليه أخي، اندفعت إلى الوادي أعدو بكل ما أوتيت من قوة، وأنا أصيح ولكن هيهات.. انحنى بسام والتقط حجر واستعد ليقذف به الدورية.. أصاب الجنود الفزع الشديد.. لعلع الرصاص بأصداء مؤلمة ممزقاً السكون وقذف بأخي كالخرقة على قارعة الطريق وابتعدت الدورية والجنود المذعورين ينظرون إلى الجسد الممدد بلا حراك في رعب شديد.

اقتربت من جسد أخي وحملته، كان قد فارق الحياة ، لم تفارق عيناي نظرة الغضب في عينيه والحجر الصغير بين أصابعه المتقلصة.

* * * * *

جلست أمي وأختي تولولان كالمعتاد واندفعت نحو الشرفة إلى جدي، كان رأسه قد سقط على صدره وقد انقلبت سحنته تماماً وازرق وجهه وبقايا زبد تتساقط من فمه، مات بالسكتة القلبية ولا زال على وجهه آثار السخط على اللعنة التي حلت بالمكان..

تجمع أهل البلدة اللذين أفزعهم صوت الرصاص وحملنا الجثمانين إلى المقبرة.. ومنذ تلك اللحظة عرفت المعنى الحقيقي للقهر الذي يعيشه أهلنا في فلسطين. بعد يومين من الحداد استيقظت مبكراً على صراخ زوجة خالي وبكاء طفلها الذي يصم الآذان.. خرجت من غرفتي لأواجه أبشع منظر تقع عليه عيناي، كانت الدماء تسيل من تحت باب الغرفة الموصد وتغمر الردهة وتتسرب إلى الفناء.. خيل لي أن دماء خالي ستغطي أرض فلسطين كلها.. دفعت الباب بقوة.. كان مستلقي كالنائم ويده متدلية إلى الأرض والدماء تندفع من شرايينه المقطوعة كمياه الصنبور.. "لقد عرف خالي موت بسام وجدي الذي أخفيناه عنه" ويبدو أن زهرة نسيت موس الحلاقة أمس وهي تحلق له بدلاً عن جدي الراحل.. أمي لا زالت في غيبوبتها على فراشها لا تعي شيء منذ موت والدها وبسام"..

هذه أيضاً ثالث جنازة تخرج من بيتنا في أقل من ثلاث أيام.. وأمي وأختي تندبان وتنوحان وأحزانهم التي لا تنتهي في انتظار الضيف.. أما أنا فسأذهب إليه بنفسي!!

* * * * *

كانت الحافلة المكتظة بالركاب تقترب من الحاجر الأمني، نظر أحمد في الجنود واحصاهم "ثمانية عشر جندي، صيد ثمين. لعل من بينهم قاتل شقيقي، تحسس الحزام الناسف تحت ملابسه الرياضية التي لا تثير الشبهات، ابتسم في ظفر، لقد قام المهندس يحيى زميله في الجامعة بعمله بمنتهى الاتقان.. لحظات وتنطلق ألسنة الجحيم ويحيل المكان قاعاً صفصفاً، توقفت السيارة أمام الحاجز واقترب الجنود في حذر.. تمتم أحمد بالشهادتين وقفز من الحافلة وأندفع كالنمر الكاسر بين الجنود..





شجون

كانت السيارة المحملة بالعلف تنساب على الطريق، قادمة من مدينة المنصورية، تنقل المعلم السوداني الجديد إلى قرية السكري، أحمد جالس جوار السائق المرح الذي كان يتحدث في مواضيع متشعبة ويمطر أحمد بالأسئلة، كعادة اليمنيين في التعرف على الغرباء، الشمس قد شارفت على الغروب وأحمد يلاحقها بعينيه المجهدتين.. كانت الرحلة طويلة من صنعاء إلى الحديدة وأكتملت الإجراءات في مكتب التربية بالحديدة وأنه الآن في طريقه إلى القرية والسائق الطيب لازال يتقصى منه المعلومات عن الأمطار في السودان وعن الزراعة والقات، كانت حقول الدخن تغطي الأرض في بساط أخضر داكن يمتد عبر المسافات بين القرى المتناثرة في سهول تهامة، عند مفترق الطرق أوقف الرجل السيارة وأشار لأحمد بأن يتجه في الطريق الذي يمضي شمالاً، لأنه سيذهب شرقاً إلى قريته البعيدة في الاتجاه الآخر، ترجل أحمد من السيارة وودع الرجل الذي رفض أن يأخذ نقوداً، نظر أحمد إلى السيارة وهي تبتعد. وبدأ الظلام يلف المكان بعباءته السوداء والسكون المطبق أيضاً.. ما أجمل الريف، استطاع أن يجلو ويزيل كل آثار الضجيج والتوتر الذي أحدثته حركة الدراجات النارية في الحديدة.. هبت نسمة لطيفة جعلت أعواد الدخن تتمايل طرباً، ملأ أحمد رئتيه من الهواء النقي ثم حمل حقيبته واندفع في الطريق المترب، يوسع الخطى نحو القرية التي يتداعى نباح كلابها من بعيد..

* * * * *

ظل أحمد يسير ساهماً مستغرقاً في أفكاره وذكرياته عندما سمع صوت حركة آدمية لشخص يحصد أعواد الدخن بهمة ونشاط... ولكن في هذا الوقت ؟!. التفت ولمحها.. فتاة جميلة ترفل في ثوب طويل أبيض كأنها فراشة تعمل بجد ونشاط، توقفت الفتاة عن العمل والتفتت كالغزال إلى القادم الجديد دون وجل ثم فتر ثغرها عن ابتسامة طفولية برئية.. كانت هذه الإبتسامات الطفولية المليئة بالدهشة تواجهه في كل مكان، منذ نزوله في مطار صنعاء والحديدة والمنصورية، فأحمد يتمتع بطول خارق للعادة.. إن اليمنيين كالأطفال أو قل كالملائكة لدرجة أنك لا تعرف من أين يأتي الشر والدمار الذي تجده عندما تقرأ في تاريخ هذا البلد.. توقف أحمد في ارتباك والقى تحية خجولة.

- السلام عليك.. أنا أحمد .. المعلم الجديد في مدرسة القرية.

جاء صوتها الرقيق كرن الجرس.

- أهلاً وسهلاً.. تفضل أجلس حتى أفرغ من عملي هذا وأقودك إلى القرية.. إلى بيت مدير المدرسة عثمان..

بان التردد على وجه أحمد ولاحظت الفتاة الذكية ذلك فأردفت.

- لن تستطيع دخول القرية وحدك في هذا الوقت.. ستفترسك الكلاب اجلس حتى أفرغ من عملي.

شعر أحمد كأن هناك قوة قاهرة ترغمه على الجلوس مع هذه الحسناء الساحرة، إنها حتى هذه اللحظة تبدو له كحلم غريب، جلس أحمد عند حافة الطريق وعادت الفتاة إلى عملها، أخذ أحمد يتأملها في إعجاب.

شي ما مس شفاف قلبه فسألها

من أنت ؟!

- أنا أمنة بنت المدير .. مدير المدرسة.

تنفس أحمد الصعداء، إذا هذه الفتاة تعي ما تقول وستقوده إلى بيت والدها.. حدق أحمد في يدها المخضبتين بالحناء النقوش الجميلة وعينيها المدمختين بالكحل وردد في نفسه "لا بد أنها تزوجت حديثاً". أراد أحمد أن يتحقق من ذلك دون أن يجرح شعورها فسألها.

هل تقيمي مع والدك الآن؟ .

توقفت الفتاة عن العمل ولمح أحمد طيف من الحزن على وجهها الجميل وأشارت إلى مكان بعيد عن طيف القرية الجاثم في الأفق الداكن.

- لا … أنا أقيم هناك.

نظر أحمد إلى حيث أشارت بيدها ودقق النظر في الأفق المعتم لعله يرى بين الأشجار طيف عشه أو بيت وردد في نفسه "لا بد أنها تقيم مع زوجها في مكان منفصل عن الأسرة".

* * * * *

انتهت الفتاة من عملها ودعته لمساعدتها في جمع وربط العلف في حزم صغيرة وتسويتها، أسعد ذلك أحمد، أن يقوم بهذا العمل مع ابنة المدير وردد "ليتها لم تتزوج.. ربما كانت من نصيبي كما قالت العرافة في السودان" .. انتهى العمل وتحرك أحمد خلف الفتاة التي تقدمته نحو القرية.. عند أطراف القرية حدث شيء غريب، تجمعت الكلاب في تحد تقطع عليه الطريق وتزوم في شراسة .. أنحنت أمنة وحملت عصا صغيرة أفزعت الكلاب فولت هاربة وتقدم معها يشق طرقات القرية الساكنة، كان بيت المدير في الطرف الأقصى من القرية وعندما وصلا إلى السور المصنوع من أشجار السول نادت آمنة أباها بصوتها المعدني الساحر ثم ضغطت على يد أحمد الحارة.. شعر بقشعريرة لمس يدها الباردة، هذه البرودة التي تحيط بالفتاة أسكتت كل كلاب الشهوة المسعورة التي كانت تعوي في داخله أثناء عمله معها في تشوين* العلف.. سمع أحمد نحنحة المدير ووقع خطواته. التفت ليجدها مبتعدة وغابت في طرقات القرية وعادت الكلاب تنبح في كل أرجاء المكان من جديد.

* * * * *

خرج المدير عثمان وانقض على أحمد يقبله ويدعوه لدخول البيت، دخل أحمد إلى البيت وهو يشعر بألفة عالية، تجمع حوله أبناء المدير وبناته وجاءت زوجته تقدم الشاي، جلس أحمد بين أفراد العائلة يتصفح وجوههم الطيبة ولا زال غارقاً في الدهشة، جلس المدير قباله وبنفس الابتسامة التي تذيب القلوب، ردد متسائلاً.

- كيف عرفت البيت بهذه السهولة ؟!

- دلتني عليه ابنتك آمنة.

صمت الجميع فجأة.. كأنما على رؤوسهم الطير.. قفز المدير من مقعده وجلس جوار أحمد واكتسى وجهه بالحزن والدموع تتلألأ في عينيه الطيبتين.

قلت من يا ابني؟!

- ابنتك آمنة التي تقيم مع زوجها هناك …

أشار أحمد إلى حيث أشارت آمنة.. هطلت الدموع غزيرة من عيني المدير وبدأت زوجته تنوح والأطفال يبكون.. وحملق المدير في وجه أحمد في دهشة يشوبها الحزن وردد في صوته تحنقه العبرات.

- لا يوجد هناك سوى المقبرة.. ابنتي آمنة ماتت قبل شهر من قدومك.. قتلتها الصاعقة.. الله يرحمها ..

صعق أحمد من الدهشة وشرق بالجمع " إذن كلام العرافة في السودان صحيح عندما قالت أني سأصل متأخر" .. إنساب الدمع المر على خديه وهو يسترجع تفاصيل اللحظات الماضية " يا لها من فتاة جميلة، تباً لهذه الغرابة التي تكتنف كل شيء في اليمن !!".


الهوامش:
- التشون: وضع حزم العلف على شكل هرمي.






* * *




صالح العراج * ( نفس إنسانية)

حدثت هذه الأسطورة في ثلاث قرى في وادي تهامة، قرية العطاي، قرية السكري وقرية الجوابي، هذه القرى تشكل مثلث ممتد على كثب الزبرجد تحيط بها حقول الدخن من كل جانب، عن كثب وادي جاحف الذي يعج بالضباع والثعابين والجن وغيرها من الهوام، الماء العذب يحصل عليه سكان القرى الثلاث من المشروع في قرية الجوابي، الماء المالح من آبار محلية في كل قرية، أقرب مدينة " المرواعة" تقع أقصى الشمال على طريق الإسفلت الذي يربط الحديدة بصنعاء، لا ننسى بلدة النخيل التي تقبع عند منتصف الطريق المترب الذي يربط هذه القرى بمدينة المراوعة، بها سوق لكل شيء وكهرباء أيضاً، فيما عدا ذلك فإن البيئة شبه صحراوية تنتشر فيها شجرات السول والهلج والنخيل والدوم.

* * * * *

مع الأنفاس الأولى للصباح، كان الفقيه عثمان يسير ساهماً في الوادي عائداً من مدينة المراوعة قادماً من الأراضي المقدسة إلى قرية السكري بعد أن فاتته سيارة القرية الوحيدة، سمع عواء إنساني طويل يصدر من حفرة بعيدة، إقترب الرجل من مصدر الصوت، واجه الرجل منظر وقف له شعر رأسه، طفل إنساني يجلس مع أولاد الضيعة يلعب معهم إقترب الفقيه من الوجار، هربت الضباع الصغيرة ومد يده إلى الطفل وجمله ونظر إليه، كان بشعاً ويحمل بين فخذيه أعضاء لا تتناسب مع حجمه، لفه الفقيه بالغترة* (الشال). وحمله معه إلى البيت، الرجل له أربع بنات وليس له ولد ذكر يعينه على عمل الزراعة الشاق.. عاش صالح. وكبر في بيت الرجل الطيب أطلق عليه أهل القرية عدة أسماء "صالح الأعجم*، العراج*، الملكد*" أصبح غلاماً صخم الجثة، استطال شعره، وغدى جمة كبيرة، ذات جدائل ذهبية تتدلى على وجهه الدميم له عينين صغيرتين لامعتين وأنف صغير أفطس، وفم غليظ الشفاة وجسد برونزي يكسوه الوبر، فلم يخيب ظن الفقه فيه، كان يجلب الماء العذب من المشروع ويعلف البهائم ويحصد الدخن ويقوم بكل ما يأمره به الفقيه عن طيب خاطر، الكل في قرية السكري يعتقد أنه ولد الضبعة، الخبثاء يقولون " لابد أن يكون ضاجعها جان فولدت هذا الغلام البشع".

* * * * *

الجانب الحقيقي للأسطورة كان في قرية العطاي.. حاج عبدالسلام الرجل الطيب الشجاع والند القوي للعاقل عكيش، افلح في الماضي في إنزال هزيمة ساحقة به بعد أن تزوج من آمنة الجميلة بنت سر التجار، بعد مساجلات ومؤامرات طويلة، اشتد الصراع بينهما ردحاً من الزمن، عندما كانت آمنة زوجة عبد السلام حامل ذهب العاقل إلى بيت سيد في جبال براع وأحضر منه ورقة طرحها في بيتها فولدت ذلك اليوم مسخاً مشوهاً حتى أن القابلة حميدة التي قامت بالتوليد أصابها الفزع الشديد عندما رأت وجهه القبيح وجسده الذي يكسوه الشعر وأعضائه الجنسية المتضخمة، جاءت به والقته في حجر أبيه في مجلس القات* مع عدد من الرجال منهم العاقل نفسه ورددت في قرف وهي امرأة سليطة اللسان يهابها الرجال والنساء على حد السواء "أذكرت اسم الله قبل أن تأتي زوجتك تلك الليلة" انتفض عبدالسلام وبان عليه الغضب الشديد لقولها الفاحش ونظر لقطعة اللحم في حجره في قرف وحزن وقهقهات العاقل تجلجل في المكان وفي المساء حمله إلى الوادي والقاه هناك وعاد بعد أن تعوذ من الشيطان الرجيم..

* * * * *

لم ينس صالح الأعجم أمه الضبعة أبداً، كان كثيراً ما يذهب ليزروها في الوادي، أدركها الكبر، يجلس عند الوجار يلعب مع أولادها، .. في ذات يوم كان يجلس عند الغروب، سمع وقع خطوات متربصة، أختبأ ونظر من بين أغصان شجرة السول ونظر إلى القادم، كان عكيش يحمل مسدساً، كمن للرجل العائد من الوادي يمتطي حماراً، نظر صالح المرعوب إلى المنظر، دوى الرصاص وسقط الرجل من الحمار يتخبط في دمائه، انسحب القاتل إلى سيارته البعيدة وركبها وأنصرف، خرج صالح من مكمنه وأنطلق نحو الرجل المحتضر، كان الرجل عبدالسلام والده الحقيقي، نظر الرجل إلى الوجه الدميم وعرفه رغم طول الأمد، في هذه اللحظات تتجلى الحقيقة الكاملة للإنسان، دمعت عيناه وتقلص وجهه من الألم والندم، أحتضن المخلوق التعس وردد " سامحني يا ولدي.. كان خطأ فادحاً.. أرجوك سامحني" .. عرف صالح والده وإنه ليس ابن العراج كما يقولون أخذ يعوي في حزن عميق، أغمض الرجل عينيه، حمله صالح وسار به طوال الليل حتى وصل المدينة فجراً، في مخفر الشرطة تلبسته الجريمة البشعة، تعرض للضرب المبرح ولم ينقذه منهم إلا الفقيه، الذي افتقده وأخذ يبحث عنه، عرف خبر القتل الذي انتشر في القرى الثلاث، جاء إلى المخفر خلصه من براثنهم، وقيدت الجريمة ضد مجهول، وأصبح الأعجم وحده الذي يعرف القاتل!!

رحل عبد السلام وبدأت مساجلات جديدة بين العاقل عكيش وصالح الأعجم، فطرة صالح الحيوانية الطابع والنقية لا تعرف النفاق والمداهنة، عندما يأتي العاقل لزيارة الفقيه، يهرب صالح ويترك القرية بأكملها، أحياناً يؤم العاقل المصلين يوم الجمعة في مسجد القرية، يترك صالح القرية ويتعلل بجلب الماء العذب أو تعليف الدواب وأشياء أخرى، هذه المنغصات احالت حياة الرجل إلى جحيم جعلته يفكر جدياً في إرتكاب جريمة قتل جديدة، أطلق في أثره أعوانه الأشرار الخميسي بائع القات وحبيش بائع الشمة ولم يفلحا ولكنهما قتلا أمه الضبعة المسنة التي تصدت لهما وذبحا أولادها.. مضت السنين تباعاً، تزوج العاقل من آمنة زوجة عبد السلام وورث بذلك كل الآراضي التي تمكلها وأنجب منها ولدين جميلين..

* * * * *

جاء ينؤ بحمله من العلف، دخل الأعجم إلى البيت ووجد عائشة بنت الفقيه الصغرى تبكي بحرقه، صعق المسكين لا بد أن هناك خطب جلل!! اقترب منها يواسيها، وهو يعرف أنها لا تبكي بسهولة، بل هي الوحيدة التي تعيش حب حقيقي مع حسن ابن المدير في قرية الجوابي، حسن المسؤل عن مشروع المياه، صالح يعرف ذلك ويسعد له كثيراً، كيف كان يلازم عائشة عند الذهاب إلى جلب الماء العذب من المشروع، يراهما يتبدلان نظرات الحب الصامتة واحياناً يجلسا في منتصف الطريق عند شجرة الهلج دون أن يأبها للمخلوق الظريف صالح الجالس على كثب ينظر اليهما في ود.. كان يحبهما معاً، لأنهما يجسدان لوحة جميلة للحب العذري بعيداً عن المبازل التي تعج بها القرى الثلاث، ويعرفها جيداً، من ذا الذي يجهل صالح الملكد*؟!! التي مات عنها زوجها منذ أمد بعيد والتي سافر زوجها وتركها نصف مشتعلة، كان محور حديثهن في مقيلهن وحلهن وترحالهن بمؤهلاته العظيمة وفحولته التي يحسده عليها الكثير من الرجال بما فيهم العاقل نفسه فقد دأب على تحيته بطريقته الخاصة عندما يقابله في مكان منفرداً، بكشف عورته المخيفة!! إجمالاً أنه يعرف الوجه القبيح للحياة في القرى الثلاث.. اقترب صالح من البنت المكلومة ونظر إليها بعينه الصغيرتين، رفعت له وجهاً كالبدر ورددت في أسى "العاقل عكيش يريد أن يتزوجني يا صالح" .. هب صالح كالملسوع وتشنج جسده وعوى بشدة، إندفع إلى داخل الغرفة وعاد يحمل بندقية الفقيه الآلية وانطلق خارجاً والزبد يتطاير منه وعيناه تقدحان شرراً. وقد انقلبت سحنته تماماً، اصطدم بالفقيه عند الباب، أمسك الفقيه بتلابيبه وأنتزع منه السلاح وصفعه بقوه زاعقاً فيه "إلى أين أيها المجنون؟!!" .. انهار صالح عند قدمي الفقيه، وأخذ يهزي، أشار له أن لا يزوج عائشة للعاقل اللئيم أخذ يشرح للفقيه كل الحلول الممكنة ويعدد له شباب القرية المحترمين الجديرين بها بما في ذلك حسن الجميل ولد مدير المشروع في قرية الجوابي والفقيه ساهم، جلس الفقيه على الأرض جوار المسخ الجريح، وربت على ظهره وقال في إنكسار "أعذرني يا بني كلمتي قد خرجت".. أخذ صالح يعوي في أسى ودفن رأسه في الصدر الحنون الطيب ثم رفع رأسه ونظر إلى الفقيه الذي كساه الحزن النبيل وأردف " نحن لسنا مستوى الشر الذي يتمتع به هذا الرجل" بأن الامتعاض العميق على وجه صالح، نهض فجأة وانطلق لا يلوي على شيء، لم تفلح نداءات الفقيه المتوسلة في ثنيه عن عزمه، خرج من البيت ثم القرية كان يسير حاني الرأس منكسر الخاطر " لم يبقى له شيء يخسره في معركته مع هذا الرجل قتل والده في الماضي أمام عينيه.. تزوج من أمه عنوة وأرسل المقوت وبائع الشملة لقتله في الوادي، ولم يفلحا ولكنهما قتلا أمه الثانية الضبعة العجوز وذبح إخوانه من الرضاع، إلا أنه انتقم منهما، افتعل معهما مشاجرة في السوق، قضم نصف أذن المقوت وهشم أسنان بائع الشمة ثم نكل بهما وأذلهما بعد أن أقام علاقات غير مشروعة مع زوجتيهما سمع بها القاصي والداني … ماذا بعد" .. كان يمشي تحت ثقل الأفكار، قادته خطاه إلى قرية الجوابي إلى بيت صديقه حسن دخل إلى العشة التي يرقد فيها الشاب المكلوم ينتفض من الحمى والهذيان بعد أن وقع عليه الخبر كالصاعقة.. جلس صالح عند قدمي الشاب يحملق فيه في ذهول والأفكار الشيطانية تعبث في عقله الضعيف "إن طريقته الفريدة في الإنتقام لا تجدي مع العاقل، زوجات العاقل الثلاث، الكبرى الحاجة نفيسة تعتبره مثل ولدها وهو يجلها كثيراً، والثانية أمه الحقيقة التي أنتزعها العاقل من والده المغدور، الثالثة عائشة بنت الفقيه، العروس الجديدة رمز الجمال التي تعامله دائماً ككائن حي.. إذاً سيقتل الرجل !!" وهذا أيضاً لن يجدي، القتل معناه السجن ويفقد الفقيه ساعده الأيمن القوي. وتذكر ما حدث عندما بلغ عن أبيه، تعرض للضرب المبرح، والسجن الذي كاد يفقده صوابه وقد انتزعه الفقيه من قبضتهم بضمانة كبيرة كلفت كثيراً، باعوا البقرة الحلوب مع عجلها، وعاد إلى البيت مع الفقيه مسخناً بالجراح والكدمات ظل يعتصر عقله الضعيف عسى أن يجود له بفكره طيبة، كان ينظر إلى الشاب المنكود أمامه يهذي من الحمى ويردد أسمها في ألم ممض، أشعل الغضب النار في نفس صالح البسيطة وجاءت الفكرة، ومضت كنجم لاح في الأفق البعيد خلف نتف السحاب الهارية، طفق المسكين يحيك ويلتقط خيوطها الواهية بصعوبة ونهض فجأة وأنقض على حسن يهزه وصرخ فيه، هب حسن جالساً وهو لا يعي ماذا حدث، أشار له صالح " بأن يجهز سيارته عند منتصف الليل وينتظره بها عند شجرة الهلج المعروفة التي شهدت لقاءتهما بين القريتين".. وأنسحب من العشة تاركاً الشاب المسكين غارقاً في الدهشة.

* * * * *

ظل يركض في وهج النار على الرمال الساخنة إلى بلدة النخيل البعيدة، وصلها عصراً وذهب إلى دكان صديقه الحلاق عبده، أشار له بأن يحلق كل الشعر الذي على رأسه فقد كان له جمة كجمة الأسد، مجدولة الضفائر ذهبية اللون، طفق عبده يحلق زهاء الساعة حتى تحول صالح إلى مسخ جديد، مسخ أصلع، خرج صالح وهناك في مطعم صديقه الآخر العزي أخذ يجمع السخام الأسود العالق بالمواقد والأواني ويضعها في كيس نايلون والعزي ينظر إليه في دهشة يشوبها الفزع، حمل صالح الكيس الأسود وانحدر به نحو الوادي، عند الغروب كان هناك، أخذ يعوي تجمعت حوله الضباع من كل حدب وصوب، وأخذ يعفر جسمه البرونزي بالسخام الأسود ويمسح أجساد الضباع التي تزوم حوله، تحول إلى مارد أسود يقود قطيع من الضباع المتوحشة السوداء، عند منتصف الليل جلس بين أشجار السول على حافة الطريق الذي يربط قريتهم بقرية العاقل في إنتظار الحملة *، لم يدم الإنتظار طويلاً سمع هدير السيارات وأهازيج الفرح، أقترب الموكب رويداً رويداً وطلقات الرصاص تصم الأذان، وتملأ السماء بعقود من النجوم المضيئة البنفسجية في اللحظة المناسبة انقض صالح والضباع على الموكب الذي ساده الهرج الفوضي بدأ الناس يتقافزون من السيارات كان آخر ما شاهده الفقيه قبل أن يفقد وعيه يد سوداء تفتح باب السيارة ويد أخرى تنتزع ابنته العروس التي تجلس جواره كأنها خرقة وتندفع بها بين أشجار السول وخلفها أسراب الضباع المتوحشة، صعقت الدهشة الجميع أخذوا يرددون آيات من القرآن..

* * * * *

وصل صالح مكان صاحبه حسن بحمله الثقيل، وجده في إنتظاره على السيارة نظر حسن إلى القادم في ذهول شديد، انزل صالح البنت المغمي عليها ووضعها على المقعد الخلفي ثم اخرج من زناده حزمة نقود دسها في حجر حسن وأشار له بأن مهمته انتهت عليه أن يهرب بها ويتزوجها في أي مكان، بلاد الله واسعة .. انسحب صالح وقطيع الضباع وغاب بين الأشجار وحسن يودعه بعين دامعة وينظر إلى الأوراق النقدية التي تناثرت على أرضية السيارة وردد في نفسه "كيف فعل هذا المخلوق التعس كل ذلك؟!" وانطلقت السيارة مبتعدة تشق الوهاد..

* * * * *

مضت خمس أعوام أو ينيف على هذه الحادثة، أصبح أهل القرى الثلاث في ليلة النصف من شعبان، عندما تهب نسائم الليل والقمر الساحر يجلو الأشياء بأشعته الفضية يسمعون عواء الضباع الذي يأتي من الوادي البعيد، كان من بينها عواء إنساني طويل فيتسامرون عن القصة العجيبة، الجان الذي خطف بنت الفقيه الجميلة عائشة وتأخذ الحكاية ثلاث أبعاد، في قرية العطاي كان العاقل الذي ذهب نصف عقله يغلي ويكاد يتميز من الغيظ، في قرية السكري تنساب الدموع الصامتة في عيني الفقيه الطيب وتردد شفتاه آيات من القران ( لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) .. المسكين فقد ابنه صالح وابنته الجميلة التي تختطفها الجن الذي يضج به المكان، وغدا حزنه حزنين، وفي قرية الجوابي استسلمت قاطمة أم حسن للأقدار بعد أن أنفقت جل مالها وذهبها لدى المشعوذين على امتداد تهامة وجبل براع*، عسى ولعل أن يدلها أحدهم على مكان إبنها الغائب حسن .. أو يكاد.


الهوامش:
- العراج : اسم يطلقه الناس في تهامه على الضبع
- الملكد: يد المدق
- الحملة: زفة العروس
- جبل برع: أحد جبال تهامة.



* * *


إرم ذات العماد

في ذلك الصباح دخل أمين إلى العشة التي يجلس فيها والده يقدم رجل ويؤخر الأخرى، بدأ العام الدراسي وكالمعتاد ستدور أسطوانة كل عام المشروخة وتنتهي نهاية مأساوية.

- أبي !!

- نعم ماذا تريد ؟

- أريد رسوم التسجيل بالمدرسة.

رمقه أبوه شذراً وردد:

- اللعنة على هذه الرسوم.. أفي كل عام؟!

- نعم يا أبي .

- في أي سنة أنت الآن؟

- في السنة الرابعة.

بصق أبوه بصاقاً أخضراً ممزوجاً بوريقات القات ثم سحب نفس طويل من المداعة المشرعة أمامه وكأنها برج إيفل وزاد دخانها الدبق من عتمة المكان وكآبة أمين وأردف في امتعاض.

- يكفي هذا الحد من الدراسة.. أصبحت تقرأ وتكتب الآن..

- لكن يا أبي ليس التعليم أن تقرأ وتكتب فقط.

- ماذا؟! ماذا !!

- التعليم من المهد إلى اللحد.

استشاط أبوه غضباً وانتهزه وطرده من العشة برفسة قوية على قفاه ألقته خارجاً فتعفر وجهه بالتراب ثم زعق فيه وهو يسعل بشدة:

- قليل أدب اذهب وخذ الأغنام إلى المرعى .. هيا!!

نهض أمين في انكسار ونفض التراب عن ملابسه البالية، وذهب إلى الزريبة وأخرج قطيع الأغنام وانحدر به إلى الوادي، هناك تحت شجرة هلج ظليلة جلس في استرخاء يتأمل الغلالة الضبابية الساحرة التي أخذت تغمر الوادي.. فجأة ظهر ضوء شرقي قوي جعل الضباب يكتسي بكل ألوان الطيف، ثم بدأ يظهر طيف مدينة رائعة الجمال ذات قباب فضية وذهبية وأسوار عالية من الحجر الأبيض تطل من أعلاها عقود من الزهور مختلفة الألوان، مدينة خرافية جعلت أمين يقف لها إجلالاً وهي تتماثل أمامه عياناً بياناً، سمع صليل سلاسل وانفتحت البوابة البلورية ودخل إلى المدينة الرائعة.. كانت الناس رائعة الجمال كأنهم ملائكة يسعون على الأرض ولكن كان يخيم عليهم الحزن والبعض منهم يبكي وهم يسيرون في جماعات عليهم ثياب من سندس واستبرق والجنود في حلل خضراء زاهية وقبعات تزينها ريش الطيور الملون يركبون على جياد مطهمة تسير في خيلاء، لمح أحد الجنود أمين ونظر إليه في دهشة وهو يرفل في أسماله البالية، التفت الجندي إلى كوكبة الفرسان حوله وصاح:

- انظروا إلى هذا الغلام البائس إنه يشبه أميرنا الراحل..

تلفت الجميع وتجمهروا على أمين وهم يكفكفون الدمع وينظرون إليه بود وامتنان وأردف جندي آخر: لنأخذه إلى مليكنا الحزين عسى ولعل يتخذه ولداً أويتأسى به.

راقت الفكرة للجميع، تخطفته الجواري ونزعن عنه ثيابه المتسخة وحملنه إلى الينبوع الساحر الذي تنبعث منه الأبخرة الملونة والمعطرة، وغمرته الجواري في الماء وفركن جسده جيداً، تولدت في أمين أحاسيس لا توصف من اللذة والارتياح.. أخرجنه الجواري من الماء وجففنه بمنشفة من القطيفة الفاخرة وضمخنه بالعطور ومشطن شعره وكحلن عينيه ثم ألبسنه حلة بيضاء موشاة بخيط الذهب ثم البرنس الأسود الأميري ووضعن على رأسه عمامة خضراء تزينها زمردة حمراء تتلامع كأنها الشمس ساعة الزوال، ثم جيء بمحفة حمل بها إلى مجلس الملك في البهو السلطاني كمفاجئة سعيدة، وضعوه أمام الملك الحزين الذي صعقه منظر أمين، فاحتضنه في حنو بالغ وأجلسه في حجره، وطفق يناوله ما لذ وطاب من أصناف الطعام أمامه، كان الملك يهذي وهو يربت على ظهر أمين:

- لقد عدت مرة أخرى يا بني، ما أجملك!!

دهش أمين من هذا الشيء العجاب ولكنه بفطنته المعهودة عرف أن هذا الملك الطيب فقد ابن عزيز وسبب موته الحزن له وللمدينة.. سعد لسعادة الملك أهل المدينة إلا الوزير الذي أخفى امتعاضه العميق وراء ابتسامة زائفة، نهض الوزير وأمسك أمين من يده برفق واستأذن الملك في أن يأخذ الأمير الجديد في جولة حول المدينة الساحرة. خرج أمين مع الرجل القبيح في المدينة إلى خارج القصر، وهناك ركبا عربة الوزير الفارهة التي تجرها الصافنات الجياد، وتحركت العربة وسط كوكبة من الفرسان تشق طرقات المدينة كان أمين يتلفت حوله بصورة أدهشت الوزير فردد متسائلاً:-

- هل تبحث عن شيء ما ؟!

- نعم أبحث عن مدرسة، ألا توجد مدارس في المدينة ؟!

بان الامتعاض على وجه الوزير في اقتضاب:

- ما حاجتنا إلى المدارس.. ولدينا المال والجواري والغلمان وكل ما لذ وطاب.. والقات أيضاً!

- فقط المتعة الحسية !! لا تكفي .. أنا أعني الـ …

قاطعه الوزير بجلافه :

- لا حاجة لنا هنا بالتعليم ، هل فهمت ؟!

نظر أمين إلى الوزير في دهشة يشوبها الاحتقار وتذكر نصائح أستاذهم المحبوب البيلي في مدرسة القرية، فتنحى منحى آخر في حديثه سقراطي الطابع، ونظر إلى الوزير متسائلاً:

- كيف مات ابن الملك ؟ !

- مات بالمرض.

- أعني ما نوع أو أعراض المرض الذي مات به الأمير ؟!

دهش الوزير لطبيعة الأسئلة الغريبة التي يسألها الغلام:

- أصابته حمى مصحوبة ببرد وارتعاش، وتعرق غزير لعدة أيام ثم مات ..

- إذاً .. الأمير مات بالملاريا مرض عادي له علاج متوفر هو الكلوركوين، نسبة لعدم التعليم الجيد في مدينتكم لا يوجد أطباء فتفتك بكم الأمراض العادية.

غضب الوزير لجرأة أمين وتطاوله عليه فأمر الجنود بأن يأخذوه، اقترب جنديان من العربة التي تجرها الخيول وسحبا أمين بغلظة من جوار الوزير، دهش أمين وبان عليه الغضب الشديد:

- ماذا جرى، لماذا تفعلون ذلك، أنا كنت أتحدث فقط..

أجابه الوزير بغضب

- الحديث ممنوع في مثل هذه المواضيع !

- اللعنة !! ألا توجد لديكم حرية أيضاً ؟!

- حرية !! هاها يوجد لدينا المال فقط وهو كل شيء.

شعر أمين بالامتعاض الشديد .

- أخرجوني من مدينتكم الملعونة أيها الخنازير.. أنا لا أريد البقاء فيها، أتحسبون هذه حياة!!.

صاح الوزير غاضباً بالجنود :-

- هيا أخرجوه من المدينة، إن وجود مثل هذا الغلام جوار الملك سيؤدي إلى زوال مجدنا.

سحب الجنود أمين إلى البوابة الخارجية، سمع أمين صليل السلاسل الذهبية وانفتحت البوابة البلورية.. جرده الجنود من كل الملابس الفاخرة والمجوهرات التي عليه وألقوه خارج المدينة عارياً وقذفوه بصرة ملابسه القديمة، تعفر وجهه بالتراب، نهض وهو يسب ويلعن وارتدى ملابسه وانصرف دون أن يلتفت وراءه ..

* * * * *

فتح أمين عينيه ببطء شديد، شاهد آخر خيوط أشعة الشمس الواهنة وهي تهوي مصروعة في الغرب وقد بددت أنوارها الدامية المدينة السرابية.. نهض أمين وجمع قطعان الماعز وقفل عائداً إلى القرية، على بعد لمح أمين مدرسته العتيدة بمبانيها البيضاء تقف في شموخ عند أطراف القرية فتذكر موقف والده المخزي في الصباح، دمعت عيناه وأطلق زفرة حارة، ثم ابتسم عندما ومضت فكرة كان قد نسيها في خاطره "لا يهم، أمه الطيبة تخبئ زجاجة من السمن البلدي كل عام لمثل هذه الظروف، غداً سيأخذها إلى سوق الربوع ويبيعها ويعود إلى المدرسة ويسجل اسمه لدى أستاذهم السوداني المحبوب .. البيلي).


هوامش :
- عبد الرحمن البيلي: استاذ سوداني توفي،كان يعمل في ناحية الزيدية، الحديدة- 1999م.







* * *



الكلب

دخلنا مدينة ديزفول في الصباح ، كانت خرائب بعد نزوح أهلها هرباً من القصف المركز الذي قامت به مدفعيتنا طوال الليل .. كنا نحن جنود الفيلق العشرون مشاة والمسئولين عن تامين لمدينة ، بسام صديقي يسير بجواري شاهراً سلاحه ويبدو عليه الشرود ، انتشر بقية الجنود يجوسون بين الخرائب والانقاض ، تفرقنا ثم تجمعنا عند الطرف الشرقي للمدينة وأقمنا معسكرنا ونصبنا الخيام ، انتبهت بأن بسام قد اختفى عني وعاد متأخراً ، دخل وجلس جواري في الخيمة لمحت نتوء غير طبيعي يبرزعلى جانبه حدقت فيه في دهشة نظر الى في ارتباك .

- عمار .. أريد أن أخبرك بشئ .

حدقت فيه ساخرا وكالمعتاد .

- هل رأيت عفريتاً وتبولت على ملابسك .

- ليس كذلك .. أيها الوغد المعيدي *

فك أزرار سترته العسكرية ، أدخل يده الى النتوء في جانبه وأخرج جرو صغير كان يبصبص في سكينة وبدت أضلاعه بارزة ، غمرتني دهشة شديدة .

- ماذا تريد أن تفعل به ؟

- قد يطول مقامنا هنا ، سأتخذه صديقاً بدلاً عنك ونعيم وبشار .

ابتسمت له في دهشة ، بسام من الأسر العريقة والنبيلة في بغداد ، يرجع نسبه الى الشيخ عبدالقادر الجيلاني ، رغم جسده الفارع وجثته الضخمة إلا أنه يحمل قلب عصفور وإنساني لأبعد الحدود ، فأردفت .

- إذاً عليك أن تخبئ هذا الأمر عن قائد الفيلق وبقية الجنود .

- إني أخبرتك فقط لإني أعرفك جيداً لا شأن لي بهم ،سيبقى الكلب معنا في الخيمة ..

أخرج بسام كرتون حليب وعلبة ساردين فارغة ووضع الحليب للجرو الذي أخذ يعب من الحليب بشراهة ، يبدو أنه كان جائعاً جداً استلقى بسام بعد ذلك وراح في سبات عميق وأندس الجرو في صدره ، كانت جلبة الجنود تأتي لنا من بعيد وقد أرخى الليل سدوله وهم يعربدون ويصخبون كالمعتاد .

* * * * *

استمر الحال بيننا الثلاث ، أنا و بسام والكلب الذي استعاد عافيته وكأنما عرف خطورة وضعه وأن ينكشف أمره ، ظل دائماً يختبئ في حاجيات بسام الكثيرة في ركن الخيمة .. وكلما سمع خطوات تقترب من خيمتنا انسل من بين أيدينا واختبأ داخل حقيبة بسام العسكرية .. لكن مع ذلك .. دوام الحال من المحال .. تسربت أنباء الكلب من خيمتنا بواسطة نعيم وبشار الخبثاء وبدأت النكات التي يتفنن فيها زملاؤنا يضبح بها المعسكر وتنفجر الضحكات يومياً في العديد من الخيام ، كل جنود المعسكر يحبون بسام ويجلونه لنسبه الرفيع ورحابة صدره ولتقبله المزاح يطيب خاطر .. يبدو أن قائد الفيلق قد عرف بقصة الكلب وأراد أن يعبر عن شعوره لكن للأسف كانت مزحة ثقيلة أضحت نقطة تحول في حياة بسام .

في ليلة مقمرة والريح تسفع الوجوه ، خرج قائد الفيلق من خيمته مخموراً وصاح فينا بأن نجتمع ، تسلل الجنود من خيامهم مذعورين .. حدق قائد الفيلق فينا بعينيه المحمرتين ثم استقر بصره على بسام .

- بسام .. يقال أنك تأوي خائن في خيمتك .

ضج الجنود بالضحك لهذه المزحة من القائد الذي أردف مستديراً نحو الجنود :

- هيا أحضروا هذا الجاسوس !!

اندفع نعيم وبشار الى داخل خيمتنا جاءوا يحملون الكلب ووضعوه في وسط الحلقة وكان الكلب المذعور يدور حول نفسه وذيله بين رجليه ، اندفع نحو بسام المرتبك صاح قائد الفيلق .

- ملازم بسام !! أعدم هذا الخائن ! .

صمت الجميع فجأة كأن على رؤوسهم الطير ، صعق الجميع لم يتوقعوا أن تصل المزحة الى هذا الحد .

- هيا أعدمه ألا تسمع .!!

خيم الحزن على الجميع وكأنما عرف الكب مصيره المحتوم ، اندفع بعيداً عن صديقه وجلس يدور حول نفسه في جزع ويطلق عواء حزين ، صرخ القائد للمرة الثالثة .

- اقتله .. اقتله .

وانتزع مسدسه وصوبه نحو بسام .. انتبه بسام من شروده وأخرج مسدسه وبيد مرتجفة وجهه نحو الكلب .. ثم تخطاه وسط همهمات الجنود ، كنت أنظر الى وجه بسام الطفولي وقد انقلبت سحنته تماماً وبقية الجنود يحدقون في الكلب في إشفاق ، تخطت يد بسام الكلب ورأيتها تتجه نحو ..!

- " يا إلهي ماذا يريد أن يفعل ؟! "

صحت فيه

- بسام !!

تراجعت يده مرة أخرى ، وأطلق النار ، عوى الكلب في ألم ممض واستدار حول نفسه وسقط مضرجاً في دمائه ، ألقى بسام المسدس جانباً تقدم في تثاقل نحو صديقه المغدور وركع جواره في إنكسار ، تفرق الجنود الى خيامهم وعاد القائد الى خيمته وهو يقهقه وصدى ضحكاته تجلجل في المكان ، جلست جوار بسام وأخرجت سكيني وحفرت قبر للكلب ودفنته ثم انهضت بسام من يده وعدنا الى الخيمة ، استلقى بسام على فراشه ودفن وجهه بين ساعديه ، جلست جواره استدار نحوي وعيناه مشربتان بالدمع وقد كسى وجهه الحزن النبيل .

- بسام .. لن أقول لك لا تحزن إنه مجرد كلب .. ولكن ..

أجهش في بكاء مرير .

- كنت أريد أن أعود الى بغداد .. دون أن أقتل أحد .

- عزيزي لا يمكننا أن نأخذ الكلب معنا الى هناك ، كما لا يمكننا أن نتركه يموت جوعاً ، إن ما فعلته يسمونه في الغرب قتل الرحمة .

- لا تقل ذلك يا عمار .. إن هذه المخلوقات لها خالق وهو الكفيل برزقها .. لعنة الله عليهم الخبثاء نعيم وبشار ، هم الذين أوعزوا للقائد بذلك .

* * * * *

في الصباح كان كل شئ قد تغير ، انتشر الجنود وهم لا يطيقون النظر الى بسام وابتعد أصدقاؤنا عنا وتتابعت الأيام ثقيلة وبسام غارق في صمته المخيف ، ومرت الأيام تباعاً وانتهت مهمتنا في المدينة وعدنا الى العراق .. وتفرقنا بعد أن وضعت الحرب أوزارها .. ذهبت الى مدينتي القادسية ، بعد فترة وصلتني رسالة من صديقنا نعيم من بغداد .. أخبرني بأن صديقنا بسام قد تدهورت حالته تماماً ، أصبح يجمع الكلاب الضالة ويطعمها في بيتهم العامر ثم يستدرجها ويحملها بالسيارة الى ضواحي بغداد ويطلق عليها النار .



* * *



سوق الأثنين *

جلس أمام الفندق يتأمل السيارات التي يكسوها الغبار، كانوا يتحركون كالنحل ويعدون السيارة للرحلة الطويلة، تعالى آذان العصر من مسجد في الجوار، ظل يتأملهم في شغف، أهله الشجعان كالنسور، لا أحد منهم يكترث له، حتى عبدالله صديق المرحوم والده لم يعرفه عندما حياه ووضع حقيبته جواره، عبد الله رجل مرح لا تفارق البسمة شفتيه أبداً، رجل بلا أعداء، جاء في الزمن الغابر من لواء إب، استقر في سوق الاثنين مع عائلته الصغيرة، كان صديق والده الحميم رغم الاختلاف الحاد بينهما، دمعت عينا صالح عندما طاف في خاطره المجهد ذكرى عشر سنوات مضت وصدى الكلمات المرة التي رددها والده على مسامعه عندما عادوا من المقابر بعد دفن شقيقه غيلان.

- ليتك مت أنت !!

والده يحب غيلان بصورة استثنائية، كان يدرس الطب في جامعة صنعاء، طفق صالح يتأملهم بعينيه الدامعتين والنظارة السوداء تخفي الكثير من ملامحه، بعد عشر سنوات من الاغتراب في السعودية تغيرت أشياء كثيرة، لقد خرج غلام ناحل وعاد رجل ممتلئ الجسم تغطي وجهه لحية كثيفة ويرتدي ثوب ناصع البياض، أنه بصعوبة يحاول التعرف على هؤلاء المسافرين وأطفالهم، كانت الرسائل التي ترد إليه من والدته وتكتبها بنت خاله صادق لا تشفي الغليل.

* * * * *

قام عبد الله بتجهيز السيارة وتحميل البضاعة وحقائب المسافرين ثم صاح فيهم يأمرهم بالركوب، نهض صالح في تثاقل وجلس جوار السائق، ركب بقية المسافرين، دار محرك السيارة واستدارت مبتعدة تشق شوارع صنعاء المزدحمة، أغمض عينيه وغرق في بحر من الذكريات، كان يضمن سلفاً أنه سيعرف الكثير من الأحداث التي أغفلتها الرسائل خلال أحاديثهم في السيارة، وهم يمضغون القات والوقت أيضاً، لم يكترثوا له لإنهم اعتادوا زيارة الغرباء إلى خاله الطيب صادق، فقد عاش جل عمره في السعودية ثم عاد وأحيا أرضه وبنى بيته الذي يقع غرب سوق الاثنين.. ظل الجدل دائر في السيارة وهي منطلقة تتلوى بين الجبال في الطريق الثعباني الطويل..

- لقد أطلقوا بالأمس النار على سيارة حميد.

- مات إبنه معاذ.

- تماماً .. بنفس الطريقة التي مات بها غيلان بن تركي !!.

الحادث المؤلم الذي كان نقطة تحول في حياة أبيه، عندما كانوا عائدين بسيارتهم من صنعاء ومعه شقيقه غيلان، كمن لهم الغرماء خارج السوق وأطلقوا عليهم النار، مات غيلان على الفور، قفز صالح ووالده من السيارة وتبادلا إطلاق النار معهم، قتل ثلاثة وانسحب الباقون، عادوا إلى المنزل وأبوه يحصد الإرم، وبعد الدفن صباحاً افتعل والده مشاجرة معه فترك البيت وهرب، أخذت أمه شقيقته وتركته أيضاً وذهبت لتقيم مع شقيقها صادق الذي يناصب أبيه العداء.. ثم جاء جماعة الدعوى والتبليغ إلى مسجد البلدة، فانضم إليهم وأخذ يتجول معهم في ربوع اليمن ثم سافر إلى باكستان ومات ودفن هناك.

* * * * *

بعد مسيرة مضنية، أظلمت الدنيا وانعطفت السيارة مبتعدة عن الطريق الاسفلتي الذي يشق مدينة الحزم، وانطلقت تطوي الوهاد في طريقها إلى الجوف العالي، بدأ الركاب ينزلون في قراهم المتناثرة هنا وهناك، وعبد الله المرح يساعدهم في إنزال بضاعتهم وحقائبهم بهمة ونشاط.. أخيراً وصلت السيارة سوق الاثنين وتوقفت هناك أخذ صالح يتأمل قومه يجوسون في السوق تحت أضواء النيون وتمتد ظلالهم طويلة مخيفة مدججين بالأسلحة يسيرون في جماعات يتأملون بعيونهم الحذرة كل قادم جديد، نزلت العائلة المتبقية في السيارة بأطفالها، بقي صالح فقط مع السائق، همس صالح في إذن عبدالله حتى لا يتسرب الكلام إلى أحد غرماء أبيه وتدور الدائرة الشريرة.

- عم عبد الله !! أنا صالح ابن المرحوم تركي.

شهق عبد الله من دهشة واحتضن صالح والدمع يطفر من عينيه.

- سبحان الله .. لقد تغيرت كثيراً.

- نعم يا عمي، عشر سنوات تغير الحديد نفسه، أرجوك أوصلني إلى دار خالي صادق.

- طبعاً .. طبعاً.

أدار عبد الله السيارة وابتعد عن سوق الاثنين غربا، كان يهذي من الفرح.

- الحمد لله على سلامتك ياابني، لقد ظل الراحل يذكرك كثيراً بعد أن جاءه الأبصار.

- الله يرحمه، ليته ظل على قيد الحياة حتى يسامحني.

- إن والدك الذي كنت تعرفه قد تغير تماماً، في يوم سفره خطب في الناس بعد صلاة الجمعة وتصالح مع كل أعدائه وسافر مع الجماعة الى باكستان ولم يعد..

توقفت السيارة أمام المنزل، ترجل منها صالح وودع عبد الله بحرارة، وكأنما تذكر عبد الله أمراً ما فنادى على صالح.

- يا صالح ، يا صالح.

قفل صالح عائداً.

- نعم يا عمي.

- تذكرت شيئاً، كان والدك قد أوصاني إذا عدت أن تقابل صديقه العقيد عبدالسلام في صنعاء.

تنهد صالح في أسى، كان يعرف العقيد عبدالسلام، حارب مع والده لفك حصار السبعين عن صنعاء، وقد نذرا إن طال بهما العمر أن يتصاهرا، وقد كان والده يزمع تزويج غيلان بابنه الرجل التي تدرسه معه في الجامعة، ويتزوج فتحي ابن الرجل من شقيقتهم الوحيدة سعاد.

- نعم . نعم. إن شاء الله، أرجو أن تأتي ومعك أصدقاء أبي يوم الجمعة القادم..

استدار عبد الله بالسيارة مبتعداً في طريق العودة، تخطى بصعوبة العرم فقد أعشى عينيه ضوء سيارة مسرعة قادمة في الاتجاه المعاكس..

حمل صالح حقيبته وانطلق يمشي متعثراً نحو البيت الجاثم كالطود بين الأشجار وفي نفسه تتردد أصداء مؤلمة " لماذا أنت هكذا يا أبي ؟! فقد نويت الزواج من ابنة خالي صادق، الذي كنت تكرهه دون أسباب، وسأخذ أمي وشقيقتي ونقيم في صنعاء، لقد اشتريت بيتاً في مذبح".

- لا بأس .. لا بأس.. اليوم خمر وغداً أمر.

اقترب صالح من البيت بخطى وئيدة وسيمفونية الليل المرعبة تعزف أوتارها الريح مع نعيب البوم وأزيز سيارة مسرعة.. دوى الرصاص، ارتفع نباح الكلاب في كل الأرجاء، طارت طيور الظلام تتخبط بأجنحتها السوداء، مزق الرصاص السكون في مكان اعتاد الصمت الطويل..

* * * * *

هب كل من المنزل مذعورين، صرخت أم صالح وأخذت تلطم وجهها في بكاء مرير.

- لقد عاد ابني صالح !! .


هوامش :
* مدينة في محافظة الجوف باليمن.

* * *



قلوب من ذهب

كان يسير متعثراً على الساحل تحت وطأة الأحزان التي ينوء بها كاهله يحمل كاميرا كانون، آخر ما تبقى معه من هدايا الأمير الطيب.. لقد كانت تجربة قاسية أجهضت كل السعادة التي كان ينعم بها في كنف الأمير مع زوجته زاهية وأبناءه الثلاثة.. أجتر ذكرياته المرة منذ ثلاثة أعوام عندما بدأت أزمة الخليج تطل بوجهها القبيح.. كان صالح يعمل في مزرعة الأمير منذ طفولته البعيدة. تعلق به الأمير وجعله كإبنه، رنت كلمات الأمير الحزين لفراق صالح في إذنه " يا صلح أنت كابني تماماً، لقد أصبحت جزء من عائلتي، أبقى معي، سأكفلك أنت وأسرتك، كما أن زوجتك تنتظر مولوداً جديداً في أي لحظة.. لا مكنك الرحيل الآن".

آنذاك تمسك صالح بالسفر.. كان يشعر أن هناك ألف حبل يشده جنوباً وليته تأخر قليلاً.. أدرك زوجته المخاض في مدينة حرض*، وماتت في المستشفى بتعسر الولادة ثم قذفت مولودها الميت إلى العالم.. اكتست كل الدنيا باللون الرمادي أمام عيني صالح اللتين غمرهما الدمع الغزير.. "زاهية!! زوجته الوفية التي سافر مخصوصاً إلى قريته قبل عشر أعوام وتزوجها وعاد بها" ، كل الأحزان تجمعت وتكثفت في نفسه، فهو لم ينلها بالساهل في غمرة المشاكل التي تكتنف قريته وجعلته يتركها صغيراً.. دفنها في مقابر المدينة وانحدر مع أبناءه إلى الحديدة.. عند الساحل بني كوخه الصغير من الأحجار وقطع الكرتون، ظلت هذه الذكريات المريرة تطوف بخاطر صالح وهو يسير بحذاء الساحل حيث كانت الأمواج تصطخب خيل له أنه لمح جناح طائر يصارع الأمواج مشارفاً على الغرق.. أيقظ ذلك الصراع المرير من أجل الحياة النزعة الإنسانية في قلبه الذهبي ونفسه الطيبه، ترك الكاميرا جانباً واندفع يصارع الأمواج وأمسك بالطائر المبتل وعاد يحمله في حنو بالغ إلى الساحل.. كانت أنثى صقر جميلة وزاهية الألوان تعاني من جروح طفيفة في إحدى جناحيها، نظر صالح إلى الطائر البديع وومضت في ذهنه فكرة "لماذا لا يوظف هذا الطائر الجميل والكاميرا في التصوير بدلاً من أن يبيع الكاميرا في سوق الحراج بثمن بخس".؟!

صالح يحب فن التصوير كعادة أصحاب القلوب الذهبية المسكونة بالحب والجمال.. عاد إلى الكوخ يحمل الطائر الجريح، فرح الأطفال فرحاً شديداً بوجود الطائر بينهم.. خرج صالح إلى مكتب الإسكان فقد منحه المحافظ أرضية في حارة المغتربين واليوم سيستلم أوراق الملكية من المكتب.

* * * * *

عند الغروب جاء صالح إلى الكوخ منهكاً وجلس بين أولاده يحمل المستندات، يبدو أن السعادة تعهدتهم أخيراً، فقط ينقصه المبلغ اللازم للبناء والتسوير.. استلقى في إعياء وأغمض عينيه واستسلم للنوم العميق تاركاً أولاده يأكلون وجبة العشاء الذي أحضره لهم ويطعمون أنثى الصقر.. عندما بزغ القمر ليلاً، استحال البحر الساكن إلى مرأة من لجين، عكست الأنوار الساحرة وألقت بظلالها داخل الكوخ السعيد، طارت أنثى الصقر حول الأطفال النائمين وايقظتهم واحداً تلو الآخر بنقرات خفيفة من منقارها، استيقظ الأطفال في دهشة، نظرت إليهم في حنان وأخذت تحكي لهم، صعق الأطفال من الدهشة.. كانت نفس حكايات أمهم زاهية التي تحكيها في الماضي، قصص سيف بن ذي يزن، النبي سليمان وبلقيس ملكة سبأ.

رددت في نفسها " المساكين !! لا يعرفون بأني أمهم زاهية" .

- أنا أمكم زاهية، لقد عدت لأجلكم.

صاح الأولاد مبهورين.

- أمنا زاهية !!

- اطلقوا سراحي الآن .. سأسافر إلى الأمير.

قام الولد الأكبر بإطلاق القيد من رجلها، طارت وحطت عند رأس زوجها النائم، ومسحت بمنقارها ذقنه النابت في حنو بالغ ثم خرجت من الباب وطارت في الفضاء الرحيب، دارت دورتين حول الساحل وعلى ضوء القمر الساحر شاهدها الأطفال تنساب شمالاً وعادوا ليناموا سعداء.

* * * * *

استيقظ صالح مبكراً، تلفت حوله إلى حيث كان الطائر لم يجده عند طرف الخيط، أوقظ أولاده بغلظه وقد اكتسى وجهه بالغضب كان ينوي الذهاب إلى الكورنيش ليبدأ التصوير وجمع المال اللازم للبناء والتسوير، نهض الأطفال ينظرون إلى أبيهم الغاضب في ذعر ممزوج بالذنب، زعق فيهم.

- أين ذهب الطائر ؟

- لقد أطلقناها يا أبي.

- لماذا أطلقتوها يا ملاعين ؟!!

- لأنها قالت ستعود.

- من التي ستعود ؟!

زاهية يا أبي.

- ز..اهـ..ية !! أمكم.

خنقته العبارات وانفجر باكياً، فحلق الأطفال ينظرون إليه في آسى.

- نعم يا أبي .. إنها قالت ستعود.

- أمكم ماتت يا أولادي .. الله يرحمها.

- لم تمت يا أبي .. لقد حكت لنا كل القصص الجميلة التي نحبها.

انهار صالح وأخذ يبكي بحرقة وقد تشنج جسده، ألتصق الأطفال بأبيهم وقد أكتست عيونهم البريئة بالذهول.

- لماذا تبكي يا أبي ؟!

- لا أدري !! هيجتم أشجاني.

- لا تبكي يا أبي .. ستعود ؟!

- من التي ستعود ؟!

- زاهية يا أبي.

تنهد صالح بحرقة وضم أولاده بشدة إلى قلبه المصنوع من الذهب، ذلك المعدن النفيس الذي لا يصدأ أبداً، ثم سكنت أنفاسه أخيراً.


هوامش:
- حرض: مدينة على الحدود بين اليمن والسعودية.



* * *



صاحب القلب المكسور

جلس كريم* الأستاذ والشاعر العراقي على صخرته المعهودة عند الساحل، يشهد مصرع الشمس وانتحارها بالسقوط المدوي على بحر القلزم..

اليوم هو حزين جداً، جاءته بالبريد رسالة كئيبة من زوجته وأطفاله العالقين في بغداد.. أيضاً تصفح الصباح صحيفة (القدس العربي)، ورأى صور الأطفال الذين يموتون كالذباب..

إن له قلب شاعر، قلب من زجاج ينوء باحزان بلده، قرأ أن (أمريكا) المجنونة تزمع استئناف قصفها للمدن الحزينة المتشحة بالسواد.. كل هذه الأشياء تكثفت في خاطره المجهد.. مر به جنود الدورية الطيبين مرورهم المعتاد بسيارتهم المعهودة.. حيوه من بعيد، فقد اعتادوا جلوسه المزمن منذ سنين على الصخرة، صخرة (كريم) كما كان يسميها.. اليوم يحمل كراسة الشعر خاصته، كراسة مدرسية عادية على غلافها طفل يقبل طفلة في وهج طفولي، جعلته يختار هذه الكراسة بالذات من ضمن الكراسات التي عرضها عليه البائع في مكتبة 26 سبتمبر* وذلك من فرط حنينه لأطفاله الذين كلمه البعد عنهم، اليوم سيكمل ديوان بآخر قصيدة ينزف فيها مشاعره الجياشة.. ماذا يسميها يا ترى؟! هل يسميها (البحر).. كان دائماً يقرأ قصائده للبحر ..

الشمس قد غرقت الآن.. حدق (كريم) في الأفق الدامي بعينين دامعتين وردد مخاطباً صديقه البحر وقد طافت بمخيلته قصيدة (الطلاسم)* لإيليا أبو ماضي.

قد سألت البحر يوماً ..
هل أنا يا بحر منك ؟! ..
أم صحيح ما رواه ..
بعضهم عني وعنك..
أم ترى ما زعموه..
كذب وبهتان وإفك..

اصطخبت الأمواج وجاءه صوتها المشحون بالغواية:

- نعم أنت مني أيها الحبيب تعال إلى كي أضمك.. تعال إلي، إن في أعماقي مدينتك الفاضلة (اتلانتس) التي كنت تبحث عنها طويلاً، مدينة الفرح المقيم والحزن العابر وليس كما تظن أنت في أشعارك الجميلة التي تكتبها ولا يقرأها أحد سوى صديقك السوداني المخبول.

ترددت هذه الأصوات برنين مغناطيسي جعله يترك كراسته جانباً والقلم، خلع نعليه واندفع نحو الأمواج، شعر بمداعبة الموج لقدميه العاريتين، كانت لها لذة عجيبة اجتاحت كيانه وظل يوغل في التقدم والماء الحاني يتلمس جسده في وداعة حميمة، وهو يواصل زحفه داخلاً والأمواج تتصايح خوله في غنجها العجيب:

- أووه.. يا (كريم)، كم انتظرتك سنين وأنت تجلس على تلك الصخرة اللعينة التي لم تفلح كل محاولاتي لتفتيتها أو تدميرها .. تقدم تقدم يا حبيب، إن حورية البحر* تنتظرك، إنها الحرية المطلقة التي انتظرتها طويلاً.

غاب (كريم) في الماء وطوته زرقة البحر وعم الهدوء المكان الذي نغصته صيحات نائحة لنوارس عابرة جنوباً، وعاد البحر إلى صمته المريب بعد أن ارتكب فعلته الشنعاء، وكفت الأمواج، عرائس البحر الغواني عن ثرثرتها العجيبة، والمدينة الحالمة نائمة مثل طفلة صغيرة في احضان أمها الرؤوم..

جاءت نسمات الليل العليلة وحملت الكراسة ودفعت بها إلى الطريق الإسفلتي الممتد بحذاء الساحل في مدينة الحديدة، وأخذت الرياح الخفيفة تقلب صفحات الديوان وانحنت مصابيح الطريق إجلالاً وشخصت بعيونها المتوهجة في صفحات الديوان وكلمات الشاعر المسكونة بالحزن والضياع..

تداعيات مريرة من الماضي المثقل بالأحزان..

الأقرباء والأصدقاء الذين طواهم الموت في حروب ليس لها معنى …

الزوجة والأطفال خلف الأفق البعيد …

النفس الأمارة بالسوء …

مكابدات شركاء الهم والغربة السودانيون…

وأشياء أخرى !! ..

وعسعس الليل، وحزنت السماء وذرفت دموعها الغزيرة لرحيل (كريم)... طمست الأمطار الكلمات والمداد ودفن الديوان تحت الأوحال والطين…والمدينة ما زالت نائمة تغط في سباتها العميق.. يا للأسف الشديد..

عندما يمر جنود الدورية غداً، لن يجدوا صديقهم الشاعر (كريم) ليلقوا عليه تحية المساء المعتادة ..

لقد رحل صاحب القلب المكسور..

رحل إلى أتلانتس ..

مدينة الحقيقة والجمال .

مدينة الفرح المقيم والحزن العابر..


الهوامش :
شاعر ومعلم عراقي يعيش في اليمن.
مكتبة في مدينة الحديدة في شارع صنعاء.
شاعر لبناني من كبار شعراء المهجر في (أمريكا) له دواوين كثيرة منها (الجداول والخمائل).
كائن اسطوري نصفه الأسفل سمكه والعلوي امرأة.

* * *



الإمام الأخضر

في مدينة يسكنها الضجر .. أيقظته شمس الصباح المحرقة ، تكور حول نفسه وسحب رجليه إلى الداخل .. إلى أقصى نقطة يسمح بها الظل المتآكل .. باءت جهوده بالفشل وامتدت الأشعة اللاسعة تصليه بشواظ من النار ..

نهض في تثاقل إلى الظل المقابل ، إلى المتجر الآخر .. كان إيقاع الأقدام حوله تعزف سيموفنيتها المعتادة وهي ترتطم بأرضية الرصيف الصلبة .

الطلاب في طريقهم إلى المدارس …

الموظفون في طريقهم إلى العمل .


* * *


الطاعون

- لا تذهب اليوم إلى العمل يا أبي .

- لماذا يا بني ؟!

- رأتك دنيا في المنام وأنت تحمل خبزاً على رأسك تأكل منه الطير.

نظر ضابط الدرك أحمد إلى ابنته التي تجلس عن كثب وترك ابنه خالد يرتدي قميصه بنفسه واتجه نحو ابنته الحزينة.

- ألا تريدين الذهاب إلى المدرسة يا دينا ؟!

- سنذهب نحن إلى المدرسة، فقط أبقى أنت في البيت.

شعر أحمد بالحزن الغامر، أن طفليه هما ما تبقى له ليتعلق بأهداب الحياة، نظر في حنق إلى الغرفة التي يرتفع منها غطيط امرأة نائمة، تزوجها منذ عام نزولاً عند رغبة والده.. كان يعرف انها تقسو على طفليه كثيراً، طفليه المنكودين!! ماتت أمهما بالسرطان، منذ عام تقريباً، تركت في نفسه جروحاً عميقة جعلت الموت عنده فكرة مؤجلة.. لأجل خاطر الأطفال يقوم بدور الأب والأم، فلتأخذ ماله وجسده أما روحه فلا. كان زواجاً فاشلاً بمعنى الكلمة إرضاء للأب فقط، جاهد أحمد الابتسام وردد بلهجة مرحة تشوبها المرارة:

- هيا يا أولاد. قد أزفت ساعة الرحيل.

خرج ثلاثتهم في تثاقل، ركبوا السيارة إلى المدرسة، أنزلهما عند باب المدرسة طبع الطفلان قبلاتهم المعتادة على جبين والدهما وودعاه بحرارة غير معتادة دارت السيارة مبتعدة وغابت عند المنعطف.

* * * * *

انتهى اليوم الدراسي وخرج التلاميذ إلى الطريق أمامهم المدرسة بإنتظار ذويهم، جلس خالد ودينا والزمن يمضي ولا تظهر السيارة البيضاء الحبيبة.. فجأة سمعا دوي طلقات رصاص نارية ليس ببعيد. نهض الطفلان وأخذا يركضان مع جموع المواطنين، عند المنعطف شاهدا أعداداً من الناس تتجمهر صوب سيارة مهشمة تقف على كثب وجسد ممدد عند جدار مسجد في الجوار، اندفع خالد ودينا نحو مكان الحادث وطفقا يدفعان الناس بأيديهما الصغيرة حتى وصل مكان الجثة، شاهداه ممدداً تغطي دماؤه كل شيء، فقد هشم الرصاص نصف وجهه، نظر الطفلان في فزع إلى أبيهما الجميل، يبدو أنه تألم كثيراً وهو يزحف من السيارة المحترقة إلى سور المسجد، أنقض الطفلان على الجسد المسجى ينتحبان بحرقة، كان هناك العديد من الوجوه المتكلسة التي تجمعت ثم تفرقت، فقد أعتادوا رؤية مثل هذه النوع من الطاعون، جلست دينا عند الحذاء العسكري تفك الأربعة وجلس خالد عند الرأس الدامي يمسد شعر أبيه الملوث وردد.

- إذا أردت يا أبي أن تنام هكذا على قارعة الطريق، فلا حاجة لنا بالذهاب إلى المنزل .

تمدد الطفلان جوار ابيهما وناما .. ان ا لأطفال وحدهم الذين لا يعرفون لماذا يموت رجلاً طيباً كهذا.. في شوارع الجزائر ؟!!



* * *



الطاغية والحكيم

وقف الحكيم المصفد بالأغلال وردد في شجاعة :
- متى ترحل يا سيادة الحاكم ؟
استشاط السلطان غضباً ونظر إلى الحرس :
- خذوه واقتلوه .
رد الحكيم دون وجل :
- بعد قتلي .. هل سترحل يا سيادة الحاكم ؟
انفشأ غضب الحاكم فجأة وبان عليه التفكير العميق ..
- دعوه .
- ماذا تريد أن تفعل به ؟
- سأعذبه عذاباً لم أعذبه أحد من قبل .
ردد رئيس الحرس :
- ماذا ستفعل به ؟
- سوف أضعه بين أناس يجهلون قدره .
… وقد كان



* * *





أخيرا ...


جملة قصصنا من كتاب


http://www.ofouq.com/today/library/alemam.jpg

الإمام الأخضر ... عادل محمود أحمد الأمين

http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=Encyclopedia&op=xxxxxxx&tid=6



http://www.ofouq.com/today/images/pics/writers/adel-alameen.jpg

عادل محمود أحمد الأمين

كاتب وقاص سوداني مقيم في اليمن .

من مواليد مدينة عطبره 1961 فى السودان ، درس في عطبره ، بربر ، الدامر ، شندي ، الدويم .

خريج كلية العلوم ، جامعة الخرطوم .

عمل مدرسا بالتعليم الفنى في كريمة ، أم درمان في السودان .

ارتحل إلي اليمن وعمل بالتربية اليمنية .


المتسولون في طريقهم إلى لا مكان …

الجنود بأحذيتهم الثقيلة .. ودوي الدراجات النارية ونفير السيارات يصم الآذان .. استلقى مرة أخرى ونام ، نهض عندما تعالى أذان العصر .. ألقى له أحدهم بحزمة قات ..

اتكأ على الحجر العتيد يمضغ وريقات القات الخضراء اليانعة ويمارس طقوس الرحيل عبر المدن السرابية . أظلمت المدينة .. غرقت في الكآبة .. انطمست معالم الأشياء وعم الهدوء اللزج المكان .. نهض إلى الظل المقابل المعتاد ونام ..

في المدينة التي يسكنها الضجر .. أيقظته شمس الصباح المحرقة ..




تجد هنا (http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=xxxxxxx&pa=showpage&pid=4)مكتبة متكاملة من القصص القصيرة في الأدب العربي