المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فم الصحراء الناده ... زيد الشهيد


نوره عبدالرحمن "سما"
06-07-2010, 03:39 PM
فم الصحراء الناده ... زيد الشهيد


http://www.ofouq.com/today/library/zaid.jpg



القسم الأول

(1)فم الصحراء الناده


خلافاً لعديد المفاجآت المتوارية خلف كثيبٍ مهمل أو تحت أجمَّة ظليلة تحركت - تاركةً ناقاتها يسرحن - منسلخةً من صفوة الفتيات اللائي يقاربنها الأحاديث .. دافقات بالشدهِ رُحنَ يستفهمنها فلا تجيب " لا يفقهن سرَّ النداء الهاتف في المدى الوسيع / المحيط لرؤاها ورؤيتها حيثُ العين تطيرُ وتحطُّ عند البئر الماثلة هناك ، متوَّجةً بصفيف الأحجار الناحتة فماً فاغراً باتجاه بياض السماء ، تبثُّ نداءات متوالية / ضاربة في سحيقٍ زمني .. هذه النداءات لا يسمعها سوى أولئك المزحومون بالأحلام / الموبوؤن بالرحيل عبر عراءات شسيعة بهيئة أمنيات ( تحكي مرور سيدة الحقبة العبّاسية النيّرة ؛ " زبيدة " بخبائها ووصيفاتها وحرّاسها ، وأدلاّئها ودهشها العميم وهي تبصر المدى خلاءً رملياً يعدو متهافتاً ، مقضوماً بدكنة الأفق المديد .) . نأياً عن صهد الأرض الرخوة ، وفحيح الهجير المستبيح استطالات النهار الصحراوي ارتأى المصاحبون خلق ما يُبعد الإمرأة المُهابة عن نواجذ السموم اللاهبة ، ورشق الرمال الضاربة ذرّاتها بناريةٍ لسيعة ، فصرّحوا : " لا نجد ذلك إلاّ أخدوداً في جوف البئر ." ..
تحركت والجديلتان تمسّان بذؤاباتها انحدار الجذع نزولاً إلى الخصر اللميم ، باعثاً حفيفاً متواتراً بتوازن تقلُّ سورات زمنه فتبوح بثقل الخطو كلّما اقتربت من بؤرة النداء / البئر .. أطلّت تتبصَّر انتهاء المسار الغائر عمقاً .. أغراها امتداد الحبل الوالج إلى المتاهة القصيّة / إلى اليم العتيم .. تمتمتْ بدفين السؤال : أحقّاً ما قيل ؟! .. ولم يطُل الرد .. إذْ سرعان ما سمعت همساً ووشوشة ، ثم كركرات مبتورة تتسلّق إليها من الأعماق برنين ناغم / جاذب ،يعمِّقُ صدقَ الحكاية فتبيّنت نفسها مدفوعة بفضولٍ بريء أو رغبة مُدافة باصرار للامساك بالحبل الوالج الذي هبطَ بها وئيداً ؛ عائمة في خثرة هواء مُندّى ، له عبق مياسم ورود بريّة كثيراً تشممّتها عند مواسم الفيوض الخضر ، ونهارات العشب البليل ... راحت تهبط .. تهـ.. بط . حتّى إذا مسّت أصابع قدميها حافة أرض صلبة وأحسّت بالماء يلامس أطراف الأصابع تركت الحبل لتستقيم أمام أخدود مُشع أسفر عن وجود سيّدة الحكاية محاطةً بوصيفتيها اللتين ما أن نهضت من على مكعَّبٍ صخري حتى هبّتا لسماع رغبتها في النزول إلى الماء ... رأتهما تخلعان الحُلي من عنقها وذراعيها ، ثم تنظوان ثوبها القطني داكن الاخضرار / المُخرَّم بمنحنيات هلالية ودوائر عينيّةٍ ، مُظهرتان جسداً لإمرأةٍ أربعينية شرعت بالامتلاء .
وقبل أن تدفع المُحاطة بالإجلال قدماً تفضُّ به سكون الماء فوجئت بامتثال الفتاة إزاءها، فانبرت ناطقةً : " من أنتِ ؟! .. كيف وصلتِ ؟! "
هربت الكلمات من الفمِ الصغير / تحنَّطت اللحظات / شعرت أنَّ البئر بما امتلكت من رغاويَ لا تسعفها في تضئيل حرارة فائرة عجَّ بها الرأسُ بغتةً .. لفّها الذهول ؛ وانبرت محاجر الحيرة . تساءلت : كيف أُجيب ؟! . غير أنَّ فمَها تمرَّد : " أنا وسمة . أنا البدويّة التي تجرأت للوصول إليكِ وحلُمَتْ أن تكون إلى جوارك في حلِّكِ وتحركاتك ! " ...
من عمق الماء الذي احتوى الجسد الغاطس / العائم سمِعت صوتَ السيدة يستفهم : " وهل ما زلتِ على قرارِكِ ؟! .. أتتركينَ نفسَكِ وأهلك وصحاريك ، وتأتينَ معي ؟! " ...

كانت على وشك إعطاء الرد القاطع ، من شِعاب الروح الراحل على كفِّ الحُلُم عندما وصلتها أصواتٌ سحبتها رويداً ؛ رويداً إلى أديم الصحو ، فوجدت أنّها ما زالت ممسكةً بالحبلِ المُتدلّي ، وسط نفحات رطيبة / رخيّة ، تؤومها من فراغ البئر ؛ فيما قريناتُها يقتربنَ ، والناقات بتبعثَرٍ - تستدعيه الأجمّات - منهمكات في القطعِ ، والقظمِ ، والاجترار .



(2) امبيــّــة


(1) شـفرة الإنطفـاء

مازال "امبيّة " يواصل خروجه الصباحي ... ومازالت ناقته وحوارها يتقدّمانه نحو كثافة الأثل القاتم ، وهو كل يوم يتّخذ من صلادة الحجارة المرمرية مجلساً ...
المخلوقتان على يمينه بينما ينتصب إزاءه تل ذو حمرة دكينة ، وهياكل حلزونية كوّنتها تعرية السنين ومثّلتها قِمة لا تشابه قمم التلال المعتادة .... الصغار من أقرانه لا يقربون المكان ..... تحذيرات الأهل كانت سدّا ًمانعاً لوصولهم رغم أنهم وصلوا . سكنوا تعرجاته واعتلوا قمته ولكن بحذر لا يوازيه حذرٌ آخر ، فكل ما حولهم وتحت تكوينات حديدية وليدة الطبيعة الصحراوية الغريبة ، الغامضة شابتها ذرّات رمل تماسكت مع نسيجها المعدني .. في البدء دُهشوا للمرأى .... نقلوا معهم تكتلات أحجام متفاوتة ... ظلوا يؤومونه ، ثم ما لبثوا أن تركوه . صار جغرافيةً ماثلة لا تثير الفضول .... اتّحدت آراؤهم مع تطلعات أهليهم ( إلا " امبية " .... كان يحيل وقت ما قبل النوم أسئلةً – عن غرابة التل ومكوناته – يسكبها على مسمع الأم فتأتيه إجابات ملفّقة مشوبة بالتخويف والتحذير يصّبان في رغبة عدم التقرب خشية الأذى – لكنَّ الوسادة ما فتِئت رديفةَ التخيّل ، ينطلق معها قبل أن تنقله أجنحة الكرى بعيدا ) ....
سمِع من أبيه أن الحديد مادةٌ تدخل في صناعة السيارات والطائرات والقطارات ... ولأنه اعتاد على رؤية السيارات تقطع الشوارع ، والطائرات تمر عبر أجواء واحته باتجاه مدن الشمال فقد تعلق فضوله بالقطار ..... سمع به ولم يره ... صورة سحرية – هكذا أفشى لنفسه – يصنعها هذا المعدن ويقدمها كيانا جوّالا يجوب المسافات ويعانق المدن .... ذلك ما أرهقه في التحليق والتصور .... ولكي يستكمل عدة الانطلاق مع الخيال وينأى عن تهويمات لا يستطيع ذهنه تشكيلها حوَّل زمنه الليلي القادم استفهامات عن القطار وشكله / حجمه ومحتوياته / المحطات التي يدخلها ويخرج منها / ثم تصميمه على أن يعتليه في اليوم التالي ...
في اليوم التالي لم يجلس على الحجارة المرمرية بل تحرّك ليطبق ما فكر به البارحة بعد إلقائه نظرة على الناقة وحوارها واطمئنانه لوجودهما منهمكين باجترار ما اقتطعاه من أطراف شجيرات الأثل اتخذ – بين التعرّجات – طريقا للصعود بحثاً عن مكان يراه ملبيّاً للرغبة . قال : "هذه المحطة ، وهذا القطار ." . جلس على مساحة مسطّحة لها متكأٌ محددٌ.. التفت يمينا وقال : "هذه النافذة المربعة بزجاجاتها الصافية الشفافة كما وصفها أبي ستعرض مشهد الأشياء التي أمر ... وهنا على شمالي الركاب يجاورني ." ... باتكائه على المسند الخلفي وشروع لحظة الاسترخاء و اندفاع صوت ولّده انطباق شفتيه : فووووو شعر بآلة الخيال تنطلق ... تتهافت الصور وتعدو إلى الوراء بأقصى تمكن ... تودعه محطات وتستقبله أُخر ؛ وهو من فرط سرعته صار يهتز ... مال القطار فمالَ الجسد.. تفاقم الميلان فزاد الخيلاء ....زاد..زاد !! ما لبث أن تهاوى جانبا فكان السقوط ... بروز حديدي نأتي هو الذي ضرب رأسه فأنتج سخونةً رطّبت الشعر المنسرح وساحت سائلا تلمّسه أحمر لزجاً أرعبته سرعة وصول الحمرة إلى ياقة ثوبه ثم نزولها إلى الجيب والزيق ... لحظتها هرع يتعثر باتجاه البيت ناسياً أو متناسيا الناقة وحوارها .
تلك الليلة كان قطارُ الحمّى يقلّه صوب محطات الهذيان ... ولا ندري إن كان " امبية " سيحب القطار ويفكر بركوبه بعد ذلك أم أنه سينضمُّ لأقرانه وينسى أن ثمّة تلاً حديديا يرعى جواره ... لا ندرى . لأن أمّه الساهرة إلى جانبه – تلك الليلة - آثرت عدم التكلم معه خوفاً من وقوعه في دائرة استعادة الحدث وتبعاته .


(2) وطأة العشاء الباذخ

كثيرا حاولوا معه فلم يفلحوا ... ما أن يقربونه حتى يعلن نفوره ضاقوا ذرعاً به مثلما ازدادوا خشية عليه .. يلوذ بفيء شجرة الأثل تاركاً لرأسه الهدول فيما عيناه الدامعتان الوسيعتان تقرَبان حجر الأرض تودّان لو أنهما انزويا بين الثنايا سعياً لانطفاء صورة الملاحقين [ يتابعه امبية من وراء جذع شجرة الكالبتوس المنتصبة حَذاء جدار المرعى بنظرات كسيرة ، وبين توقف يسير واندفاعه هائجة يؤدّيها الملاحقون يغمض الصبي عينيه هروبا من نتائج الحال فتداهمه من خلف الأجفان صورة أشد أسى ولوعة يرى فيها " الحوار" صارخا مستنجدا ولا أحد يوليه السمع ، فالميعاد أزف ويبدو أن المخلوق البائس فهمه فحسب له هذا الحساب من الهرب والانفصال عن الأم التي علمته كيف سيصبح جملاً أثيراً يتحمّل عاديات الصحراء وجفافها المريع .].
دبيبةً كانت الحركة ... عبارات الترحيب تنشر إعلان البهجة تسكبه أفواه المستقبلين على وجوه ضيوفهم .... الضيوف سيبيتون الليلة ، وهم على كثرتهم تستدعي الضيافة وجبة طعام وفير ...
حزمة رجال مدجّجون بإصرار مكين طوّقوه مقرّرين عدم تركه يؤدي فوضى لا طائل منها ... انقضوا عليه غير حافلين بصوت جهير أطلقه استنجادا ؛ ولا آبهين لرد الأم المنتصبة / الصاغرة هناك تطالع مشهد الاستحواذ أيضا / أيضا لم يعطوا اهتماما لعواطف الصبي التي تأججت فدفعته للابتعاد عن حلبة اغتيال المشاع [ صعد التلّةَ المناهضة لبيتهم مؤثِراً التخفّي بانحدارها الحاجب للبيت و تماثلات الحركة الدائبة للمضيّفين – أبيه وأخوته وحزمة الصحاب – فقط صراخ الحوار وصيحات الأم مضيا يخترقان حُجب الهواء فيصلان مسمعه مثيرتان لديه رغبة تقديم العون .. ولكن !! أنّى ذلك و حضور الضيوف صار حقيقة ناجزة تدعمها بطونهم الفارغة ، ثم اندفاع الأب لإثبات حسن كرم وصل ذروة التفاقم ؟!...
قُدّم العشاء باذخاً ؛؛ واستحال المساء حديثا متواصلا ... حديث اللقاء الحميم بعد الفراقات الطويلة ... ولقد استطال الليل على "امبية " وتفاقمت كوابيسه جرّاء أحلام وتفكّرات كان فيها الحوار موضوعاً يرجرجه سطح الذاكرة ، لهذا كانت أوقات النوم متقطعة يساجلها الكرى وسط تناهي قهقهات الزائرين وحواراتهم المتواصلة .... ولأنها كذلك نهض مع الفجر يطرد نعاساً لما يزيل يلتصق بالرموش ... خارجاً تحرّك ، وباتجاه المرعى وقف يبغي إلقاء نظرة تفحّص تعطيه تأكيداً راسخاً للنهاية المحزنة ففوجئ بالدهشة تنهال وتعمّه لحظة ذهول أبصر خلالها " الحوار " يتراكض جذِلاً مثلما يفعل عندما يقرَبهُ كل صباح ؛ لكن مشهد الأم المكلومة بانطفاءٍ أفرغ الدَهش وأظهرها غارقة بضياع لا ترى فيه الفلذّة التي اعتادت ملأ عينيها بصورته وأجّل المواساة و إظهار الألم اندفع الصبي باتجاهها تلاحقه ترددات شخير آتٍ من نافذة المربوعة/ المضيف ، تطلقها أفواه وأنوف الغارقين في محيط نوم عميق ... عميق !!


(3) تحــوّلات

أعـــوامٌ من الجذل الرتيب عدت .. و أحلامٌ من موحيات الصّبا تفكّكت كـان على (امبّيه) أن يطويها كيما يتطلّع للقابلات من الأيام ... رأى جسده ليس بذاك الهيكل النحيل / الغُر ؛ و خيالَه غير ذلك المُهـــر السارح نحو تخومٍ من رؤى تتوازى و أعوامه المعدودات . و سلسلة التلال التي كان يبصرها يومياً صارت إرتفاعات توحي بتهافتات صور طفق يستعذبها متأملاً قممّها النافرة / المتوثبّة ، مؤججةً داخلهِ رغبةً جامحةً أسسَّس عليها تخيّلات هائلة .
ذلك الصباح أمسك عصاه و تحرّك تاركاً ناقاتٍ شرع يضيق نفساً بقيادتها .. باتَ موقناً أنّهــا لم تعد من واجباته ، فالبنات أولى... صار ينظر بشيءٍ من الخجل الحييّ للفتيات اللائـــــــى قضـــى معهن زمناً يرعى و يعيش عبث طفولة رخيّة بينما يختلق صوراً لأُخريات تأتي بهنَّ محفّات الخيال ... إندفع ، و بكل سخونة الدماء الضارية / المضطرمة في عروقه يعتلي صدر السلسلة العالية باتجاه الفضاءات الفسيحة .. حين أدركها تطّلع من عَلٍ فأستنتج قواه تتفاقم ، وأعماقه تفور .. ارتقى أولَ قمَةٍ . ( للقَمه لون قهوي تنبثق على رهافة قمحية لدنه ) غرز على زغبيها عصاه فتفجرّ الدمُ يُلاطم صدغيه فيما شيء كالارتجاج تبيّنه يهاجم مملكته الروحية .. زحفت العينان متوهجتين تمسحان تلك الأرض اليى وطأها من قبل فتلمّس دفءً غريباً ، وتنفس عبقاً شهياً يبعثه ثراها الطري .. وإذْ نظرَ بعيداً .. بعيداً داهمته غرابة المدّ الداكن / الغابة الفحمية .. تذكّر أنّه لم يدخل تلك الرقعة السريّة بل سمع عنها آنذاك .... آنذاك كان خائفاً / وجلاً . لم يرها غير أكمات تُبدد إهتماماته وتلغي حالة الفضول الذي يدفعه للإكتشاف . هذه المرّة هبط متدرعاً بالإصرار وسخونة الدماء الصاخبة ، مثيرةً مملكته الجسدية ، تاركةً الإرتفاعات التي مافتِئت ترتج كأنّها إستعارت الكثير من هياجه ، أو كأن قدميه كانت تضغطان مكامن حيوات تعيش سُبات الأزمنة السحيقة ..... تنده به فلا يستجيب ؛ بل يتحرك تقدّماً مأخوذاً برغبة إكتشافات لامعهودة ، مؤجلاً تحقيق العودة / مُهمِلاً تواليات النداء حيث الذي إزاءه يحثه على الدنو ، ويدفعه لارتشاف كأس غوايةٍ أشدّ أريجاً .
يانعةً ، بهيةً ، كثيفةً كانت زروع الغابة .. سلّمته منافذ وإبتداءات دروب فيها من الإغراء ما جعله ينسى الارتفاعات وراءه متخليّاً عمّا يذكّره بموجودات ما خلف التل ـ الأب والأم والناقات والألسن التي قد تواجههُ عَذلاً ـ .. باقترابه رأى ثمارَ الإغراء تنهال عليه رذاذاً وبدخوله التهمته جنان الجذل .. راح عائماً / غاطساً ثم استحال غريقاً : " آآآ .. ما أعذب الغرق ! " ، تفجّرت الأعماق ترداداً ...
حين العودة خُيّل إليه أنَّ وجوهاً صغيرةً كان ألفها تطوّقه ... عيونها الذاهلة تستفهم عن غرابة فعلٍ ارتكبه .. حّدقَ فيهم وجهاً فوجوهاً . ( لن ترون إمبيّه السابق ! ) صرخ صــــوت صمته ... قليلاً واندفع خارج الحلبة .. هناك / هنالك .. عند سفح رملي تطلّع إليهم يلعبون .. عاد إليه حنين الأماسي الراحلة فاستدار متقهقراً / خذيلاً .. لاذَ خلّف أكمّةٍ دكينة مُجهشاً ببكاءٍ دامعٍ / مرير ... في أعماقه شهـــــدَ شيئاً ما كالحلم يتهشم ، وطفولةً دفيقةً كالماء تتسرب من بين أصابع أيامه .. ولن تعود .


(4) تماهيات التضاريس المقدَّسة

.... وهكذا !!!
طفق " امبيّة " يقتفي خطوَ الذين سبقوه ، موغلاً في تعديل هندامه تاركاً لحظات مُسهبة لمشطٍ - دائما يُرابط في جيب بنطاله - مهمّة ترويض الشعر الأجعد واظهاره يتماشى وصورة الاهتمام بمتعلقات الهندمة .
القميص ( كودري ) قطني / هِفهاف ، تتراقص على طراوته السوداء زهورٌ حمر دقيقة ، بشكل حشود تزاحمُها أوراقٌ خضر متكئةً على أغصان بنّيّة تتوارى من فرط هيمنة الأحمر والأخضر .
وللبنطلون ضرورة تتوازى وتأثيرات رونق القميص .. كذلك الحذاء آثر " فضيل " أن يُظهرهُ لافتاً .( لم يعد يلتفت لأماكن يؤومها بحفنة أغنام وناقات .. وحتى عندما يمر وتأخذه عيناه لهاتيك المواقع لا يتولَّد لديه ما يدعو إلى الحنين ، لأنَّ الشوارع المسفلتة في الواحة ، والمحلاّت العديدة التي صارت لواجهاتها بريق خاص هي ما مثّلت محطَّ الاهتمام ، وتجلّت بؤراً للاغراء والغواية ... صار عليه - أيضا- دخول حلقة اللقاءات مع أقرانٍ يقاربونه ، أو كبارٍ يسعى لأن يكون أحدهم .. شرع يتحدّث بلغة العليم عن أشياء حتى وإنْ لم يعرفها ... يصرُّ على مصداقية رأيه وإنْ كانت من عِداد الخطأ .) ..
وفيما كان " امبيّة " يغترف من مناهل الفتوّة والشباب سابحاً في حبور لم يمرُّ به من قبل لملء جعبة التوجّه في المضمار الآتي كان الأب هناك ينزلق متقهقراً بتفاصيل يتلمّسها يومياً مكبوحاً بإحساس يصوِّر له الأمر وكأنّه استحواذ يمارسه الابن على الأب كحيلةٍ يحبك خيوطها الزمن بقرارات جائرة مبنية على أساس سلب ( من ) وإعطاء ( إلى ) بفعلٍ لا قدرة للاثنين على وقفه وتحنيطه ... وذا يوم غافل الأبُ ولده .. راح يبحث في جيوب بنطاله المُعلّق على الجدار عن أسرارٍ مُختزنة فواجهته بلا انتظار ( شارون ستون ) بجسدٍ لدنٍ وابتسامة يرسمها فمٌ فاغر / جائع ثم نهدين متربصين أسفلُها مجهولٌ حيث الصورة مُقتطعة من مجلة حروفها ليست من أقارب العربية تعرض فيلماً هي فارسته .
ثارت حفيظةُ الأب وتفجّرت الأعماق .
حُسٍبَ الابنُ عاقّاً ..
وتراجُعاً ، تراجُعاً عاد الأبُ يشتم زمن الآن ( عصر الفسوق ) حنيناً باتجاه زمن الأمس ( منبت الوداعة ) يوم كان فمُ الأنثى لُغزاً والنهد تضاريس مُقدّسة / مُحرمة من خارطة الجسد بعيداً عن التخيُّل ، لا يتم تحقق إدراكها إلاّ بمراسيم عُرسٍ متراكمة ، تحمل خاتمتها المفاجآة ، ولات وقت الاعتراض وعلى المُقاد بأعراف المحيط الرضا بما مكتوب .
إذاً كان تصميم الأب على معاقبة الولد جازماً وقلب الدنيا بما احتوت فوق رأسهِ أمراً مفروغاً منه .. لكن !! . وبنظرة مُعادةٍ للورقة الملوّنة / الصقيلة تمنطقَ الأبُ بالتأنّي ( التأني الذي يشبه إعادة الحسابات ) ، متطلِعاً وبحسرةٍٍ ممطوطة ( ممطوطة كالتي تستعيد تهافت الأحداث ) لغرفةٍ طينية مركونة ومهملة كان كتَّلها وأبوه قبل عقدين .
تلك الساعة المقتطعة من سكون الليل .. وفي لحظة تأجُج رغبة مُنتظَرة تسللت يد " امبيّة " لجيب بنطاله إستدعاءً لـ( شارون ستون ) ، وابتداءً لغة الحوار المباشر مع التفاصيل المُجسَّدة ...
ولشد ما كُبِحَت كفُّ الفتى بصدمة الفراغ والمباغتة وخواء تلك اللحظة !!
تلك اللحظة كانت ( شارون ستون ) تتلوى عاريةً بابتسامة إغراء يسكبها فمٌ فاغر إزاء حمحمة / نهِمة / جهيدة ومتهالكة ، في مكانٍ .. مكانٍ ما !...




(3) انشطارات المباغتة والتجنّي


(1) انتظار قاتل

.. وامتدّت أناملُ الرمال طحينيةً تمسُ هامتَهُ الدكينة بينما جلُّ كيانه غميرُ الذرّات اللميعة . تهمي عليه الشمس لفحَها , مستقياً من الأديم الرخو صهداً يقرّبه من حياة النَيل إعلانا للوجود والحيازة المبتغاة.. متروكٌ منذ عقود. خلعوا عنه الأستار وأسكنوه حفرةً يمارس العُريَ القادم ؛ مولينَ له مهمّة تحقيق فعلٍ أساسُه الغواية وخاتمتُه الغدر المميت / رقصاً على صرخات ألم الضحيّة / ارتواء بدفق نجيع القرمز الفوّار.. ( انّه يتربص الآن .. ثمّة حركة كالقفز أو ارتجاجٌ كوقعِ أقدامٍ تقترب ... من يكون ؟ )
بين حين وحين ..
بين عام وأعوام , استمر يسمع أشباها له يُعلنون زغاريدهم القاتلة ؛ وهو بين الانتظار والانتحار يتحيّن قدوم الآتي , كاتما الأنفاس / متظاهرا بهمود الجمادات الأزلية . تسفُّ الرمال على هامته ثم تنزلق فتأتي رمالٌ بعدها تطمره جرّاء السكون الطارىء للريح .
سمع تبعثرَ خُطى يدنو من دائرة انتظاره فاستدعى تجميد الأنفاس .. ضربات عصا على الرمل تتوافق ونبرات الهش .. همهمةُ قطيع شياهٍ تقترب . ما تلبث أن تنحرف مبتعدةً . ليست سوى قدمان بشريتان صغيرتان ظلّتا ترسمان آثارا على ملاسة الاستقرار الرملي .. القدمان لصبيّة لم تحسب لمفاجأة خبيئة ستقع بعد حين ؛ ولم تقدّر شيئا سيحصل وإنْ بدا المكان غريبا عليها ؛ وإنْ بدت – هي- منبتاً للبراءة .
خطت .. ثم توقفّت جائسة بعينين متفحصتين أرضاً خلاء بقّّعتها أكمّات لم يدركها أحد خلقت لديها رغبة آتية للرعي .
- سأجيء غداً ....... قالت بلسان التمتمة .
- بل الآن .......... صاح هو بنبرات الصمت .
- سأجعل تحرُّكي بمكانٍ لا مسبوق لغيري من البنات الراعيات .
كانت على وشك أن تبصم إبتداءات الرؤية وتطلق استهلالات الحلم المنتظر عندما أطلق - هو - زغرودته الحبيسة منذ عقود , مُحدثاً فعل الارتجاج تحتها , مُحيلا الفضاء الرائق العذب إلى ضجيجٍ ودم ٍ وأشلاء / إلى تمزّق وعيٍ وقهقهة انتصار وسط تطلّع تكوينات نصف كروية دكينة ؛ هاماتها تدثّرها الرمال بانتظار دورٍ قادمٍ / غادرٍ / فاجعٍ سيحين ...سيحين لاحقا.


(2) ذكرى هاربة

نتقافز مثلما تفعل الجداء .. نتضاحك ؛ وبالنداءات نتخاطب معفّرين بجذل الابتعاد عمقا بغية تحقيق المراد / غير آبهين بالرمال تلتهم أمشاط أقدامنا الصغيرة ( ذلك التبعثر الماثل يزرعنا أثلاً متحركا وسط الأراضي الموبوءة بالمجاهيل والفقد والخطر ما وراء هاتيك الاسلاك الشائكة المضروبة سدّا , تدعمها تقاسيم الجمجمة المصلوبة على صليب عظمي - صورة صوتية - تصدم أنظارنا سعيّا للتنبه والتراجع .. لكننا نواصل التحرك .) .. أكبرنا " ربيع" يسبقنا ويتوقف . يبصر عن بعد علوّا رمليا ينزّ عن الانبساط المستوي الذي تبوح استدارته بدهاء فخّي خادع.
بجذل أعوامه الثلاث عشرة يطلق هتاف الانتصار :
- أنا هنا .. انّه هناك .
( حذّرته الجدّة من الاقتراب .. عابت عليه مشاكسته : يا ربيع , يا جدّة لا أمان للفاشست . قلوبهم ألغام وأعصابهم شراك . لا خيار لهم سوى كرهنا ؛ لا خيار لنا الآّ تجنبهم . وهذا الذي تركوه وتأتي به . سألقيه في القمامة ان جلبته . الذي لدي يكفيني .. وتشير إلى " كرو / هاون " حديدي هو أنبوبة مغلقة الطرف تفوح من فوّهته عند الاقتراب والشم رائحة قهوة دقّت أو بذور حبّهان / هيل طحنت .)
تتفجّر خلل دواخلنا حمّى التنافس .. يتناهشنا الحسد يأخذ طور اتساع الأحداق ابتغاء اكتشاف ومضي ؛ منشغلين بتفحّص بروزات ناتئة تقرّبنا من مشارف النجاح تساويا فيما هو يدنو / خلوّا من الخشية / بعيداً عن التهيّب .. يقعي كما لو كان يتهيأ لطبق حساء يحفّز مكنونات اللعاب تقدّمه الجدّة الروؤم .
سمعنا نناديه فأدرك أننا أفلحنا بالاكتشاف . عرفنا ذلك من يده التي رفعها ملوّحا .( كلام الجدّة يزداد حدّةً وتهجساً وارتباكاً ؛ وعيون الفاشست الذئبية - هكذا تتذكّر - تلاحق المقتربين , من أهلنا بينما رجالاتهم تزرع بِذار الموت في جوف الأرض .. أنابيب وهياكل معدنية غادرة؛ غادرة .( حذّرنا أهلنا من هؤلاء الأغراب المدججّين بالابهام والغيض .) . لا سبيل لاتقائهم الاّ بوسائل الابادة المحتّمة - هكذا رأوا / هم - فلتكن . ) .
اعتاد ربيع أن يسبقنا مزيحاً حفناتِ رملٍ تحيط النتوء الظاهر .. يمد السبابة والإبهام يسحب مسماراً امتلك خفّة رفعه وإزالته فيتحقق الفعل منتهياً بصيحة الامتلاك , رافعاً ايّاه مثل كأسٍ نيلَ عن فوزٍ بهيج .( صاحت به الجدّة هذا الصباح : ايّاك يا ربيع ؛ ايّاك .) . لكنَّ الإصبع الممتد زاوله ارتعاشٌ جعله يصطدم بالإبهام ؛ وجعلنا لا نبصر - نحن المنشغلين بالتفحّص - سوى جسداً يتهاوى الى الوراء ؛ سبقه دوي هشّم لدينا غمار الجذل , راسماً لوحةً مغايرة لألمٍ شرع يزرع الخوف والهلع فضحته بشراتنا السمر المغبرّة , وعيوننا التي صارت لحظةَ الوصول إليه ترى أصابع مبتورة ووجهاً مدمّى ؛ ثم أنينا مكتوما وفماً يتمتم : آ .. يا جدّتي .
( تتأمل الجدّة حفيدها اليوم فيتمثل أمامها شابٌ فقد عينا وتخلّى عنوةً عن ثلاثة أصابع وجزء من راحةِ كف ؛ مع تنهدّات هي مزيج من ندمٍ دفين وغضبٍ مصاحب , وذكرى هاربة محوّمة في فضاءات أعوام العمر الراكض .)


(3) ترفاس .. ترفاس

الرائحة الفاغمة / الغريبة والتي لم يشمّها أبداً , أبدا .. البياض المكتسح ما حوله من جدران وسقف وأسرّة .. أمّه الواقفة بمحاذاة سرير يحتويه وقد ضاع نصف جسده تحت لحاف سميك يقيه شعوراً بالبرد . جميعاً جعلوه يطيل التطلّع خالقاً تساؤلا عن وجوده الغامض هنا ؛؛؛ صاح : أمّي . فضاع النداء تبددّا ؛ مستحيلا نظرةً حائرة حاول استبدالها بحركة استفهامية .( نبّهته الصيحات بعدم التحرّك عمقاً .. قدماه الضئيلتان ترسمان أثراً على المسوح الرملية لحظة اتجاهه صوبَ العلو النائي .. صاحوا به صارخين : لا .. لا . قد لا يكون ترفاساً ... امتدّت يدُ أمّه رقيقة / حانية تسحبه من صورة التمادي.. دموعها تسيح على الوجنتين الشاحبتين وصوت تكسّر كلمة " ولدي " تتناهى إليه صدىً تتهالك ذبذباته عند تخوم سمعه المشوّش .. الحمّى تجوب مسارب العروق ؛ وقبضة هائلة تطبق على لسانه لاغيةً مسارات النطق . ( سمعهم يندهون مرتعبين " لا .. لا.. لا.." ؛؛ صحيح انّهم لن يجعلوه يفوقهم هذه المرّة ؛ وكان تصميمهم جمعَ ترفاسٍ أكثر منه , لكن الخشية من أن يغويهم الترفاس فيجدونه ألغاما خادعة .. تلك الخشية منحتهم الحذر ؛ ولم تزده إلآّ اندفاعاً .) .. بحذر تحركت الكفُّ الحانية تمسح حبيباتِ عرقٍ ولّدها الجبين الحسير المكتَسَح بصفرة بيّنة اثر انخفاض حراري ابتدأت به أعضاؤه المبعثرة فتسربت مفردات شكر خفيضة تقدّمها الأم لرجل ذي رداء قطني أبيض ينتصب في الجانب الآخر للسرير يطمئنها مواساةً : " المكتوب يجري ؛ وما مقدّر يقع . ولكن كان عليه أن لا يشتري الخطر . ".. ما سمعته حوّلَ صوتها الوطيء تهدّجاً. ( سحبته نبرات مبتورة / وجلة ، وعيون متفحصة / هلعة . الأكف الصغيرة المعفّرة بالرمل تمتد لساقيه فترتفع وقد صارت قرمزيّة يهاجمها التخثّر السريع . .. ولم يكن الذي داسته قدمه ترفاساً مطموراً سبق الترفاس الظاهر / المقصود إنما شيء يغوي كيانه ويسحبه قليلا .. ثم بين فسحة زمنية كبرق خاطف هتف مستنجدا :" أمّي .." ؛ متطلّعاً إلى صحبِهِ / ذاهلا لخديعةٍ جائرة توقّّفت كل وسائل الحيلة للجمها .).. لم يسمع صوت الرجل ذا الرداء الأبيض بل وصله نحيب يعلو .. أراد أن ينطق :" أمّي . : فلم يقدر . ( كانت سواعد الصحاب ونبرات همسهم المخضّب بالقلق وهي تتحاور لتقديم صورة صادقة للمشهد تتضاءل ... أحد الصحاب يفوه للآخر :" ستموت أمّه للخبر ." وآخر يقول :" هل ستعيش ؟ وكيف ؟ " . وآخر :" آآآه : ". مسحوباً سمع النحيب أشد مرارة ؛ مغموسا بمفردات صوته ، وأصابع امتدّت مرتعشة تتحسسّ ساقين خلا مكانهما فراحت تغوصُ في فراغ احتلّه نسيجُ الغطاء , ونديفُ هواءٍ شكّلَ شيئاً ما كالتقعّر .






(4) على إيقـاع الرمــل


(1) وابل من جفاء

هنالك .. الأرضُ خلاء ، والمدى فسيح ... الأشياء يشرذمها لهاث مائي حثيث يُعرقل تشكيل مشهد يعطيه تفسيراً لما يجري أمامه . غير أنَّ شتات الذاكرة المبعثرة قربّت لديه ما سبق ومر فتذكرّ أنه الآن وحيد يعوم وجوده في برّية جرداء، وإنهم عندما خلّفوه ساعة الهزيع لم يتركوا له سوى قرارهم التخلّي عنه عنوةً لأسباب ترتأيها القبيلة ، جازمةً واضعين في دواخلهم فحوى النهايات المحتمة .. قال لهم : قراراتكم ظالمة وأحكامكم وليدة النميمة الجائرة، والأهواء المتسرعة فلم يتلّق غير ( قربة) ماء ناضح وحفنة حبّات التمر وأمتار من مصير يغمره المجهول ، ثم سماع نهائي برحيل النجع التام عند مكان رميه( لحمة ــ أمسكتها كف / قطعتها سكينّ /شيعتها عين ــ مرمية بلا اكتراث) أحزنه تخليهم عنه وأرهقته كلمات نفيه ــ تركوه ثخين الجراح ، كثيف الطعنات ـــ وضعوا في حسبانهم طمع الوحوش الشرسة .. وأنبت في حسبانه ترصدات الذئاب المتحينة خلف التلال المبعثرة تنتظر سدول الظلام..
كان عليه أن يتدارس الأمر ويمحص الموقف عندما أخبرته المسموح الأرضية بزحوف الرمال التي سرعان ما استحالت سخاماً أسود ... كاد أن ينده بالشمس الاّ تخذله فترميه في سدف المجهول والعتم .. غير أن إيقاف حركة الزمن يعد من الأمنيات البلهاء ؛ والنقاط الفسفورية الحمر شرعت تبث ضوءها الشهواني.
هم بالنهوض فأخبره الثرى بالخيبة؛ وبتصمغه وتشبثه ،لكن الأعواد المتكسرة رآها حوله فجمعها مطمئناً الى علبة كبريت تركوها له ودعوه للاستعانة بها عند الحاجة ( ثمة العيون الفسفورية تتناسل وتزداد ? تضاجعهاا لهفة العتمة وغياب القمر ... تذكر أن زوجته وولديه أخذوهم منه قبل أيام ، وتم للمخططين ما أرادوا بتحقيق النأي ..نظر بعيداً باتجاه الاستدارات الحمر فأنتشلته من ثقل الموقف صرخات طفله الصغير وهو يتشبث بحزامه ويتوسل إليهم ألاّ يحرمونه من الأب.) مدَّ كفاً إلى الخرج الذي تسلمه منهم وطفقت أصابعه تبحث عن علبة الكبريت بإرتعاشة تنم عن خشية أن لا يجدها ... وإذ استقرت بين الأصابع ساوره الارتياح وأيقن أنْ النار التي سيوقد ستعينه على بقاء الكائنات العدوانية المتحينة بعيدة ... أخرج العلبة وفتحها تاركاً للسبّابة والإبهام مهمة مسك عود بغية البدء بالاشتعال .. غير أنْ الإصبعين تاها بين حبات رمل كانت تملأ حوض العلبة الداخلي .. غامت عيناه وتضيبتا .. ما ظن الغدر وصل لهذا التمادي .. يلاحقونه بعدوانيتهم حتى وهم يخلفونه ويبتعدون ... عادت إليه صورة زوجته وولديه .. خالهم أسرى معذبين لديهم .. قال: ليس من الرجولة القناعة بوجود أحبائي هكذا ... عندها لملم الجهد وأعتصر الكيان ؛ وبكل ما تجمعت في حنجرته من طاقة فجر صرخة أذهلت الليل والهواء ومعتلي التلال ... مزق مثوله للثرى واستسلامه للتصمّغ فنهض... تطلع بعينين حادتين سرعان ما شعر بهما تطلقان إشعاعات فسفورية متوهجة .. تقدم باتجاه تجمعات الذئاب المرابطة هناك /دخل بينها ... وبلحظات كان يقودها متتبعاً رائحة آثار غائصة في ظلمات الصحراء العصية .


(2) ســادراً في النأي

قال لها :-
ــ الأفضل أن أتوارى عن العيون لأغيب الألسن.
وغاب ..ضارباً باتجاه النأي.. الليالي خارطة المسير ، استدلالاً بالنجوم / استعانة بركام الأيام الخوالي وأحاديث خزينة المعارف.. أما النهارات فللرقاد تحت ظل غزارة أغصان شجرة طلح أو إتكاء على كتوف أفياء أخاديد ولدتها تحركات الرياح ، إتقاءاً لحماً الصحراء لهيبة الرمال واكتساباً لأمان مفقود تشرذمه الساعات العتيمة .. وغير ذلك صور للأهل تشحذها الذاكرة وتلمها رغبة العودة للقاء الحميم.
الأيام تتوالى .. وكل سعة زمنية تنأى به صوب فسحة مكانية تقربه من هناءة البال، تبعده عن تداول الأفواه ( لم يترك له الآخرون ما يعينهم على تقديم مبررات الإقناع .. نبرات كلامه تلمسها تضيع وسط تلاطم اتهاماتهم .. سعى محتدماً وكان يروم عرض إثباتات فشلهم في إبقاء النجع خالياً من رائحة الهتك فما أعاروا تنصتاً ، حتى فوجئوا أحدى الصباحات بركن من كبريائهم يستحيل طعماً عذباً لنار غادرة .. وبدلا من أن يتعضوا بالندم انطلقوا يتهمونه بأداء الفعل /ضامرين له الأذى .. وهو بين الدفاع والإدانة يذرف ألم التأسي عليهم طامراً حزناً يحز القلب ويجرحه) يلتقي وجوها غير التي إلفها .. يعايشها بحميمية يخلفها حسن الاستقبال ومتطلبات الضرورة تأتي بها كفّ الأقدار فيستقبلها قانعاً بحكمتها ، ما تلبث أن تغيبها الحاجة ــ أنهم رعاة لا يعرفون الاستقرار، تسحبهم جمالهم المتناثرة وتنده بهم فيوض الكلأ المبعثر ــ ينهل منهم / يفيض إليهم .. سمع ما أذهله وحكى بما اتفقوا عليه .. لم يستغربوا ما حلّ به .. وكانوا يطأطون الرؤوس توافقا مع ما يقول .. وفي الختام يصرحون : ما رأيت الأ اليسير/ يبدو أنك مازلت غضاً .. أمامك القابلات من المفأجات والإخفاقات .. يصرف معهم ليال ثم ..بمرارة يودعهم / بشجن يشدون على يده .. ومن جديد يتحرك ، ضارباً بإتجاه الأرق ، قاطعاً المسافات يراكم الأيام فيضيع من بين أصابعه العد .. يحسب المفازات والنجوم ، وبالتالي يفتقد كم من الضياع صرف ( أما هي / الزوجة التي اقتنعت بقرار فاه به ، واطمأنت لأخبار شرعت تصلها أثر رحيله فقد ساورتها الخشية ، سيما وما يصلها من أخباره المحمولة على أجنحة التخفي طفقت تشح.
الوجوه تطل وتغيب / تتبدل الأماكن .. وهو بين هذه وتلك كان يغوص رويدا ، رويدا نحو قرار لا يعرف منتهاه مردداً ما سبق وقال:-
ــ الأفضل أن أتوارى عن العيون لأغيب الألسن.


(3) مواجيـد الفقــد

مسترجعاً تواليات الفجائع أكبر على قلبه قدرة التحمل وصرف الأيام دونما انكفاء أو ضعف ..كان الصبر رديف السلوك ، والشجاعة دما يتخذ شتى مسالك الروح ، لكن الدروب تترى ، والصحراء بلا انتهاء .. هو الدليل والقافلة / وحيداً يمسك خطى الدرب .. لا رفيق يؤنس ولا حديث يبدد شساعة القفار، حتى الصور الخزينة طفقت تبهت بل تكاد تمحى .. الرمال تشكل امتداداتها والتلال تضأل .. لم يتبق أمامه غير خلاء تيه، وافق ناء وشمس لهيبة أجهزت على بقايا ماء ناضح عطلت مهمة القربة التي خمّن أن لا ضرورة لها فرماها .. مستثقلاً أشياء أرهقت كاهلهُ إتخذ قرار التخلي .. لم يعد لسكين يستعين بها في قطع أغصان أو مواجهة طارئ أهمية/ تركها . كذلك فعل مع خرج يحمله بما يحتوي .. فقط العصا أرتاها عوناً يقلل من ثقل الجسد ــ رغم نحافته ــ على الساقين اللتين تقرحت قدماهما الحافيتان بعدما تهرأ النعلان وتقطعا ، وابتلعتهما رخاوة رمال مديدة .. كان عليه أن يجتاز المتبقي بعد ما أحرق المفازات وصولاً لواحة الخلاص المنشود هل يصل ؟ ــ (كان سمع بها : أرض خضراء يغمر سواقيها دفيق ماء عذب تغدقه عيون ناهلة ... في السماء شمس ضحى متواصلة توشمها كالشذر طيور لميعة / غريدة .. حتى الهواء مفعم بشذا لم يؤلف .. ذلك ما حفز لديه الرغبة في ?لوصول .. حسبه العالم الذي يبحث ، والأرض التي يحلم بعيداً عن تجني الأهل / انفضاضاً من سيل المكائد ).
انطلق يحث القدمين سعياً .غير أن المتبقي عسير ــ هكذا سمع ــ والهدف ناء والصحراء .. الصحراء لما تزل بلا حدود.. مع ذلك ظل الأمل حادياً للإصرار/ مساوراً لرغبة الإدراك ...استمر هذا الزمن يسير حددته القدرة الجسدية المتبقية ..
وإذ شرع الإنهاك والعطش يدبان خلل الأوصال انبثقت حالة شك دعمتها آثار لأناس سبقوه رأى قب ماء جافة / متيبسة طمرتها الرمال .. جلود حيوانية حفرت عليها رسوم وإشارات لم يفقهها بادئ الأمر ( ثمةَ من حفرها بعد إنكفاء ونهاية محتمة ) رسوم خراف نافقه/ جمال معقورة / صقور حادة المناقير ، هائلة الأجنحة / سماء ملوثة / أقمار ممزقة .. ثم هياكل عظمية بشرية أفزعه منظرها ... ساده يقين إنه سلك درباً أقرب إلى التهلكة .
لم يلم نفسه .. ولم يأسف ، فقد كان الطريق الوحيد الذي عليه أن يقرر كدرب خلاص حتى وإن لم يدرك منتهاه .. ترك ما رأى واستعان بما لديه فأندفع يواصل مرصوداً بالتعثر ــ بفخاخ الأرض ــ بدهاء الشمس التي باتت تغدق على الرمال حرارة نارية ألهبتها وجعلتها فرناً أرضياً تتوهج على ذراتها الأشياء ، مذيباً الهواء الملامس ، محيلاً إياه سراباً مائياً كاذباً .. أعلاها شاهد نسوراً فرادى تحوم .. كانت الشفتان تشققتا ، واللسان جف .. هاجمت العينين الحسيرتين حزم ضوئية / حرارية نزلت فتكا بالحدقتين فتهاوى الجسد المرهق بالتارجح والتشبث غير المجديين استقبلته الرمال السخينة .. غدا يترمّض فيما عدد النسور المحومة يتفاقم متخذة دائرة صارت تضيق فوقه .. فقط استجمع قواه ووهبها للعينين بغية النظر فسقط في هول مفاجأة مطبقة شاهد أهالي النجع يحتشدون عند تلة موارية ،يتطلعون بتشف وانشراح ... تتبعت عيناه الهياكل الشاخصة بينهم .. كآن هناك حصانه ولم تكن هناك زوجته وولديه .. لحظتها تخلت عيناه عن دمعتين هماً آخر ما احتفظت بهما ، شوهتا إزاءه الأشياء ثم نقلتاه إلى عالم بعيد .
عندما أفاق للمرة الأخيرة شعر بمخالب تنغرز حافرة ثقوباً في صدره ...وبضوء الشمس يُحجب ، وهواء أقل لفحاً يمس وجهه .. فيما همهمات بشرية متهافتة مافَتِئَتْ تتفاقم وآلات حادة كالسكاكين تنزل بأعضائه تمزيقاً ...




(5) وقائع مدرسية


(1) الثعلــب

لأيامٍ ظلّت الغرابة تداهم أفكار السيد المدير وتُسقطه في حيرة إنَّ ما يراه يدخل من باب عدم التصديق ، فالمماحكات والصدام اليومي المصروف مع معلّم الرسم قد توقّفَ منذ أسبوع ؛ وبدا المعلم وديعاً بحضوره المدرسة / أنيساً مع رفقائه المعلمين .. غير أنَّ الفصول التي يدخلها كانت تضجُّ بضحكات تندلع فجأةً ؛ ثم تؤول إلى الصمت .. ذلك ما أثار فضول المدير وحفّزَ حفيظته على الاكتشاف ( إنّه يرتاب من الحركات الغريبة / الغامضة لهذا المعلّم .. ولشد ما كره إدارة المدرسة وتمنّى لو كان - هو - معلّماً بعيداً عن منغّصات الشؤون الإدارية جالبة الصداع ، وخالقة الأعداء الحاسدين .) .. استدعى العديد من التلاميذ سرّاً محاولاً فك لُغز تفجِّر الضحك في فصولهم ... التلاميذ أظهروا تنكُّراً حذِراً .. ذلك ما دفعه إلى الاستعانة بكرّاسات الرسم إطِّلاعاًَ ؛ فقد يتَّضح جزءٌ من الحقيقة ؛ وقد يكتشف إهمال المعلم لواجبه عبر صرفه حصّة الدرس بالعبث واللامبالاة .. تطلَّعَ في الصفحات فوجدها تضمُّ رسوماً عديدة وجميلة ، ومتقنة ... غير أنَّ ما أثار استغرابه هي الرسوم التي جاءت ناقصة / غير مكتملة : قطّة بلا ذيل / ديك بلا عُرف / نهر بلا ماء / شمسٌ باكية / قمرٌ مقضوم ... هذا ما تركه يتّخذ قرار المتابعة إدراكاً للنتائج .
ذلك اليوم ... والمدرسة يعمُّها انهماك الطلبة والمعلمين في أنشطتهم المعهودة خرجَ .. وبخفّةِ ثعلبٍ استدار ما وراء الفصول ، سالكاً الممر الخلفي مستهدفاً الفصل الذي دخله المعلم المنشود .
ولقد ارتاح السيد المدير وهو يتطلّع من مكانٍ خفي خلال نافذة الفصل ، مُبصراً المعلم منشغلاً يرسم نموذجه ... السبّورة ملأى بصورة أرنبٍ أبيض ثلجي ؛ والتلاميذ يتابعون بشغف وتحفّزٍ حركة أنامله تمر بلمسات أخيرة تُضفي جمالاً باهراً يؤجّج الذائقة وينشر أشرعة الخيال .
مُخطىء شعر المدير بحق هذا الإنسان الُمثابر . والتصرف السابق معه لم يكن له أي داعٍ ؛ لهذا سريعاً فكّر بقرار اعتذار سيقدّمه إليه بعد انتهاء حصة الدرس . وسريعاً قرر تقديم شكر مكتوب سيعمّمه على زملائه المعلمين .. كذلك خامرته نتيجة الشعور بالندم فكرة الكتابة لمديرية التعليم كي ما تقدّم علاوة سنوية لتفانيه ... لكنَّ المعلّم ما أن استدار حتّى خاطبَ التلاميذ :
- هيّا ارسموا هذا الأرنب الجميل .. ألا ترون كم هو وديع وبريء ؟!
صاح التلاميذ وبصوتٍ واحدٍ :
- نعم .. نعم .. ولكن أينَ أُذناه ، يا أستاذ ؟!
تابع المديرُ المعلّمَ ؛ وجده يرسم ابتسامة ماكرة نمَّ بها وجهه المُتهلل كأنّه بانتظار هذا السؤال .. تحرّكَ مُختالاً صوب باب الفصل / متطلِّعاً لغرفة المدير البعيدة / متلفّتاً شمالاً ويميناً : وباحتكاك كفّين ، مع صوتٍ تمثيلي ساخر قال :
- ألا تدرون !!! ... أكلاهما مُدير المدرسة ، يا أولاد .


(2) شفرة السؤال

كبَّلت المدرِّس قيود المباغتة فألجمت صوته لحظة دخول " الموجِّه " الفصل بلا سابق خبر ... تصالبت أنظار صبية الصف الأول بفضولٍ طفولي على الرجل الغريب المُهندَم ، وتسرَّبت أنظارهم إلى الحقيبة " السونسنايت " السوداء وهي تُثقل كتفه الأيمن وتترك الأيسر يعلو . ( ومن صفات المدرّس الناجح ، الشخصية المتّزنة / القويمة / القادرة على درء المفاجآت وتحجيمها ، ثم تحويلها إلى عنصر النجاح في اختبار الثقة بالنفس .. وهذا ما أظهره المدرّس عندما أعطى ايعاز الـ " قيام " ، وترك للموجِّه رسم ابتسامة مصطنعة تتمازج مع كلمة " جلوس " .) .
كان الدرسُ علوماً ؛ والموضوع : " الحشرات " ؛ والفصل واحد من مستعمرات البعوض والذباب والسحالي الراقصة على إيقاع رطوبة السقف وخدوش الجدران ... أمّا ساحة المدرسة فإنموذج لمستنقعٍ أثير يعوِّض القادم من بعيد مهمّة السير في الأحياء المتزاحمة / المأسورة بالركود والزّنخ اكتشاف رداءة الخدمات .
تطلّعَ الموجّه يمسح ساحة السبّورة الملأى بالكلمات والتخطيطات المجاهدة في إظهار وجودها رسوماً لحشرات ضارّة ، مقيتة ..... وكما هو شأن الموجّهين الذين وإنْ أبدوا اعجاباً بالمُزار : بطريقةِ عرضه ، وتقديمه ، وأسلوب مناقشته لابدَّ من إيجاد ثغرة يمسكها على المدرس كي تبقى مادة " تدوينية " يتركها في " سجل زيارة المدرسين " لدى ادارة المدرسة .
وبحركة تمثيلية قاطع المدرِّس المنشغل بالمناقشة ، والعرض ،، موقفاً إيّاه .... وبدهاءٍ دفين فاه :
- سألكم استاذ ُكم المخلص ، الناجح ، الغيور عن الحشرات الضارّة ،، أنواعها وضررها ، ثم كيفية القضاء عليها والتخلّص من شرورها .... والآن أنا أسألكم : مَن منكم يذكر لي اسم حشرة نافعة ؟...
بوغتَ الطلبة بالسؤال الصادم وتشظّت المعلومات المُغتَرَفة توّاً ... سرقوا الثواني لاستذكار وتصوّر حشرة يمكن أن تقدّم نفعاً .
شرع الموجّه السائل يتفحّص الوجوه الحيرى ، والعيون التي تحرّكت تستطلع الجدران ، والسقف ، والفضاءات البعيدة .... ومن هيمنة الصمت رفع أحدهم إصبعه فتكدّر المدرس للرافع متمنيّاً أن يكون المُجيب غيره ، ذلك أنّه من أكثر الطلبة بلادةً وكسلاً .
بحنانٍ مُفتَعلٍ أومأ له الموجّه ، فردَّ التلميذ بصوتٍ تشوبه الخشية والتردد :
- نحلة ؛ يا أُستاذ !
- هائل .. عظيم ... أحسنت !!.
تهللَّ وجه المدرّس بالدهشة ، وغمرت دواخل التلميذ غيوم الزهو مثلما أٌسقِطَت بيد الموجّه الذي أصرَّ على الإمساك بسلبية يخصُّ بها المدرّس .... ولأنَّ الأسئلة الأكثر تعقيداً قد تُربك أذهان التلاميذ ، خصوصاً وأنّهم في أول سلّم التعلّم فقد أعاد السؤال :
- ومّن منكم يعطيني اسم حشرة نافعة أخرى ؟
امتعضَ التلاميذ للسؤال ، وظنّوا أنَّ زميلهم قد أنقذهم من ورطةٍ كانت قيّدتهم إلى كراسيهم ، فمَن سينقذهم الآن ؟! .
ومن جديد تسلّقت عيونهم الجدران والسقف ، وشردت طيور أذهانهم تبحث عن فيوض الحل الصحيح .. وكان إنْ طرقَت الدهشة بمطارقِها على باب ذهول المدرّس ومعه التلاميذ ، ثم تجاوزتهم إلى الموجّه الذي أعلن صراحةً أنّ فارس الصف ومجتهده الأوحد هو هذا الفتى الشجاع الذي أعاد رفع إصبعه مرّةً أخرى ( لقد نسي اللحظةَ غايته بهذا الصبي الذي سريعاً توالد في رأسه الجواب ، وهو مقياس - لا يقبل الشك - للذكاء الثاقب .) فتوجّه إليه بالكلام :
- نعم ، يا ولدي .. قُل !
استقام التلميذ واقفاً ،،، وبشجاعة غريبة لم ينلها مطلقاً / أبداً ، من مدرّسه قبلاً أجاب :
- نحلة أخرى ، يا أستاذ .. نحلة أخرى ....


(3) ربيع سليمة

لم يكن ربيع إلاّ بديناً ،، وسنواته الثلاث عشرة تُعلن تقهقرها أمام هذه البدانة الباذخة . لكن روح الدعابة جعلت منه ندّاً بغيضاً لسليمة الجالسة على بعد أربعة كراسٍ وخمسة تلاميذ .. فما أنْ تنهض هذه الدائبة النهوض لإعطاء الإجابات لجملة الأسئلة المُلقاة من مدرس اللغة حتى يلتفت ، وبنظرة ماكرة يطلق ضحكة مكبوتة تنفر لها سليمة ، بينما تتيه عن الأستاذ الذي يستدير إلى السبورة بغية تدوين إجابة البنت الصحيحة جدّاً ... بيدَ أنَّ بوادر الامتعاض تبقى مرتسمة على وجه المُحتجّة . وبإمكان المدرس سماع هنّـة طويلة ، رافضة من العينين الفتيتين مثلما يشاهد ذبول الابتسامة الساخرة على شفتي ربيع ،، فتحتضنه ذكرى ، ويتيه تذكُّراً [ تأخذه أعوامه الأربعون إلى حيث مدرسته النائية ، تلك التي غدت الآن معسكراً بعد أن كانت مختبراً بشريّاً يلجّها الطفل طيراً فيبرحها طائراً أثيراً في سماء الاعتداد والمعرفة ... يعود ليتذكّر فتوّته ، وتلك التي شكَّلت له عقدةً تركته يجمع أحجار البغض لكلِّ فتاة ، ويرمي بها كلَّ إمراةٍ عندما أدخلته تهافتات الأعوام حومة الرجال .. يعود لذلك الزقاق والصبيّة " وداد " التي تكبره بأعوام .. يعود لضحكاتها المكايدة ونظراتها اللعوب ، ثم كلماتها الغريبة تبعثرها أمام خطى أنظاره .... فما أن يترك البيت خارجاً وقد سرّح شعره وأعطى ارتياحاً للمشط المُظهِرهُ أجمل طلعة حتى تلتقيه لتُسمِعه الضحكة البغيضة ، والكلمة الجارحة ، والنظرة اللاغية لفحوى الاعتداد ... وما أن يرتدي بدلة الفتوّة الحديثة الرائقة حتى تنهال جيوش التهكُّم بسهام اغتيال البهجة ، وتمزيق شرانق الأحلام المستقاة من التباهي بالملبس الجديد .] ... واستمرت سليمة تعاني من مماحكاة ربيع / تجافي سلوكه المتكسر الاعتداد ... يرى المدرس ذلك فيتّخذ الحياد أولاً ثم يرشق الولد بنظرة رافضة ثانياً ؛ فيتلقّاها الأخير بسلوك منضبط .. لكنّه لا يفتأ يعود لممارسته المشاكسة ونظرته المكتومة لتتشظّى ، وستكتسح الوجه الممتلىء باحمرار السخرية ،، وسيسمع المدرس كالعادة هنّات سليمة واحتجاجها الحاسر للجبين ، المُقبِض للحاجبين / الكامش للشفّتين ،، وسيتلافى الحدث لئلاّ يتفاقم إلى احتجاج البنت بكلمات مبعثرة ودمعٍ غزير ( لقد شهدها عديد المرات تسفح دموعاً دافقة لأنَّ زميلةً لها تعدّتها بدرجات أحد الاختبارات .) . لكن الأمر هذا لم طُل إذْ الحكمة تُجاهر بأنَّ حبل التفكّه قصير ، فلا بدَّ إذاً من زمن سيفيء فتنقلب المعادلة [ ويرى الفتى لصيق الزقاق نفسه يبرح المدرسة التي صارت معسكراً لتدفع به لمدرسةٍ ثانية أعلى مستوى فتغيب " وداد " عن ناظريه ! .. إلى أين ؟ ... لم يسأل ...... يخلو الزقاق ، والفتى يعلو ، يبرح مدرسةً ليلتحق بأخرى في مدينةٍ نائية يكسب منها شهادةً عُليا ،، ويعود .... يرى إلى إمرأةٍ تدنو منه / ترسم ابتسامة / تلقي تحيّة / تقدّم دعوة لزيارتها ؛ ثم تلح وفاءً للأيام .. وأية أيام تلك التي خلقت منه نافراً ، ضجِراً من ملاقاة الأُخريات ... ولم تنفع كلمات البوح وصراحة القول بالحب الذي كان يتناسل في قلب تلك الفتاة التي تكبره والتي كانت تنطق قولاً وتخلق نظرة كي ما تُسقِطُه في شباك مودّتها ،، لكنّه آنذاك لم يكن يفقه تينك الأسرار ،، ولم يترجم عطر العلامات كاشارات للاشتباك .] .. واستدارت سليمة لتأخذُ حيّزها من التشفّي بعدما ألقى المدرس سؤالاً على ربيع حدسه جميع التلاميذ على أنّه فخٌّ رسمه الأستاذ له حيث وقفت البدانة عاجزة ، وحمرة الوجه استبدلت لون الاصفرار ... وانطلقت ضحكةٌ جهيرة / متشظّية من على بعد أربعة كراسٍ وخمسة تلاميذ تصلَّبَ لصداها الولد وجفَّت شفتاه ... ولم يعنه قوامه الهائل على الاستدارة للرد ، فتهاوى في كرسيّه ، ليُنقَل بعدها إلى إدارة المدرسة بغية الإسعاف والمعالجة .





(6) دفـــــوف

كان الفضاء الماثل يقطف الزغاريد المتصاعدة أعلى حوش الشيخ " مفتاح " عندما مرَّت النسوة الثلاث يخترقنَ حشد النخيل ويمزقّنَ الظلال الرطيبة .
الدرب الذي يتلقَّف أقدامهن الحثيثة يمر جنبَ ( الماجل ) الدائري الوسيع العائد لمزرعة مؤذن الجامع القريب ، ويقربهنَّ من نظرات الرجال المحتفين داخل الخيمة المستطيلة . قالت الأولى : " لابدَّ أنهنَّ أكملنَ مراسيم تحنية العروس ." وشدّت على عباءتها البنفسجية المطعّمة بدوائر لونية نافرة .. وافقتها المرأة المحاذية بكلمة : " ربّما " ! .. ولم تفعل شيئاً لعباءتها السوداء المزروعة بقطيع فراشات برتقالية مبعثرة ، بينما صمتت الثالثة التي جاء سيرها لاحقاً .. اكتفت بأنْ تطلّعت يميناً فرأت من بين كثافةٍ رجالية شباباً يحملون دفوفاً ينقرونها بضربات تتوافق وترجيعات الصدى .. تمتمت : " متى أسمع وأشهد كل هذا يا مبروكة ؟! " ( وكانت مبروكة على رفيف تهافت اللحظات تنظر في مرآة دائرية صغيرة أخذتها خِلسةً من صندوق أمّها الخشبي ، خارجةً إلى فضاء الحوش حيث أصوات الدفوف نائية لا تصلها .. راحت تُترجم ابتداءات الغضون أسفل جفنيها الهابطين على وجنتيها .. بأصابع كفّها الطليقة تجوس انحدار الرقبة باتجاه النحر متذكّرةً " عصرانة " التي توازيها العمر .. تخالها كاملة الزهو / غاطسةً برفَل الرداء الحريري / مثقلةً بلميع المصوغات الباهرة خضيبةَ الكفين والقدمين ؛ ثم الجدائل ) .
صخبُ الأكفِّ والحركة الجيّاشة داخل الفناء الضاج تلقّفت النسوة الثلاث وفرقتهنَّ .
الأولى : احتضنت أمّ العروس بعدما دفعها الفضول للبحث عنها وسط الجموع تُمطرها بالقُبل .
الثانية : حاولت الوصول لأداء نفس الدور لكنّها عجزت ؛ مأخوذةً بهدير أجساد الفتيات الراقصات ، والمصفّقات ، والمزغردات ؛ والغارقات في غَمَر التطلّع ورسم الأماني . فدفعها الهدير بعيداً .
الثالثة : فضّلت الجلوس قريباً من العروس تتفرّس بها ثم تتبادل الدور تخيلاً مع " مبروكة " الإبنة بذات الرداء وهاته المصوغات وذلك الخضاب ؛ لكنَّ مبروكة أجمل وأرق مقارنةً .. عادت التمتمة تتهالك على شفتي الأم : " لماذا لا يطرق الحظ بابها إذاً ؟! ... ابتسمت " عصرانة " لها فتداركت المرأة الموقف شاعرةً أنها ضُبِطَتْ من قِبل الفتاة فمدّت كفّها للمصافحة .. إلاّ أنَّ طراوة الحنّاء حالت دونَ الأداء ، فضحكت العروس وضاع صوت خجل المرأة في صخب الأكف .( بينما ضاعت مبروكة في زحام أسئلة آلت إلى سؤالٍ واحدٍ جامع يقول : " متى .. متى ؟! " مستعرضةً وجوهاً مُحتملة للاقتران كثيراً تخيّلتهم ولم تصطد أحداً . عادت تجوس تضاريس الوجه والقَسمات ؛ نادبةً الآمال والرجاءات أنْ : تعالي .) .. وسمعت المرأة من بين حمّى الضجيج صوتاً : " تعالي ! " ... نهضت لتواجه صاحبتيها يومئنَ ويخرجنَ .
راحت تتعقبهنَّ خروجاً باتجاه حشد النخيل الذي استبدلَ ضلاله بالظلام ، مُجترّةً مَذاقاً استحال مُرّاً ، ومتذكرةً بنتاً غدت خنجراً ينخز خاصرة الذاكرة ويوغل في ثنايا الروح




(7) قارة عافيــة

حين هبطنا مخلّفين العربات حذاء الطريق المعبّد حيث الكاميرات مُعلّقة في الأعناق ، والحقائب الجلدية المليئة بالأوراق الهاطلة من الأكتاف ساورنا شعور دافق لإشباع الفضول .. تطلّعنا فسمعنا من يقول : تلك هي القارة ؛ ذلك هو الجبل .
حثثنا الخطى تحيطنا هيبة المكان وشيع الصمت .. وما أنْ دنونا حتى التهمت ستائر هذا الصمت أصوات خفيضة شرعت تنهض تصاعديّاً من قلب الأرض .. أصوات خليطة تقود إلى استفهامات كبّلت أبصارنا الدهيشة تاركةً شفاهنا تتمتم حتى طغى عليها تعالي أصوات صرنا نسمعها . [ أفراس تهر / أرجل تضرب جسد الأرض / دربكة مربكة / اطلاقات هوجاء / قذائف صخيبة لمدفعية منفلتة مجنونة / صراخ تعقبه آهات / أنين تسبقه همهمات / كرٌّ وفر ؛ وحجارة الجبل - شاهد الوقيعة - يتلقّى صدرها كتل الحديد الحمر المتوهّجة فتبعثرها حطاماً ... الأفراس تتراجع هنيهات ؛ ما تلبث أنْ تجتمع فتعود مندفعةً بحماسٍ يؤجّجهُ إصرار مكين .. عيون الوجوه الغازية تتخفّى بأردية الرعب ؛ تلوذ بالآليات القميئة انتظاراً للقدر القادم ، نادبةً عثرةَ حظٍّ رمتها هنا .. ثمّةَ عينان زرقاوان حسيرتان كانتا تتابعان مشهد الموت الذي شرع يدنو منهما .] ..
قارة " عافية " ببئرها الزمزمي وجبلها المُخضّب بحنّاء الصخر وانكسارات صعوده أو هبوطه ، وحتى انعطافاته تحفر حدثاً شاءته وشماً يطرز جبهتها لتغدو جغرافيةً يحيكها التاريخ بمداده السرمدي فنرى [ جوقةً بيضاء من حشد المجاهدين تتحرك باندفاع هجومي محمولاً على لهاث الأفراس المحمحمة وعتمة الهزيع الدكين صوبَ التماثلات الآلية وقد بانت أهدافاً بازغة استهدفت تدميرها واستحالتها هشيماً ... تلك العينان الزرقاوان لذلك الوجه المحتقن الذي فعلت به حرارة الصحراء لفحاً ، تاركةً النجيمات المتوزّعة على قماش الكتفين ترجمتا عنفَ القادمين فتوجّست قدراً كثيراًما مرّت تفاصيله مُضبّبةً ما وراء الأجفان ساعات الانطباق تحت هيمنة كابوس متواصل وثقيل .. دارت أمامهما سريعاً صور الذكرى : الأيادي الملوِّحة : يدُ القائد الحالم بامتلاك الشواطىء والأعماق / يدُ الأمِّ التي من فرطِ بكائها عند رصيف الوداع هبطت ولم تعد قادرة على مواصلة التلويح / يدُ الزوجة المكتئبة ، المتهجِّسة من أنْ يكونَ فراقاً أبديّاً / يدُ الطفل الابن الذي لم يفقه ما يحدُث / ثم اليد التي أطلقت سهمَ البريق الحادث بإطلاقةٍ نافذة مزّقت صلادة الخوذة الواقية وانفلقت في صندوق الرأس .. والمهاجم الثائر من جرّاء احتدامه لم يلحظ العينين المرتعبتين تنطفئان ، بل سمع شهقةً خاطفة سرعان ما تلاشت وسط هدير الرشقات وصرخات الموت المُحتفي بازدهائهِ .] . شاهدنا فورات تتعالى خمنّاها زغاريدَ يُطلقها فمُ الأرض ... عظُمَ الحدث في نفوسنا مثلما قرأنا عنه وجئنا إليه .. راحت ذاكرتنا الدافقة بالتوفِّز تسترجع أسطر الصفحات ( 390-394 ) من " نحو فزّان " حيث غراسياني يتابع بقلب الخشية فشلَ حملةٍ أراد لها أن تكونَ مجداً شخصيّاً فطفق يستنجد بأسلحة النهار وأنواره كي تنقذه ورجاله من هذا الهول الماثل .
امتدّت أكفّنا نحو الكاميرات ترفعها ؛ وبعض استلّت الأقلام لترسم بالكلمات وتكتب بالصور مواقع تلك المأثرة ، رديفة المآثر العديدة الطويلة ، الحادية بالطامعين إلى الرحيل ، فيما ثرى الأرض ظلَّ يسرد حكاية ذلك الجبل الناهض وتلك القارة الخصيبة ببئرها الضارب عمقاً ، يختزن صدى القَسَم المنبثق من أفواه الرجال المُتَّحِدين / المُتَحَدين .









القسم الثاني

(8) قطرة حمراء فاقعة

تحت شجرة الأكاسيا الظليلة ، وسط ذلك الضحى الخريفي يقف " علي بابا" . تمر التي يسميها حبيبة .. تمر من على قرب ولا تنظر إليه / كأنها لا تراه فيعتصر قلبه .. يعتصر . ومن مفازات الدواخل ينطلق نداء الترجّي / تعلو صيحة الخنوع : آه يا طالبات المدارس .. آه تتعثر على مسارات الروح المليء بالمتاهات . تموت على تخوم اللسان . بيدّ أنَّ العين تبقى تتابع التي يسميها حبيبة .. أراه من بعيد فأقترب منه . دنوّي يُعري أوراق تلعثمه . أكتشف الارتعاش فاضحاً كذبة اتّزان يحاول اضهاره لي .. أقف لأكلّمه فلا أجد سوى عينين تمتلئان حيرةً وارتباكاً ؛ يرحلان باتجاه الدرب المنتهي بانعطافة سريعةً التهمت خاطفة القلب .. لم يتبق منها غير طيف حاول هو جاهداً لم أشتاته فلم يقدر .. أعود إلى الأيام الراحلة / البعيدة أحثُّ بقاياها على العودة لأرى تلك التي كتبت لها الكثير، الكثير ؛ وأجابتني بالصدود ، الصدود أعود لأتذكّر فحوى ما كتبت ؛ كلمات ما زال بعضها يشعُّ وهيجاً : ( لأنني أحبك بشراهة سآكل أمَّكِ يا غزالة ) و ( لماذا كلما اقتربت من طبيخة الباميا شممتُ رائحة قميصكِ المكرمش ؟ ) و ( آه لو أنني انقلبتُ مديراً لمدرستك لألغيتُ كتاب التاريخ وجعلتُ الدروس كلها جغرافية ) .. ومن نافذة ذلك البيت المتعالي بطوابقه الثلاثة ألمحها ، فتنفتح " روما " إزائي على مصراعيها . أهمُّ بالدخول راجلاً / منتصراً . غير أنّي أُفاجأ برسائلي تُرمى قصاصات / تنهال رذاذاً مدفوعاً بهواء ضحكتها الماكرة .. أندفع صارخاً كالمعتوه : " ماذا تفعلين يا حليمة ؟ ! .. ماذا تفعلين ؟ . هذا قلبي الذي ترمين وتنثرين !! .. وحين أفتح صدري كي ما أتحققّ لم أجده هناك .. هناك فقط ألمس جمرةً فاحمة أعطتني صدق اليقين . من يومها وأنا أعيش بلا قلب بينما صرتُ أبصرها من بعيد تمر .. أدنو فألتقط على ثرى السهوب القمحية أسفل عنقها قلباً ذهبياً معلّقاً بسلسلة صفراء مزَّقَ شغافه وأخترقه سهمٌ تشبّثت على حافة رأسه قطرةٌ حمراء فاقعة .... وأرى إلى " علي بابا " وقد داهمته انحناءة أظهرته أكبرَ عمراً .. أقتربُ منه ؛ وفي أذنه أهمس : " إيّاكَ .. إياكَ أن تكتب لها ." . لم أسمع له ردّاً سوى أنّ عينيه اللتين طفحتا بذبول غريب كشفتا تأخرَ نصيحتي ، لأنّني ما أنْ خطوت قليلاً حتى فوجئتُ بقصاصات وردية ممزقة ؛ مرّغتها باستهتار مقصود تعفّرات كتوف رملية موحلة .



( 9 ) نواصي الإدهاش

لا أدري كيف اصطدتُ أحلام مستغانمي بشباكي الجافة ونهر بحثي الضحيل ، سوى أنّني أمسكتُ قارورةً غريبةً أبلغتني حال رفع سدادتها بذاكرةٍ متعبة وجسدٍ شحيح مُفعم بالآه . لكنَّ المارد الخبيء سرعان ما طغى ، وعمَّ بسحابته فضاء الذهول .. وعلى نقيض " شبّيك لبّيك " أفردَ أمامي سيلاً من ورق ، وشلاّلات فائضة من هدير لغوي ، حين بللّني رذاذُ مفرداته شعرتُ بأننّي أستحمُّ بأفكارٍ عذبة / رقراقة من صورٍٍ تتالت فأغدقت على ساعاتي رحيلاً من ارتياح ، وأذكت قاطرات ابتهاج شرعت تقلُّني من محطّةٍ لأخرى ؛؛ وسفينة فضول أخذتني عبر مرافئ متراكمة : مرفأ فمرفأ ؛ أنستني كآبات الواحة وهربت من حولي أسوار الرمال المحمّلة بنبوءات الجفاف . [ ما زالت تلك الصبيّة تقصُّ سنوات ارتفاعها باتّجاه تخوم الشباب ؛ وما زالت " ذاكرة الجسد " تستعيد رؤى الرجل المبتور الذراع ، ولقاءها به على بورتريهات خلَقها بذراعه السليمة تحكي بعضاً من تاريخ انفصال توأمها ؛ ولتدرك غب التتابع الصوري المُشذّى بالوصف الشعري والبناء السردي المتعالي بآجرات لا تنتهي من الفنتازيا أنَّ لهذا " الغاليري " متوالية من الأسباب إخفاقاً وانكفاءات ، وللجسور العديدة التي حوتها اللوحات شفرات متسلسلة من تاريخ ؛؛ وما " قسنطينة " إلاّ مكاناً أشار إليه " باشلار " رمزاً في كتابه " جماليات المكان " ]..
ولقد اغتبطّتُ لذائقة " محمد علي زيدان " عندما قدّمَ لي مستغانمي جميعاً عظماً ولحماً وهواجسَ على طاولة التشريح القرائي مستجيباً لرأي طرحته يوماً عن هذا الاسم الذي دفع به الإبداع إلى نواصي الإدهاش ، فقال لي : ستصلك إلى الواحة . اجلس معها ، ولكن إيّاك أن تأكلها لأنني أكلتها قبلك ، وقبلي فعلَ آلاف القرّاء ، وحتّى لو غافلتني واعتقلتها داخل قضبان إعجابك فلن تحظَ بالتهامها لأنَّ أطباء الاستنساخ في " دار الآداب " صنعوا منها عشرات الآلاف . لذا تملّى اللوحات ، وحدِّق بالجسور . تابع فحوى الفتاة ؛؛؛ ثم لُجْ غوراً دواخل الفنان ستجد بعضاً منك فيه . [ لم يقص المقطوع الذراع سِفرَ آلامه لأنَّ كبرياءه يأبى ، إنّما جاء الإفشاء على لسان المتلصصّة لأعماق الآخرين تلك التي اسمها أحلام ، فقد جاهرت هذه الروائية على عاتق الرواية بأسرار هي من فحوى الخصوصيات فعرَّت مسارات خبيئة ، ودروباً مندثرة ، وغرفاً موصدة ، وصالات تراكمها الغبار ، وأملاً راعفاً شفيفاً ، وأمنيات لاهثة متعثِّرة ، واغتيال تضحيات وأداً ، ونيل مكاسب استحواذاً ،، ثم خطأ وخطل المعادلة الأبدية اعتماداً على " ميكافيلي " بعبارته الماكرة " الغاية تبرر الوسيلة " فقطفَ الورائيون فاكهةَ الأماميين ؛ وصارت الفتاة من عِداد الجُرح الأخير لقلبِ الفنّان / المُقاتل / الطعين . ] حتى إذا فتحتُ قلبي اعتماداً على نظرية " التداعي بالمعاني " لأرسطو ألفيته مُحتشداً بالجروح / ثخيناً بسكاكين غدر الأحبّة .. لذا كل ما فعلته حيال صولة القراءة في حومة يباب الواحة هو اجترار الذكرى وسكبها في عصارة الفيض السردي ، بانتظار مخاض النص ...


(1) " ذاكرة الجسد " رواية للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي ، نالت شهرة واسعة من لدن القرّاء .
(2) محمد علي زيدان : قاص ليبي .
(3) قسنطينة : مدينة جزائرية احتلّت حيزاً واسعاً في السرد الروائي .

(10) مقبرة .. ونزيل

دفنوه واستراحوا .. أهالوا فوقه تراب النسيان ، طاوينَ صفحة الأحاديث البائدة عنه مفضّلينَ عدم ذكر أو تكرار فحوى أفعالٍ ارتكبها بحقّهم فألمّت بهم تواليات من المآسي ، وأقوال إدّعاها زوراً على ألسنتهم فقادتهم إلى غياهب الأذى والعذاب , وإنْ ذُكر - لِماماً - صاح أحدُهم : " اذكروا محاسن موتاكم . " فتستعيذ الأفواه ، وتكتفي بالتمتمة .[ كانت المقبرة تعيشُ الصمت الأبدي وتتنفّس هواءً مُحنَّطاً .. الموتى ينعمون برقادٍ سحيق يعمُّه السكون ، وخلوة طويلة انتظاراً لليوم الموعود ... لكنًَّ حدثاً - بمثابة صراخ وصِدام وقرقعة سيوف خشبية مكتومة تتبارز - استجدَّ يتكرر في أماكنَ متفاوتة من المقبرة رجرجَ خارطة القبور ؛ مُقضّاً النوم الساري للنزلاء الأزليين .. صاح النائمون : ماذا يجري ؟! .. ولماذا هذا الصخب المريع ؟ .. نحنُ لم نفعل ما يُغيض ؛ لا ولا شأنَ لنا بالآخرين .. صمتوا قليلاً بانتظار مَن يرد أو مَن يلغي مسببّات الحدث عبر التوضيح ، ثم الاعتذار ... غير أنّ أسئلتهم امتصها الهواء المُحنّط ، وجففّها . ] ..
دفنوه واستراحوا .. أهالوا فوقه مراثي الفقد وأكواماً من النسيان المرغوب .. قالوا سيتولّى الملاكان مَهام استفهامه ، وعسى أن يدوّنا في أجندته ما يعينه على الاستغفار فينال عفواً ربّانيّاً [ تضرّعَ لهما وهو يتعفَّر بغبار الوحشة ، مُعلناً أنها النفس الأمّارة بالخبث قادته إلى مسالك السوء فآثر إغاضة الآخرين ، مُبتهجاً لعذاباتهم .. أفصح أنَّ ترياق لذّته كان صديد جراحاتهم ؛؛ وفاكهة روحه المُرتجاة لا يقطفها إلاّ من جنان صرخاتهم وأنين نفوسهم ، وكمد دواخلهم .... حيال اعترافاته أعلن الشفيعان إنَّ خالقه شفوق رحيم . فاستقرَّ رائقاً مطمئناً .. وزاد من اطمئنانه استقبال الموتى له بحنوٍّ دفيء ومواساة رهيفة ، قائلين : هذا حال الأولين ومآل القادمين ، فلا تتكدّر . نحنُ أخوّةٌ لك وأخوات .]..
قطعاً سيصير ذكرى لدى الآخرين ،ويوماً بعيداً . والحياة تأخذ مجرى النهر الذي أوّله منبعٌ وآخره مصب . الناس فيها ماءٌ جارٍ ، يستأنسون الأرض المنسابة مثلما يجزعون للتعرّجات والانكسارات المبُاغتة / غير المحسوبة ... لكن ضجر النائمين تفاقم ؛ وتعالت شكاواهم . أمسوا - ليلياً - يُقتحمون بصراخٍ وضجيج / تصادم سيوف خشبية مكتومة / تكسُّر آجرات جدران ، فيصرخون بأعلى طبقات تذمّرهم : ما هذه الفوضى التي حلَّت لتسرق رقادنا ؟! وكيف حصل هذا التغاضي عن محاسبة الجُّناة ؟ .. من يرتكب هذه الفوضى الهادرة ؟ ولماذا؟! ..
طفقوا ناهضين .. تركوا أجداثهم وتحركوا صوب رقعة الحدث .. وهناك رابهم المشهد وأفزعهم . رأوا أقرانهم الموتى في حومة صراع يتقاتلون . أسلحتهم عظام يتقاذفونها ؛ وشاهدات القبور دروعاً يتّخذونها .. تتفكك الهياكل ، والصراخ يعلو : صرخات غضب / صرخات عنف / صرخات ألم ... ولقد هالهم الأمر لحظة أبصروا النزيل الجديد يتكئ على انهمار قبر يُتابع بانشراحٍ وجذل حيثيات الموقف ثم ينسلُّ متخفّياً ، بينما الذين خلّفوه تحتهم ظنّوا بموته أراحَ .. واستراح .




(11) رغاوي الصبـر

أطبقت كفُّ الرمال على نقاء الواحة فلوِّثت وجنات الصفاء بصفير يشبه العواء ...
اكتأب القابع في غرفته الحسيرة تحت بصيص مصباح تتشربه دكنة الجدران خلف منضدة خدَّشتها نقرات صفر أزالت رغبة التطلّع إليها بارتياح ؛ مثلما أثار امتعاضه صرير الكرسي الجالس .
النافذة المطبقة لم تشفع لفضاء الغرفة بقاءاً بعيداً عن الهياج الضاج في الخارج إذْ تمرَّدت عليها الثقوب فأباحت لألسنة الريح افتضاض بكارة الفناء ، واقتحام حُجُب العينين وسواتر المنخرين بفضاضة هوجاء .. أنتج الكيان الممتلىء بالكآبة عِطاساً هو أقرب إلى احتجاج الكائن على هلوسة الطبيعة ؛؛ أو رفض الكاتب لواقع يعيش جزئياته ( لقد قطعت عليه اللحظة بوح ذاكرة , و أطبقت على شريط ذكرى . ) . ذاكرة كانت تتحفِّز لاستنارة يرى من خلالها مسار أيام هاربة وجلسات هي من عِداد الألفة والحميمية ؛ مع صحاب يدخل معهم سجال التحاور بالرؤى افعاماً لذائقة ترتج بعذوبات القراءات اعتماداً على مواهب تحترق ، وإبداع يُخلَق ( يومها كانت ظاهرة " التناص " تناقش وسط آراء تتفاوت - يضمّهم مقهى أو تحتويهم أرصفة - بعضهم يقول : هي بدعة ، ومساحيق مصطنعة جيءَ بها لتُحسِّن قُبح وجه سارقي إبداع غيرهم فيما المناهضون يُصرّون على أنَّ ما نكتبه ليس إلاّ نتاج نصوص من سَبقنا ،، وهي جدلية لا يمكن القفز من فوقها ، استناداً على مقولة : " ما الأسد إلاّ خراف مهضومة " ... وها هي الرمال تسخر من استعادة قول ، واحتدام مقاربة . ) .
ظنَّ الأمر دقائقَ ستمر ، ثم تؤول إلى منتهى . لكنَّ الدقائق تمطَّت ؛ والعواء تقمَّص زمجرةً ،، لم يقتصر على فمٍ واحدٍ بل تجمعت حزمة أفواه لتبث القلق مدراراً .
سمعَ مَن يصرخ خارج الغرفة : " إنّها عاصفة !! " فضجَّت في مسمعه الكلمة ، مستحيلةً فَزَعاً :
عاصفة !! .... المفردة التي تفتح أمام كآبته شريطاً من اليأس ، والرعب ، والعصاب .
عاصفة !! .... سماءات متكرّرة / أنين موجوع / تمزّق أحلام / تشظّي وجود .
عاطفة !! .... نهار أخرق / ليل عار حيال جبال مجرّات الصقيع / جوع يُعلن تسيّده ، وشوارع صارت لافتات للضجر / أزقّة تحتمي بالهمود خشية العُري .
- ستتمزَّق خيمة الصبر - تمتمَ - ، ويتهشَّم عمود الثبات - صرخ - سيبدأ العراء من جديد وسيبحث عن منفىً قسري ...
عاصفة .... وصحراء !! .. وجود أُحادي في غرفة دكناء .. هجوم متوال بنقرٍ يشبه الحفيف المتعالي تحيله النافذة إلى سقوط قذائف " هاون " فتذكّره بالحرب الأولى .. ثم يتفاقم انفجارات مهولة تعيده إلى الحرب الثانية فيدرك أنّه وسط حرب ثالثة مُعلَنة تُحقُّقها الذكرى وتنفذها الرياح ... لم يرَ كما كانَ يحصل له في ساعات الهناء جدرانَ الغرفة تتراجع لتنفتح على فضاء فسيح يدفع به إلى محفّات سرور مُنغَّم ، وأنسام ربيع راقص ؛ بل لمح - الآن - هذه الجدران تضيق وسط سيمفونية تُعزف على ايقاع طبول مجنونة تقوده إلى بعثرة ما بقي من رصيد عقلي يقارع به تقادمات الأيام الثقيلة ... صرخ : " لا ! " فتاه صوته في بريّة اللاسمع .. " لا ! " .. تصالبت العينان على السقف الهابط بتؤدة . تجلمد الجسد فهربت النبضات الرشيقة من الشرايين الحييّة ؛ داخلةً القلب الذي شرع يستجدي من الدماغ ايعازاً بهيئة فسحة تديم له لحظة من البقاء . . غير أنَّ الدماغ كانَ منشغلاً باستنباط صورة سريعة يبثّها في العينين المتصالبتين . صورة حشود أسى يتناسل رغاوي داجية فوق جمع بشرية منهمكة / منهكة تدفن أحلامها في يباب القتامة والتردّي ؛ والفعل اليائس ... ولكن ! لا يدري من أين أتته نبضة الأمل الشاردة فأمسكَ قلماً ليدوِّن حصيلة وعي أثبت تفكّك المعادلة ، وبأس إشراق ظنّهُ خيمة ستهفو إليها النفوس التوّاقة للظلال الرطيبة ... حين أتمَّ التدوين تشكَّلَ نصٌّ مستل من تناص ،، وقهقهة متعالية / متتالية ظلّت ألسنة الريح تلوكها بانتهاك صارخ في فضاء الشماتة ، والتشفّي ، والتقريع .




(12) فـلاش بــاك

تفتّت الغيمة البيضاء لحظة أطال النظر في تواليات الريح وهي ترسم بواكير مقدم الخريف ... لم يكن يدرك فحوى الأمر عندما داهمته فكرةُ تجسيد حاول كثيراً جعله من عِداد اللا ضرورة لوصفه / اللا قبول لعرضه .. قالت له : سيجعلك البعدُ عن الديار تكره تفاصيل الحاضر ، وسيدفعك إلى العدو كالمعتوه خلف سرابات الذكرى التي ستتفاقم رويداً ، رويداً فتخسر بذلك تجارة الحاضر ورصيد الماضي ، وسترى إلى مستقبل تتراغى ضبابيته تماماً كما هو كل فرد من أقرانك أو أندادك آثر الضياع وصولاً إلى القطب المميت . ( تناثر جسدُ الغيمة وتفككَّت الأعضاء . تشكّلت جرّاءها أبعادٌ هلامية لا تمت لفحوى الأصل ... رأى قرناً يحاور ذيلاً ، ولبوة تفقد بطناً فيستحيل خطماً لخنزير ... رأى جذع شجرة يتهاوى بآلية بليدة ، ورموشاً بشرية تسيل كالدمع الضنين .) بحثَ عن قلمٍ دسّهُ في جيب بنطاله ليجعله سهماً يفتك بجسد أية فكرة ستداهمه . ( إنّه يتوقَّع هجوم الأفكار الدائم ، ويتحسّب للغواية المنبثقة كإصبع سحري من سيح رملي . ) .
قالت له : سأكتبك قصّة أو أدوّنك قصيدة .. سأرسمُك معبداً مهما أبديت التنبؤ وتوقعتَ الذي سيحدث أو اللا يحدث .. سانحتك على قراطيس الذاكرة ،،، وسأطبعك على جباه الفجر . لا بدَّ أن أخلِّدك ، قالت ،،، عندما تشوِّشت إزاءه شذرية السماء ؛ وطفقت أشرعة الريح تبعثر حيويتها تمزيقاً لصفاء الفضاء الفسيح ... تذكِّر خريفيات بلدانٍ شمالية جابها زمناً مقارنةً بوجوده الماثل في واحة هي نقطة خضراء في مدٍّ رملي مفازاتي بلا حدود ... تذكَّر أنسامَ بليلة كانت تحمل أرائج لحاءات الشجر العملاق ، وقوامات الأغصان المتعانقة للغابات الناهضة توالياً ... عادت إليه صورة الأوراق الزاحفة بتحريكٍ حفيف على الخمائل الخضر ؛ عارضةً صفرة ذهبية كنبوءةٍ لا تقبل التردد بفصلٍ سيأتي ... تذكّر ساعات الحالمين وأنظار السائرين على أديم الرومانس ، هنالك في جلساته المتكررة على المصاطب الوفيرة ، متابعاً حركة الناس الرافلين بحبورٍ جنائني أو راحلاً يترجم فحوى المقارنة بين واقعٍ وآخر ... تذكّر " بوشكين " ومعشوقته " ناتاليا كونتشاروفا " التي غدت زوجةً قادته تحت تأثير حسد الآخرين إلى فم الموت ... تمتم أشعاراً من " كيتس " الحالم ، الرافض لجيوش " فايروسات السل " تفتك برئتيه الغضّتين . وحين مرَّ على " ديستوفسكي " تكدّر .. كان وإيّاه يتقاسمان " الصرع " ؛ يهبطان وادي الآلام ويشربان من منهل الوعي المرير ... تذكّر " مايكوفسكي " وقراره في وضع حدٍّ لتجني وإيقاف خيول الاحترافات الصاهلة في ميدان روحه المُعذَّب ، فانتفضت في رأسه فكرة سوداوية تقرِّبُهُ إلى اعتقاد أنّه مُنتحر في هذه الواحة وإنْ بدا متعافياً ،،، ميّتاً وإن أظهر نكراناً للهزيمة .
آثر النهوض ، تاركاً مساحةً سطحية لتلٍّ اعتاد اعتباره منبراً لتفريغ الهموم ، ورمياً للحظات الشقاء . نهض مشفوعاً بهمسٍ يتعقَّبه .. عرفه : صوتها يمارس المناجاة ، ويلاحقه بهراوات التحذير مستلَّة من طوايا الحِكَم .. لم يلتفت ؛؛ فضولُها استحال ظلاًّ يلتصق به . ، وقلمه صار يخلق وعوداً تشي بالاحتفاظ / تسعى للتحقيق . يدري أنَّ النهار يطول . والأطول دهاءً لسان الليل يخاصمه بالقلق ، ويأتي إليه بعربات الهموم ، وكوابيس ، والتطيّر .
في غرفته المسكونة بالصمت فوجىء بها تجلس عند منضدته ... وتكتب :
" من مكاني النائي ؛؛؛ من ساعات تفكّري أنتقي كلماتك فأعزو حزني لتهالكات كبريائك ؛ ذلك الكبرياء المتخفّي بين ثنايا رداء التكلّف ..... هل وصلتكَ تحايا الثبات ؟! ... ألم تستعن بجَلَد المسحوقين بالآراء الكبيرة ؛ الناشدين رياض الشمس سنرفل على ثراها أنا وأنت معاً؛ ألم ؟! .. " .
عندما مدَّت أصابعَ أنحلها الارتعاش كي تتحسس وجهها غزته غرابة الموقف / باغتته الورقة الزرقاء تضمُّ أسطرَ ، ولم تكن - هي - هناك ... كانَ الكرسي فارغاً ؛ فقط استقرّت عيناه على طابع يحتل زاويةً من مظروف دوِّن في وسطه اسمُ بلده البعيد ، وصدى أنفاسٍ هي من بقايا ألقٍ سحيق ....




(13) أنفاسها والشباك

اكتنفه الغموض ، واعتراه طيفُ البَلَد .. طارت به فقاعة الهيام محمولاً على حلم التقاء حُقبة الأيام التي مرّت واستحالت قبضَ ريح .. ينده بها ألاّ تتوارى فتواريه تحت رمال العسف .[ حين رسمَ أولَ قبلة مغموسة ببراءة شفتيها وانسحبَ منتصراً تهاطلت عليه أقواس الشمس تُدبج لوحة الرومانس المُداف بأرائج القرون الوسطى ؛؛ تلك الاحتفائية المذهلة بالماحول خروجاً من قيد المألوف / عدواً باتجاه قلاع الحرية / استبدالاً حوارات العيون بمفردات الشفاه .. ولم تقل له " : ما بكَ تعتصر قلبي حتى تسحقه ؟ " .. كذلك لم تفـه بامتعاض يُترجم العَتب ؛؛ إنّما قالت : " كلماتُكَ كقبلكَ ، مزيج من عسلٍ وارتعاش ." فعاجلها بضحكةٍ لها امتداد كركرات حفنة عصافير ، يداعبها الفجر الرطيب ... وكان عليه أنْ يخبرها بـ " شيللي " ، ويُسمِعُها سيلاً من شعره الروحي كتعبير من موجة رومانسية / سحريّة تلفّهُ ،،، لكنّها أغمضت عينيها ، وتمتمتْ جَذِلةً : كفى .. كفى . ] يُجاسد أيامَهُ بالتفكُّر ، لائماً النفس بألسنة الحسرات ، مُقلِّباً صفحات الأمس فلا يحصد سوى رسائل النائين ، يُعنِّفونه بالأسف ، ويدعون خطاه للقدوم .. يطالبونه بالذكريات الخوالي / بأحاديث الضفاف / بالأرائك التي كانت تضم شوق اللقاءات بينما هو منشد للواحة والنخيل والوجه الذي ناجاه ألاّ يبرح " مدوين " .. [ لملمَ أنفاسها ، واحتوى بشباك أصابعه اللؤلؤ المنسكب من مرفأي بحريها الغريقين .. بعثَ إليهم يرجوهم أن يرحموه ؛؛ ومع أسطره المُسترحمة أردفَ قارورةً من هذا اللؤلؤ .. قال ضعوه في بوتقة مشاعركم ؛ وأضيفوا إليه من كيمياء عواطف قلوبكم ؛ ثم اخرجوا بدلالات بقائي . ستدركون انشدادي ،،، وستحصد هي سنابل دهائها في تصمّغي إزاء صومعة ناظريها .. ولا أدري إنْ كنتم ستقتنعون أم سترددون تذمراً : كفى .. كفى .] ..
قطعوا عنه الإجابات مُستميلين إلى الصمت ، أو ربّما الاستهجان ، أو ربّما اعتبروه من قطيع المتخلّفين / اللاهثين خلف سرابات السذاجة والبَلَه ، فيما هيَ بكل سكاكين الواحة قطعت حبال انشدادها إليه ؛ مُستجيبةً لنداء البوادي ،،، فإذا الزغاريد تفتضُّ سماء ذهوله ؛ وإذا الحنّاء يشيع شذاها مُستعمراً الفضاء ؛ وإذا النداءات ترتدي معاطف الرماد ، ونجواه تتعثّر بأرجلٍ عمياء ؛ وإذا به يبعث إليهم ليطلعهم بخطل قراره ، راجياً أن ينجدوه ولو بنفحةٍ من رمال المواساة .




(14) عاطفة محايدة

سكبَ الصباح ضوءَه على الهامات العالية لتلال الواحة ، وسال منحدراً ليجلي عُتمة التضاريس مانحاً إيّاها التكوينات الحقيقية بعدما ظلّت طوال ساعات الليل ترتدي أشكالاً جثوميّة دكينة .. وحتّى الكاتب الذي هيمنت عليه فكرة طرأت مباغتةً استمرّت لوقتٍ زحوفي يرثي وحدانيّته الماثلة رغم أنّه كان زماناً مضى يستعذب هذا الانسلاخ الروحي رحيلاً باتجاه استكناه الأشياء ، وتأمل حيثيات المسار الذي سلك ... وصفته أول واهمة كانت تكتب لوا عج حبِّ مراهقةٍ بأنّه مُعقَّد ويحمل مبررات الجنون ؛ فيما اغتالته آخر عاشقة ولم تنثر ورود علاقة ظنّتها ستخطو محفوفة بأكاليل الابتهاج والسِفر العذب ، بل أطلقت عليه كلمات امتعاضها وعلّقت على جدار رفضها عبارة : " أنت مقترف فكيف أقضم السماء .. بليد فمن أينَ لي بالثرثرة ؟! ".
يحتفي بـ" فرويد " كتبرير لسوء أحكام أنتجتها بوتقة أفكار العشيقات .. هُنَّ يشغلهنَّ شيءٌ واحد ؛ أما هو فإزاء جيش من أشياء .. يبتسم لإحداهنَّ تقطِّع أصابع غيظه بسكّين التشفّي ، ويرسم قُبلة هوائية لتلك التي ضربت الأرض بقدمها مراراً دلالة الجزع ، أو اعتقادها بغباءٍ يكتسح كيانه فلم يدرك مرامها .
وعلى أجنحة العاطفة المحايدة توالى الفشل يختم تعداد الرحيل ؛ حتى آل الأمر إلى واحةٍ ترى في وجودها كينونة ناجزة ، لا تستطيع رفض ذكرياتها ولا تبغي فرمَ ذاكرتها ، فهي بين فكّين من مطحنة الزمن .. إذاً عليه تطبيق الفكرة وبعثرة تفصيلاتها على ثرى تواجده ... مدَّ كفّاً لاستخراجها من جيب ذهنه فلم يتلمّس شيئاً ... قال :" أينها ؟! " .. وتحسّسَ زوايا عقله .
خرجَ من غرفةٍ لأخرى فما جسَّ رائحةً لها ! ..
أينَ توارت ؟! .. لا يدري ..
تركَ الأمر للشمس ترسم بفرشاة لونها الذهبي على الموجودات ، ونهض يستحم بالسطوع حدّ الغرق .



(15) هواجس ممضّة

لحظة أطلّت من غرفتها في الطابق العلوي مستعينة بالشرفة لاغتراف حفنة هواء رطيب كانت النجوم قد توارت ، لكن الشمس لمّا تزل متخفيّة خلف أستار الأفق ... شرعت تمسح تفصيلات الحديقة أسفلها ، حيث الزروع الوطيئة تطفو على عتمةٍ تحاول الهرب من مقدمِ الصباح ...تطلعت إلى شجرة " السرو " الناهضة فأيقظت لديها شعور التوقف والنظر طويلاً إلى الجذع الذي أعادها لحلمٍ مرَّ بها قبل قليل ودفعها للخروج إلى الشرفة ... في الحلم رأت نفسها بعمر عشرة أعوام ، تتحرك وسط بهجة أبيها الجالس على كرسي – أسفل الشرفة - كعادته كل صباح ، على بلاط الأرضية الرخامية بانتظار كوب قهوةٍ ستأتي به الأم ساخناً ، يتابع قطفها لحزمة زهرات " دفلى" بيضاء تجمعها مكافأةً له على هديّةٍ قدّمها لها في واحدةٍ من ساعات التهنّي والانشراح . [ الهدية صندوقٌ صغير / لميع ؛ ما أن فتحته حتّى تجلّت أمامها فتاةٌ تحيطها هالةُ ضوءٍ . تقف على قدمٍ يحمل قواماً رشيقاً ببدلة رقصٍ شذرية ، تدور على أنغام بيانو مستحمّةً بالرومانس ..] .. بومضةٍ أبصرت يداً تخرج من جذعِ الشجرة تختطف – بحركةٍ خرقاء – الباقة مخلّفةً صمتاً مخيفاً يلطّخ الفضاء ... كان الأبُ يشهد التفاصيل لكنه لا يعدم يُظهِرُ ردّاً .. تعدو إليه صارخةً / فزعةً / مستنجدةً . بيد أنّه ببرود العاجز / الصاغر يحتضنها ... وقبل أن يُقبّلها على خدها يكون الحلم قد انتهى .
تفرّست في الشجرةِ فلم تستشف ما يريب ؛ إذْ كثيراً ما سقتها ولعبت أيام طفولتها في خثرة فيئها فما بالها الآن تعود لتمثّل فحوى الحلم ، وتظهر كما لو كانت عدوّةً ؟ ! ...
استدارت عائدةً لغرفتها , ألفت زوجها يرحل في نومةٍ هانئة.. الغطاء يدثِّر جسده إلاّ الوجه الغارق في دعةٍ وانبساط ... وبنظرةٍ زاحفة لمحت هديتها المقدّمة منه قبل ثلاثة أيام تنتصب على رفٍّ جمعت فوقه جملةَ هدايا أثيره عندها – لعل أحدها ذلك الصندوق الجميل / ابتهجت ... غير أنّ شيئاً ما كالهاجس خلق قلقاً . عادت تتذكّر موت أبيها بعد أسبوع من تقديمه الصندوق هديةً / مقتولاً بطعنات غادرة في حديقةٍ عامّة ضيّعتْ كلَّ أسباب القتل ، ومسحت جميع معالم الاكتشاف .
نفرت متطيّرةً .. تناولت الهديةَ .[ الهدية ماكنةُ قطار تجرُّ ثلاث عربات . خمّنتْ أنَّ كل عربة تمثّل عقداً من الأعوام ؛ والثلاث عقود هم عمرُ زوجها الذي يكبرها بعامين .. ونوافذ العربات مسدلةُ الستائر باستثناء آخر نافذةٍ من العربة الأخيرة ... هناك وجهٌ لقردٍ يضحك . خالتهُ يمدّ لسانهُ استفزازاً ..].. استدارت عائدةً إلى السرير تتدثّر ؛ مطوِّقةً إيّاه بذراعين مختلجين .
مرتبكةً / وجلةً قضت ساعات ذلك النهار ... وفي الليل صرفت وقتاً ممطوطاً تنتظر مقدم الزوج العامل في محطة قطارات المدينة ؛ ما لبثت أن استسلمت لنومٍ مربك /ٍ هزيز ، لتستيقظ على انطلاق رنين الهاتف في لحظة قاربت لحظات استيقاظها المفزع لكابوس الأمس.. نهضت مرتعبةً .
بموجةِ خوفٍ مُهاجم ، وتوجّس مريب رفعت السماعة تصغي لصوتٍ رجولي حنون :
- نأمل حضورك لمركز البوليس . ثمّةَ أمرُ يتعلّق بزوجِك . كوني هادِئة ...




(16) برج الثور الهائج

كأعوام من الشموخ الراعف .....
كتواليات من الجبروت المتهالك .....
كبرجٍ شرع يذوي دخين الهامة / هزيز الهيكل تبدّى الانتصاب المتعالي انفةً على الأقران .. ولم يكن التوأم المجاور سوى عيناً ترى بذهول الغمامة السوداء تبثّها كتلة الرأس كشعرٍ منفوش من دخان يتراكم ثم يشيع ... كذلك لم يدرك أنّه على موعد مع الجرح الذي سيحدثه سكين عصري طعن قرينه قبل دقائق ، وسببَّ له كل هذا التهالك مُحدثاً لكبريائه جميع هاته التمزّقات .. والشخوص الشمعية - من وراء نوافذ الأبنية المجاورة ، أو على أرصفة الطرقات واسفلت الشوارع تسمّرت تُطالع بعين الذهول أو بلسان الرؤيا تفصيلات التبعثر ... وفي صالونه الأنيق - في بيت الأحلام الأبيض - مدفوناً بالكرسي الوثير الهزّاز كان ماسك الأزرار والأقدار يرى من على شاشة التلفاز الماثلة إزاءه شريطاً حيّاً ظنّه لأحد أفلام " سوبرمان " فغاص في حوض الكرسي ، وقد علت مسحة من ابتسامة وليدة عرضتها له المرآة الرباعية يميناً على سطح الجدار المخملي الصقيل فتعالى ابتهاجاً ، موقناً أنّ " سوبرمان " سيظهر بلمحةٍ في حومة السماء ليعيد ترتيب المعادلة ... مدَّ كفّاً إلى غليونه يملأ جوفه بفخير التبغ وعذيب النكهة وليعطي لعود الثقاب مهمّة البدء فتعالى الوهج صانعاً سحابة فضيّة أمام ناظريه ، تمازجت مع تنامي الدخان البعيد - خلل الشاشة السحرية - وهو يزداد قتامةً .. وبومضةٍ خاطفة تنبّه إلى أنَّ رأس البرج واقع تحت وطء هياج جنوني أخرق ، وأنَّ السحابة السوداء آخذة بالتوسع وقد شمل تأثيرها هامة البرج القرين المجاور .. ومع كلِّ هذا راوده اطمئنان يسير بأنَّ السوبر سيظهر. ( ولقد ظهر ما يشبه الكذبة السمجة هيكل لطائر معدني أليف يتقدّم بكل اتّزان ليلعب لعبته المتقنة مع التوأم .. تلك اللحظة سقط الغليون ، وغابت الابتسامة منكفئة فيما تراجع الكرسي الوثير ، وغمر شاشة التلفاز عصفٌ من غمامة عصابية وفوران انفجاري ذهبي ندّت على إثره وسط الصالة المُعدّة بجمالية خالبة صرخة رعب ونداء يقول : أينك يا سوبرمان ؟! .. لكنَّ الشريط التلفازي استمر يعرض دون التفاتة للصرخة بكل واقعية ، ولكن بغموض ذاهل مثلما عرض تجشؤ السماء من كثافتين كاربونيتين لم تعهدهما ، ولم يمر بخاطرها أن تشهد هكذا أمر في هكذا فناء ... وحين دارت العين من على الشاشة لرصد التحت تسمّر الناظر لرؤية الهلع يكتسح الوجوه ، والرعب يدفع بها إلى الهرب مرّةً ، والتطلّع إلى أعلى الهول مرّات ؛؛؛؛؛ ولم يكن للسوبرمان من أثر . كان انهيار هائل قد جرى ذلك الآن للبرج الصاغر المُحتضِر ؛؛ وتهاوت معه آلاف أطنان الكبرياء مقرونةً مع رنّةِ هاتف سيروي عند رفع السمّاعة مشهداً آخر من فلم الصباح حدثَ في موقعٍ آخر من مواقع الخيلاء الطعين ..




(17) واحـة .. وفَتـاة

إلى فلسطيني .. شهيد العرب

ثراؤها يكمن في عذوبة اللسان ،، وأقواس البهجة تعلو على وقع خطاها . أمّا نحنُ فنحرق بيادر الوقت لهفةً لمقدمها الذي كالهلال .. كل ليلةٍ يجمعنا همسها وشوقنا الدفين للحكايا .. أيضاً شغفنا لما آل انتظار الباحثة عن يقين وعدٍ قطعه لها قبل رحيله بشهادة النخلة التي جلسا في ظلِّها آخر لحظات الوداع .
- نعم يا عمّة ؛ وماذا بعد ؟ ..
تقرأ في صحائف عيوننا أسطر اللهفة ؛ وتحصد من حقول رغبتنا سنابل الترقّب .. تُرجع خصلةً هادلة إنفلتت من هيمنة الخمار المطوِّق للوجه ، ثم توجِّه كفّها لتمسح رؤوسنا بحميميّةٍ :
- وانتظرت فتاة الواحة مقدمَهُ ؛ فقد مرَّ العام وتجاوزه بأيام معدودات ... كلماته مائية / عذبة تتوالى . تهمس لها تارة ؛ وتلج مسمعها بحرقةٍ تارات : " سأعود .. سأعود . وإنْ طال البحث . "
من صدرٍ احتبس زفيراً تطلق آهة عاصفة . ويخفت بريق تحاول مقلتاها إدامته :
- كانَ همّهُ ، يا أولاد أن يعيد حقله الذي سُلب أمام أنظار أمّه ، ويثأر ممّن مزّقوا أباه إزاء عينيه وهو صبي غُر .. وظلَّت فتاة الواحة كلّما استرجعت أيامها الأولى معه تستشف أمراً غامضاً كأنه السحر ساقها إلى شخصٍ دواخلُه أسئلة وعهود / دروبُهُ القادمة مخاطر ومفاجآة .. قيلَ أنّه أدرك مبتغاه والتقى مَن يمنحه سيفاً يُرهِب النفوس ذوات المكائد والضغائن .. كان واثقاً / مدركاً لجهدٍ سيبذله وتصميم أكيد سيعطيه يقين أنَّ أرضه ستعود ، وفتاتُهُ سترفل على خمائل حقله . ستتقافز بين سيقان الذرة الناهضة ، وبين نخيل غرسهُ جدُّهُ قبل نصف قرن ؛ وسينده : يا أمّي ، اليكِ هديتي ! اشعلي الموقد واستخرجي دلالاً أهملتِها بعد اغتيال أبي .. أعيدي لخيمة الضيوف هيبتها . دعي رائحة القهوة تعمُّ الفضاء .
تأتلق عينا عمَّتنا .. تتضافر من فمها الكلمات ،، ونرى إلى وجهها يحمر ، وجبهتها تلتمع فتروح تتحدَّث وتتحدّث .. تعطي أوصافاً لطلعته وكلاماً كالشِعر / مسترسِلاً عن شهامته :
- له يا أولاد كبرياء لا يمتلكها إلاّ قاطعوا الفيافي وفرسان الأهوال .. له هدير لا يقف حياله عُتاة الخيّالة الأشدّاء ... إذا تكلّمَ أصمَت ،، وإذا غضِبَ أخاف .
يزداد تبجحها به ؛ وتنطلق تطرفاً في وصفه .. قليلاً ونلمحها تتخلّى عن هدوئها المعهود في قصِّ حكايات سابقات . تنفعل وتهتاج .. ترفع كفّاً تومىء بها يميناً وشمالاً .. تطعن قلبَ الهواء .. تقطع أعناق أعداء وهميين .. يهولنا نهوضها ثم انتصابها تركل وتشتم ، وتنهال فتكاً ... ويتحرك أحدنا ذاهلاً يردد :
- عمّه !! .. يا عمّه !!
وتنسلخ من فصل احتدام رحيلها ، فتجد نفسها بوضعٍ تبهت له .. تعود مقرفصة . الصفاء يجلو من عينيها ، ويهرب الألق وبقايا نضارة احتفظَ بها الوجه . وتعود سنواتها الأربعون المنفرطة بعيداً ؛ حتى لنخالها عجوزاً تجمع الحزن والكمد أحمالاً على كاهلها .. يُفضِّل أغلبنا النهوض والعودة لبيوتنا خشية إحراجها ؛ لكنَّ غيرنا يحتشد برغبة معرفة الختام :
- وماذا بعدُ ن يا عمّتنا ؟
- وماذا بعد !! .. حسرتُها تقول مُتمِّمة :
- عاد واثقاً ؛ والفتاة تنتظر على أعتاب الواحة ؛؛ تماماً في ظلِّ النخلة التي ودّعها منه . أبصرته من بعيد على صهوة حصانه / يافعاً ؛ مثلّما شاهدت رجالات الواحة يخرجون لاستقباله .. ابتهجت !! . لقد تحقٌَّ الأمل ، ولم يعُد بينها وبين السعادة سوى أمتار من الدقائق رأته عبرها يترجَّل من الحصان ، فارداً ذراعيه لأذرعتهم التي أفردوها بدورهم ...... وليعاد به قتيلاً مُضرَّجاً ، فيدفنوا حُلمَ الجالسة تحت ظلِّ النخلة في ثرى الأحزان ؛ وليخلقوا منها حاكية تقصُّ غدر الأهل ؛ وانطفاء قلب القمر .

أخيرا ..........






http://www.ofouq.com/today/images/pics/writers/zaidalshaheed.jpg
زيد الشهيد

عراقي يقيم في ليبيا حالياً ، يحمل البكلوريوس آداب ( لغة إنكليزية )
صدرت له ثلاث مجاميع قصصية :
" مدينة الحجر " عن اتحاد أدباء العراق عام 1994
" حكايات عن الغرف المعلقة " عن دار أزمنة – عمّان عام 2003
" فضاءات التيه " عن دار ألواح - أسبانيا عام 2004
ستصدر قريباً عن دار أزمنة مجموعته الشعرية " أمي والسراويل "
ينشر روايته " الأب كما رأيته .. البيت كما أراه " في موقع كيكا الالكتروني .
يختزن جاروره في العراق روايته " سبت يا ثلاثاء " المكتملة منذ ثمانية أعوام ، وسيصدرها حال العودة إلى الوطن .
له مساهمات منشورة في النقد الأدبي ، والترجمة .
يواصل مساهماته التدوينية في مواقع : كيكا / أفق / ألواح / القصة العربية / القصة العراقية.

www.zaidalshaheed.jeeran.com

zaid532000@yahoo.com




القصة كاملة هنا (http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=Encyclopedia&op=xxxxxxx&tid=92)