المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتابة المكتوب موت المؤلف .. إحياء المؤلف .. أو إماتته


نوره عبدالرحمن "سما"
18-07-2010, 04:04 PM
كتابة المكتوب موت المؤلف .. إحياء المؤلف .. أو إماتته


http://www.alriyadh.com/2010/07/15/img/036715894827.jpg

محمد العباس
لا يكتفي سامي الجمعان باستعراض مظاهر وعناوين منجز سعد الله ونوس، بل يعيد إلى الأذهان بعض عباراته التي غدت بمثابة شعارات للتحرّر، حيث يقتبس من نصوصه بانتقائية واعية تخدم نصه، وبمنتهى الذكاء يوظّف كلماته للدفاع عن أبطاله وهم يعرضون كقضية إنسانية ملّحة أمام الجمهور، حيث يتقدم (القباني) من الجمهور ويصرخ بنبرة خطابية (نحن محكومون بالأمل، حقاً نحن محكومون بالأمل). وحينها يهتف (المتفرج) بعبارات درامية (الاستسلام أو اليأس كلاهما يعني الفناء، ونحن لا نريد أن نفنى.. في حياتنا حياة لن يستطيعوا قهرها). أما (حنظلة) فيوجه كلامه إلى (خضور) بجمل ذات طابع قدري (إذا أنت لم تحترق.. وهو لم يحترق فمن أين تأتي النار). فيرد عليه بنفس الإيقاع (صمتاً.. صمتاً ما نحن سوى تماثيل في الساحة. نحن الناس الذين كانوا والذين ليسوا الآن).
المسرحي الجيد هو من يقدر على إعادة اختراع أسلافه، والأب المسرحي الساطي هو من لا يتنازل عن حضور غيابه، وإلهام أحفاده بما ينبغي عليهم كتابته أو عرضه، وفي هذا الصدد يمكن القول إن سامي الجمعان لم يتعامل مع موت سعد الله ونوس من المنظور البيولوجي وحسب، رغم فصاحة الإعلان الإجرائي لموته، الذي لم يكن موتاً لذاته الكاتبة، إذا ما تم فحص نص وبيانات (موت المؤلف). وبالتالي فإن النص يمثل حالة إحيائية لا واعية بالمعنى الفني للكلمة. وهو في كل الأحوال مجرد نص على نص، بمعنى أنه من الوجهة التجريبية يدخل دائرة الكتابة المغلقة، التي تردّد مآثر ما قبلها، وهي حقيقة إبداعية، حاول أن يتفادى الوقوع فيها، إذ لا يُفترض أن نصوص (المؤلف الميت) تمتلك من الصدقية والرصانة، والقدرة على قول الحقيقة، تلك الطاقة الإطلاقية، والعابرة للأزمان، ما لم يعد تكييفها، وابتناء حقائقها الجمالية والفكرية؛ لتتناسب مع ذائقة العصر ومزاج الجمهور الجديد.



http://www.alriyadh.com/2010/07/15/img/212026636337.jpg
سامي الجمعان


إن الكتابة في المكتوب، مهمة إبداعية على درجة من الحساسية، تشبه حالة تعميق خطوط المنحوتة، من دون الاعتداء على قدسيتها. ومن الوجهة الكتابية، لا يستطيع المؤلف الثاني الفكاك من شخصيات ومقولات وأفكار المؤلف الأول، إلا بتحرير الشكل والمضمون. وهو أمر تم تحقيقه بشكل جمالي، في مزيج نصي يختزن جمالية الإمتاع والتعريف بالمؤلف الميت في آن، ولكن من دون أن يضيف إلى معاني الحقيقة أي معطى جديد، فجاءت المحاولة بمثابة تدشين مزار نصي للمؤلف، نتيجة ما يحظى به من إعجاب استثنائي من صاحب النص الرديف، وكأنه يستعير صوته، إذ لم يستثمر النص الجديد منظومة الشفرات المدسوسة في الأصل النصّي، بقدر الاتكاء على سمعة الكاتب وكفاءة نصوصه، وبالتالي لم يتقدم النص باتجاه التقويض وإحداث تلك الحركة التخريبية المأمولة في النصوص التجريبية، التي يتسم بها مسرح الإحتجاج والتناقض، الذي يحرّر الشخصيات من قفص الآلية والجبرية ويحقنها بالإرادة.
لم ينشأ نص (موت المؤلف) من منطقة إحتدام، ما بين المبنى الخطابي القديم، الذي لم يتم هدمه أصلاً، وبين ما يفترض أن يتم تدشينه كحالة نصّية جديدة، ولذلك لم يتضمن أي بؤرة للتوتر الدرامي، لدرجة أن الشخصيات كانت تتصارع بمنتهى الود، أو بمعنى أدق، من دون إبداء أي رغبة للتصارع، نتيجة انبناء جوهر النص على حالة من التصالح التام حتى مع (المؤلف/الأب) حيث وصلت حالة إجلاله حد التقديس، فالحب الغامر الذي أبداه سامي الجمعان لسعد الله ونوس، وما خلعه عليه من صور مفهومية وجمالية صارت هي الدعامة المركزية للنص، حيث الرغبة الأكيدة عنده للتعرف إلى أفكاره المهجورة. من خلال عبقرية الآخر، التي تعود عليه، حسب إمرسون، بقدر معين من السمو المغترب.
وما تلك (الحبكنة) الملذوذة، التي دبرها سامي الجمعان إلا طريقته الذاتية لتخليد أحد ملهميه، بمعنى أن المشروع كان في جانب كبير من جوانبه محاولة لاختراع أب مسرحي كبير في ظل غياب أب مقنع في الجوار، حسب المفهوم النتشوي. وبالتالي لم يجب النص على متوالية من الأسئلة المهمة؛ لأنه لم يسألها أصلاً، إذ لم يحمل ولو إشارة ضمنية على تمرد المُريد، أو أي حركة من الحركات التنقيحية، بتعبير هارولد بلوم، في مجادلته لقلق التأثر، وبالتالي يصعب قياس إنحرافه الخلاق عن الأصل، لأنه لا يستبطن تلك النوايا لتوسيع هامش الحرية وقول الحقيقة من منظور يتجاوز مرئيات الأب.



http://www.alriyadh.com/2010/07/15/img/301048837085.jpg
سعدالله ونوس


إذاً، كل ذلك الاحتفاء الجمالي والمفهومي بقامة مسرحية في حجم سعد الله ونوس لم يوّلد ذلك النص الذي يحمل الطابع التخريبي للأدب، الذي يعادل الحس التجريبي، بقدر ما أنتج نصاً تعليمياً مكثفاً يضغط كل نصوص المؤلف الميت في كبسولة فنية مؤثرة، بمعنى أنه قدّم الأفكار ولم يبث روح النصوص بالقدر المستوجب. وهنا ينبغي العودة مرة أخرى لما يفترضه رولان بارت بشأن النص، لقياس منسوب الطاقة التغييرية، في نص (موت المؤلف) وجس قدرته على قول الحقيقة، ليرتقي من الوجهة المسرحية إلى مستوى الفعل التحرّري، إذ لم تعد الكتابة تعتبر برأيه (ضريبة للكاتب تجاه المجتمع، بل أصبحت تعتبر فعلاً نصياً معبراً عن تحررٍ ثقافي).
وبهذا المعنى تنازل المشروع عن جانب هام من مهماته، فالنص المسرحي بمعناه ومقاصده التغييرية، هو حالة استكمالية للحركة الإجتماعية التاريخية. وهذا ما ينبغي أن يؤديه نص (موت المؤلف) حسب استراتيجياته المعلنة، بمعنى أنه يراهن على الأثر أو الفعل الثقافي التحرّري المنذور لاختراق الحدود المرسومة، وليس على المقروئية، وإتقان اللعبة التركيبية التداولية للنص. وذلك هو المعيار الذي استكمل بموجبه رولان بارت شروط كفاءته بالقول (إن دخول الاجتماعي في النص لم يعد يقاس لا بشعبية استقباله، ولا بصدقه في عكس الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي يختزنه أو الذي يمنحه لبعض السوسيولوجيين الذين ينتظرون استقباله بشوق، ولكنه أصبح يقاس بدرجة العنف التي تمكنه من تجاوز قواعد يصنعها مجتمع أو أيدلوجيا أو فلسفة، بغرض تحقيق الإنسجام في حركة تاريخية جميلة وواضحة. إن هذا التجاوز اسمه الكتابة).
بمنتهى الوعي والحماس والإعجاب يغترف سامي الجمعان من نصوص سعد الله ونوس وحياته، ولكنه لا يخرج بكل تلك الحصيلة من مداراته، ولا يسقط عليها شيئاً من مزاجة، رغم براعته الواضحة في إدارة النص، وتدبير حيلته من الوجهة المسرحية، ولكن النص، لا يزحزح البُنى المتحجّرة، ليوّلد معانيه وقيمه ولغته البديله، إذ يُفترض، حسب الاعتقاد البارتي (إن يأخذ الكلمات المستعملة والمستهلكة والمسعّرة بالنظر إلى التواصل العادي، لكي ينتج شيئاً خارج الاستعمال، وبالنتيجة خارج التبادل.. إن الموضع الأدبي جوهرياً تخريبي إذن، لأنه إذا كان للكلمات معنى واحد، وهو معناها في القاموس، وإذا لم تأت لغة ثانية لتعكير وتحرير يقينيات اللغة، فلن يوجد أدب).
ثمة حقيقة مشبّعة بهواجس الحرية في نصوص سعد الله ونوس. وبالتأكيد، لم يكتشفها سامي الجمعان بالمصادفة، بل اجتهد للعثور عليها، نتيجة حب واعتقاد، فهو ليس من الأبناء الذين يسيؤون فهم آبائهم. وقد كان جريئاً في قولها، كما أبدى ذكاء فنياً مبتكراً بالفعل للتعبير عنها، تماماً كما يفترض برتولت بريشت، ولكنه أدخل تلك النصوص في دائرة مغلقة، حيث أكثر من الطرق في بيانه على مفردتي (النص والكتابة). وهو اتجاه يدل على أنه معني بالتجريب على مستوى النص، وفي لغة المسرح المقدّسة تحديداً، وليس على مستوى العرض بكل أدواته وأبعاده وتداعياته، فكل أبطاله يتكلمون، ولا أحد منهم يجيد التمثيل الصامت، أو يحضر من خلاله.
ذلك يعني أنه يجرّب في محدودية الأدبي، لا في وساعات المشهدي، كما يؤكد خضوعه كمسرحي لسلطة الكلمة، الموروثة في الأساس من سلطة النص الأدبي في الثقافة العربية، التي تهيمن على نصوص التجريب المسرحي كاستجابة تلقائية لسلطة الأيدلوجيا، وعلو نبرة الخطاب السياسي، وزيادة جرعة الثقافة التي تشكّل تهديداً صريحاً للدراما، حيث تعمل في الغالب كطلاء ثقيل لطمس الغريزي والفطري. وهي تراكمات أدت إلى انغلاق نص (موت المؤلف) على ذاته، وتحويل شخوص سعد الله ونوس إلى تماثيل ثقافية ناطقة، وبالتالي عدم فتح مسامات النص باتجاه المسرح الذي يمكّن الفرد من كتابة ذاته، والسيطرة على نفسه ليحاور العالم.
وبهذا الاتجاه الذي يغلّب هاجس التأليف على العرض، يكرّس سامي الجمعان حالة التجريب المنغلقة، التي تتخذ من النص مكانها، وتهبه السطوة الكاملة، والأخطر أنها تضفي على كاتب النص هالة عظمى، تعزّز مكانته كركيزة للتجريب المسرحي، الذي يراهن على الكلمة وما يتوّلد عنها من تداعيات أيدلوجية، مع تطعيم النص بخبرات ثقافية متأتية من دوائر نائية، لا تسمح للممثل بما هو المعادل للكائن بأن يعبر عن طاقته إلا من خلال مختبر النص، بل أن المخرج ذاته يمكن أن يظل أسيراً لسلطة النص، الأمر الذي يعنى أنه لم يضع في حسبانه وهو يكتب نص (موت المؤلف) زعزعة تلك السلطة، ليتجاوز إشكالية من إشكاليات كتابة النص المسرحي.
منذ عبارة أنتونان آرتو (سنقوم بالإخراج من دون أن نلغي بالاً إلى النص) صار المسرح المعاصر يتعامل مع النص على أساس لكونه مجرد منتج موضوعي، وبالتالي فهو ليس الركيزة في اللعبة المسرحية، حسب القراءات الحداثية وما بعدها، بل هو خارجها، مقابل الخبرات الرؤيوية والمعرفية والجمالية للمخرج، إضافة إلى أدائيات الممثل، وبالتالي يمكن أن يكون نص (موت المؤلف) مجرد خميرة أولية مؤلبة لتركيب نص، وليس هو النص الناجز المفترض أن يُمثّل. إذ يمكن لفريق العرض تفسير أفكار تلك اللفتة الذكية، كل من جانبه، بمعنى التدرّب عليها والاشتراك في كتابتها، فالنصوص المسرحية الحديثة لا تستقر إلا بعد أن يصبعها المخرج ببصمته، ويعبث الممثلون بسياقاتها، لأنها لا تُكتب أصلاً لتُقرأ، إنما لتؤدى.
هكذا ينبغي أن تؤلف كل شخصية شخصيتها، وترسم دورها في العرض، بمعنى تأويل الشكل الذي ينبغى أن تكون عليه، فيما يتخفف سامي الجمعان من دوره الاستحواذي كمؤلف، ليقوم بمهمة إعادة ترتيب الأفعال والصور والمشاهد، ويبقي على مساحة معقولة للحذف والتعديل والإضافة، فالمعالجة النصيّة عملية إبداعية تقوم على التركيب المعماري التصاعدي، التي تسمح للنص ككائن بيولوجي بالنمو والتكامل. وذلك هو الكفيل بتحريك المختبرات المسرحية، المفتوحة على الخبرات الثقافية للخطاب التمثيلي، وتجاوز المختبرات النصّية، بمعناها المعتاد، الرافلة في الكلامية، فكلمة المؤلف، حسب بريشت (غير مقدّسة أكثر مما هي حقيقية. والمسرح ليس خادماً للمؤلف، بل للمجتمع).


* مقطع من الورقة المقدمة في ملتقى النص المسرحي الأول في الرياض ١٠ – ١٢ يوليو



المصدر (http://www.alriyadh.com/2010/07/15/article543962.html)

عاشقة مجدك
18-07-2010, 04:51 PM
ماشاءالله
دائماً مواضيعك رائعة و متميزة
يعطيكي العافية

نوره عبدالرحمن "سما"
18-07-2010, 05:06 PM
الله يعافيك أختي و أشكر متابعتك المتميزة لا حرمنا الله منكم ،،