المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إدارة عموم الزير


نوره عبدالرحمن "سما"
27-07-2010, 01:33 PM
مقاله أعجبتني كثيرا الشاهد فيها :

شدة التعقيد و البيروقراطية في الإجراءات و الطرق و الأساليب في العمل تصبح غاية لا وسيلة لتحقيق الأهداف مما يعطل الإنجاز و يحيل دون الوصول لتلك الأهداف

إدارة عموم الزير

http://www.alriyadh.com/img_s/cf/cfbad901408a75f0f37f6bbbca4e656d_w82_h103.jpg


*د.محمد بن أحمد الرشيد (http://www.alriyadh.com/2010/07/27/article547259.html)



إني كثير الترداد لقول ان ما يبطئ بخطوات التطور والإنجاز في مجال عمل الوزارات والمصالح الحكومية في كثير من البلدان هو (البيروقراطية) التي تضرب بجذورها في الأعماق




نحن الآن في الإجازة الصيفية، وما أحرانا ان نستريح من وطأة العمل إلى سعة الصدر، وفسحة النفس، وفي عموم الزير عموم الضحك، وخصوصية الفكاهة. فكلما تأملت في الإجراءات الإدارية، والمعاملات الرتيبة الروتينية في أعمالنا اليومية، وأجهزتنا الإدارية تذكرت قراءاتي المتعددة للدكتور حسين مؤنس في روايته الشهيرة الطريفة ذائعة الصيت (إدارة عموم الزير)، وكما يعرف كثير من الإداريين فإن أحداث هذه الرواية، أو ما يشابهها أجزم أنه يتكرر في كثير من الإدارات الحكومية في كثير من البلاد العربية.

***

تحكي أحداث هذه القصة الخيالية ان أحد الولاة في يوم شديد الحرارة كان يتفقد أحوال الناس فوجدهم يتزاحمون على الذهاب إلى النهر ليشربوا.. فأوجعه عذابهم المستمر في هذا الحر الشديد ليشربوا من هذا النهر.. تشاور مع رئيس ديوانه، وبعد أخذ ورد في عمل ما يرحم الناس من هذا العذاب اليومي للشرب من هذا النهر.. رأى الوالي وضع (زير) تحت شجرة في الطريق، ويعين له عامل يقوم بملئه وحراسته ونظافته وأعطاه دنانير من ماله الخاص، وكلفه بشراء زير وما يلزمه، وقام المسؤول بتنفيذ ما أمر به الوالي.

***

وذات يوم وهذا الوالي في منزله رأى زيراً تحت شجرة من أشجار حديقة منزله، فتذكر الزير الذي أمر رئيس ديوانه بوضعه في طريق الناس ليشربوا منه؛ فسأل الوالي رئيس ديوانه عن الزير الذي أمر به في ذلك الطريق ليشرب منه المارون، فرد رئيس الديوان قائلاً: لقد كانت فكرة عبقرية منكم، لقد طورنا الزير، وعدلناه حتى أصبح شيئاً مهولاً؛ فأنت تعلم ان بلادنا دائماً تأخذ بالتطور والتحديث، وهي في مقدمة البلاد النامية، وكل شيء يسير كما تحب وترضى.. وأضاف المسؤول: لقد وجدنا إقبالاً شديداً على الزير، والناس يتزاحمون؛ فأقمنا بناءً يحمي الزير والناس من الشمس، ووضعنا بعض الأثاث لاستراحة (صابر) وزميليه حراس الزير، وحفاظاً على المال العام أنشأنا مأمورية صغيرة (للزير) وعينا فيها رئيس قلم، ومعه كاتبان، واحد للعهدة - وآخر للشؤون المالية.. ضحك الوالي (شؤون مالية) للزير!! فقال المسؤول: ان للشؤون المالية أصولاً وقوانين لابد من تنفيذها حتى لا تضيع أموال الدولة، قال له: وماذا بعد؟! قال المسؤول: ولما زاد تزاحم الناس وتبين لنا ان الزير ينكسر كثيراً - وكذلك غطاؤه، وحماله، وكوزه، لذلك حولنا المأمورية إلى إدارة عامة ذات أربع إدارات فرعية: إدارة الفخار تهتم بأمر الزير، وإدارة الحديد مختصة بشؤون الحمالة، وإدارة الخشب مختصة بالغطاء وإدارة الصفيح مختصة بالكوز.. فابتسم الوالي ساخراً.. وقال: والماء الذي من أجله كل هذا أليست له إدارة؟! قال الوزير المسؤول: ما أذكاك أيها الوالي الكريم.. حقاً.. غداً بإذن الله ننشئ إدارة عامة للماء.

***

وبعد مدة قال المسؤول للوالي: لقد وجدنا ان مبنى هذه الإدارات قد ازدحم بالموظفين فأنشأنا طابقين جديدين بعد توسعته، وجعلناها إدارة عامة تسمى (إدارة عموم الزير). قال الوالي: وكم من المال تكلف هذا المبنى؟

قال المسؤول: حوالي مائة ألف دينار بالأثاث وكامل التجهيزات، هذا خلاف المبلغ الشهري المخصص للإدارة ورواتبها، وهو نحو أربعين ألف دينار سنوياً، فطلب الوالي المسؤول ان يطلعه على توزيع هذا المبلغ المخصص للإدارة العامة، قال المسؤول: حوالي خمسة وثلاثين ألفاً للباب الأول، باب المرتبات، وثلاثة آلاف دينار للنقل والصيانة، وألفان للأدوات الكتابية.. قال الوالي والماء؟! قال المسؤول: لا شيء له.. لأننا ركبنا أجهزة اليكترونية لرفع الماء وتنقيته وفقاً لآخر الأساليب العلمية، ودفعه إلى الزير في أنابيب خاصة.

***

قال (الوالي) إذا كان الماء ينقل إلى الزير بأنابيب خاصة فلماذا هذا النقل والصيانة، قال المسؤول بعض السيارات لحركة الموظفين والعمال، فسيارة خاصة لمدير عام إدارة عموم الزير، وسيارتا جيب للنقل السريع للموظفين، وسيارة فنطاس لنقل الماء.

لماذا سيارة نقل الماء؟! قال المسؤول: لنستخدمها في حالة تعطل الأجهزة الالكترونية بحكم أنها كثيرة العطل.

***

وذات يوم ذهب (الوالي) إلى الإدارة العامة لعموم الزير فوجد زحاماً من الموظفين والموظفات.. وعلم ان المدير العام يقوم بزيارات لبعض الدول الأجنبية كالصين، واليابان، وأمريكا لحضور مؤتمرات المياه، ويطلعهم على التجربة الفريدة، وسأل عن الزير، فقالوا: إنه في قاعته الخاصة في الدور الأرضي، ونزل هو ومن معه بالمصعد للدور الأرضي ولم يجدوا (زيراً) فتبين من الموظف المخصص لباب قاعة الزير ان الزير أرسل إلى الورش لاصلاحه منذ خمسة أشهر لأن الماء كان يتسرب منه ولم يعد.

***

والقصة طويلة.. أحداث بعد ذلك عجيبة.. وفيها مغالات ومبالغة شديدة..

وفي آخرها انتبه (الوالي) والتفت للمسؤول وقال له: أما أنت يا صاحبي فقد انشأت كل هذا، وحملت ميزانية الدولة نفقات باهظة كي تخدعنا، وقد ضيعت الغرض الأساسي الذي توخيناه. هذا المبنى سيكون استخدامه لمصالح الناس، وأما هؤلاء الموظفون الذين عينتهم فأنت ملزم برواتبهم من مالك الخاص.. كما قررت لهم.. قال المسؤول: مالي لا يكفي.. قال (الوالي) إذا نفد مالك يأخذون رواتبهم من مال زوجتك، وأولادك واخواتك وأقاربك الذين أغنيتهم من مال الدولة.

وأمر الوالي وكيل المدير العام تنفيذ كل ذلك فوراً، واستعادة الأموال التي أنفقها مدير عام الإدارة العامة للزير في كل رحلاته السابقة - تلك الرحلات الملفقة المصطنعة.

***

وهكذا.. صور كثيرة.. متكررة.. بل بأذكى ترتيب من هذه القصة الخيالية المبالغ في وصف وقائعها.. نعم قد يحدث في كثير من دواوين المصالح الحكومية ان تتضخم الأجهزة، وتصرف الأموال الطائلة على الوسيلة، والقليل من الموازنة يصرف على الغاية.. نعم توجد إدارات عموم الأزيار في بعض بلادنا العربية.. وما أكثر أزيارها الفارغة.

***

إني كثير الترداد لقول ان ما يبطئ بخطوات التطور والإنجاز في مجال عمل الوزارات والمصالح الحكومية في كثير من البلدان هو (البيروقراطية) التي تضرب بجذورها في الأعماق.

لقد أصبح الموظف الحكومي أسير أطر هو صانعها، ومقيد بحبال هو الذي فتلها ولفها حول نفسه، وغاب عن ذهن معظم ذوي المراكز القيادية في الجهاز الحكومي الغاية من القواعد واللوائح، وأنها للتيسير والانضباط، وليست للتعقيد.

يخيل إلي ان بعض هؤلاء المسؤولين استمرأ هذا، حتى ظن ان هذا الروتين الجامد المعقد شيء مقدس، لا يجوز المساس به أو الخروج عن نصه حتى ولو تبين له سوء نتيجته.

***

ما أدعو إليه هو: ان نتحرى كل ما يحقق الإنجاز والتيسير لصالح البلاد والعباد، ولو اقتضى ذلك تغيير لائحة - أو تبديل قانون.

إنه لمن المؤلم ان نجد السلم الذي وضع للرقي من خلاله إلى الغايات السامية أصبح هذا السلم هو الغاية بدلاً ان يكون وسيلة.. وأعرف ان كثيراً من القرارات ا لتطويرية والتنظيميات الإدارية هي حبيسة أدراج مكاتب هؤلاء البيروقراطيين، وهي حبر على ورق لم تخرج للهواء، وسوف تموت في داخل هذا الأدراج.

***

وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.