المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيطان الشعر ..ضعف ثقافة المتأخرين من الشعراء و المتلقين جعلها مدحا للشاعر !


نوره عبدالرحمن "سما"
27-07-2010, 02:29 PM
شيطان الشعر

ضعف ثقافة المتأخرين من الشعراء والمتلقين جعلها مدحا للشاعر


http://www.alriyadh.com/2010/07/27/img/209076229808.jpg



الرياض - ناصر الحميضي (http://www.alriyadh.com/2010/07/27/article547149.html)



نحن نستخدم عبارة الشطن في لهجتنا، وهي أيضا في لغتنا العربية كمفردة معروفة، وتأتي في مختلف التعامل مع مجريات الحياة، سواء في مد الحبال من فوق المرتفعات أو نزولاً في الآبار أو جذب وجلب الماء أو غيرها، والشطن هو الحبل سواء مددناه لكي نرفع به الشيء من البئر بعيدة القهر أو ربطنا به الدابة، فالحاجة إلى الشطن تأتي في حالات كهذه. وقد توسعت الاستخدامات اليوم فلم يعد الحبل أو الرشاء هو الوحيد الذي تدلى به الدلو أو ينزل به في البئر أو يسحب به من العمق أو المنخفض أو يشطن على البئر دلوها كما كان فيما مضى، لقد صار الشطن في كل أعمال البناء والأعماق والأنفاق والمغارات، والكلمة أو المفردة ليست غريبة علينا فيما مضى فهي تستخدم دائما ولكنها اليوم انزوت عن الواجهة.
ويصاحب الأعمال التي ذكرناها سابقاً نوع من الجهد والتعب بل يتطلب من الشخص أن يكون قوياً يسحب الماء أو الأشياء بقوة ونشاط، ومن هنا بدأت العبارة تبرز كميزة لمن يقوى على ذلك، ومن ذلك الشعر المتميز الذي يتفرد صاحبه بمعانيه وجزالته وعمق مقاصده مما يستغرب أن يأتي به شاعر عادي فنقول هذا شعر أتيت به من عمق بعيد وبشطن طويل قوي فنحن نشبه الشعر بالماء يجلب من القعر.
وكأن الشعر لم يأت به هو، بل أتى به شيطان شعره، كما أن بعض الشعراء استعذب أن يطلق مسمى على شيطانه حتى عرف به في جماعة المتلقين، وبالفعل سمى بعض الشعراء شيطانه باسم اختاره فعرف به، وعلى هذا يبدو أنهم أول من استخدم المعرف المجهول قبل المنتديات والمواقع، فهي معرفات لشياطينهم لا حقيقة لقولهم حولها، على أن هذا لا يعني أن القائل أو المتلقي يعتقد أو يؤمن بأن صاحب الشعر هو شيطان بالمعنى الحقيقي، ولكنه نوع من الطرافة والاستحسان قالوها فتوافقت مع الوسط المهيأ للاستحسان والطرفة فقبلوها بالترحاب ودونتها كتب الشعر، وليتهم أبعدوا عن هذا بالكلية ولكنهم فعلوا وما علينا سوى رصد فعلهم بعيدا عن تفاصيله، فهذه حال وقعت منذ القديم ونحن نطل عليها لا أكثر، ويماثله ما نسمع اليوم من بعض الناس هداهم الله عندما يرون من بعض الأطفال جرأة وتميزا في شقاوة ما، يقولون: هذا ولد شيطان، وهي عبارة مدح واستطراف لا يعنون حقيقة الشيطنة، ولكنهم يعنون النشاط وارتباطه بالشطن ونزع الماء من البئر بقوة وحيوية، أو لعلها من زلاتهم التي ألفوها وتناولها الناس دون الوقوف عندها.
وبهذا فقد استخدمت عبارة [شيطان الشعر] من قبل الشعراء بالموافقة وغيرهم بالمجاراة وترددت على مسامعنا وكأنها عبارة تميز، وربما استخدمت هذه العبارة على أنها نوع من الدعم من ذلك الشيطان في زعمهم فيكون الشعر ذا معان وغزارة خارجة عن مألوف الموهبة العادية، أعني أنه مبهر أو مدهش أو لا مثيل له يأتي بالمفاجأة، أو هو شعر لا يقوى على الإتيان به الإنس، رغم أنه في كل معانيه ومحتواه أقل من غيره، إذ لم ولن يوجد شاعر أتى أو سيأتي بالمعجزات التي لا تتكرر، لأن القدرات تتفاوت ولأن لكل زمان مبدعيه في كل ميدان ومنه الشعر والأدب وغيره.
ولعل الشعراء استحسنوا هذه الطرافة بعيدا عن الاعتقاد بها أو الإيمان بأن للشعر شيطانا يأتي به، وفي الوقت نفسه ينسبون ضعف قصائدهم إن جاء فيها ضعف إلى ذلك الشيطان الشعري، وهي فرصة لمزيد من الطرافة أيضا.
وعبارة [ شيطان الشعر ] أو أتاه شيطانه، ليست عبارة حديثة التناول والتداول بل هي قديمة جداً فهي في الجاهلية ولدت وتوارثت، ولكن الإسلام جاءنا لنهذب أنفسنا به وندرك الحقائق بعيدا عن الانسياق وراء المسميات المتوارثة دون تمحيص وعلم، ولا أشك في أن العبارة مدح وذم في آن واحد، فهي في مراد من يطلقها مدح وطرافة ومزاح، ولكنه لم يوفق وانسياق وراء العبارة كموروث نشاز أو هو سبق لسان علق في الذاكرة من قديم دون أن يتم تفقد صلاحيته.
فعندما نقول: شيطان الشعر فلا يعني هذا مدح الشاعر على الإطلاق ولن ينطبق عليه مسمى المبدع، وقد أعطي التميز لغيره، بل ومن هذا الغير؟ إنه الشيطان! أعاذنا الله وإياكم منه.
على أن كثيرا من المتأخرين من متلقين وشعراء أخذوا عبارة شيطان الشعر واستعملوها على أنها تعني وجود شيطان يعلم الشاعر الجزل من الشعر والبليغ منه وأنه يستقي شعره من الهام ذلك الشيطان فيعجز غيره من الشعراء مجاراته والإتيان بمثله، وهذا من ضعف الثقافة ومن سرعة استجابة البعض لكل ما يقع في دائرته دون تمحيص ودون ترو، وإلا لو تروينا قليلا في العبارة لوجدنا أن الإنس قادرون على أن يبدعوا في كل المجالات، بل هم أقدر من غيرهم، وأنهم أهل البلاغة والبيان وأن الاستعانة بالشياطين أو الجن لا يزيد إلا رهقاً وضعفا وهزالا وتبعية وهلكة أيضا يقول الشاعر محمدآل شيبان:
أشهد أن لا إله إلا خلاق العبيد
واشهد ان محمداً سيد الرسل النبي
لا يهمك ما جرى يا شياطين القصيد
(...) ابو بيت الشعر كان ما جاب طلبي
إطربي ثم إطربي والبسي ثوب ٍ جديد
يا شياطين الشعر لاعبيني والعبي
ما بقى في داخلي شي ٍمؤكد والأكيد
إن الألم عايش معي والأمل ما مات بي
شد ريح العاصفة والبرودة في مزيد
ودارت الدورة علي وبار فيني صاحبي
ويقول شاعر آخر:
رثيت الشعر ياليلٍ تحفَت بي شياطينه
رثا شاعر نسى نفسه نسى بيته وعنوانه
جهاله ابتلى فيها طعونٍ من سكاكينه
الا ليت الشعر ما انصاغ واثرت به دواوينه
الا ليت الخزامى تضم مياهٍ تحجب الطينه
تنافس عطرها الفواح وتزهى فيه رويانه
وانا شاعر عريب الساس ابدَع في تفانينه
اذا الاحساس توجني عسفت الثقل بأطنانه
وانا رسام تشهد لي خوارق في تلاوينه
احب الشعر واحترمه واقَوم عود اغصانه
ولا لي في لباس الدس ولا لي في مجانينه
ولا لي من ميول الريح اذا مالت على شانه
ولكل شاعر نقول ما يصدر عنك من شعر فهو منك أنت وحدك وعليك تبعات ضعفه أو هزاله، ولك محامده أيضا، لا تنسب لغيرك ضعفه ولا نشازه ولا جودته وإبداعه فلا ترم إنتاجك على شياطين الجن والإنس وأنت قائله على أن ما يؤكد عليه في الختام أن شيطان الشعر الحقيقي الذي لا شك أنه المحرض الأول في قول الشعر هو ما يحصل في بعض الأحيان من هجاء مقذع يبدأ بالشاعر ويجتاح القبيلة وربما الإنسانية بأسرها عندما يستجيب الشاعر لهوى نفسه وشيطانه الذي هو القرين فيوحي له بأن يوغل في الهجاء لمجرد خلاف شخصي فيحقن الشيطان دمة بالعبارات الهزيلة الساقطة ويكيل له من مفردات القذارة ما يجعل لشعره رائحة كريهة تزكم الأنوف، وهذا ما يلاحظ في شعر الهجاء الذي لا مبرر له والذي قبل أن يسقط القصيدة والذوق فيها يسقط معه الشاعر نفسه ومن الصعب أن يرتقي الشاعر بعد سقوطه من عيون المتلقين، وهذا ما يريده بالفعل شيطان الشعر الحقيقي.