المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خفايا النفس البشرية وعلاقتها بما حولها ( د. مصطفى محمود )


نوره عبدالرحمن "سما"
03-06-2011, 02:16 PM
المؤمنون أهل حلم و صبر و تواضع و تسامح و حياء

((يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما))
...(63 الفرقان)

تعرفهم بطول الصمت و تواصل الفكر و خفض الصوت و البعد عن الهرج و الصخب و التلاعن.

و تعرفهم بالتأني و الاتقان و الإحسان فيما يعهد إليهم من أعمال، و تعرفهم بالدماثة و لين الطبع و الصدق و الوفاء و الاعتدال في الأخذ من كل شيء.

و إذا كان لابد من اختيار صفة واحدة جامعة لطابع المؤمن لقلت هي:

السكينة، فالسكينة هي الصفة المفردة التي تدل على ان الانسان استطاع أن يسود مملكته الداخلية و يحكمها و يسوسها.

و هي الصفة المفردة التي تدل على انسجام عناصر النفس و التوافق بين متناقضاتها و انقيادها في خضوع و سلاسة لصاحبها و هي أمر لا يوهب إلا لمؤمن.

و أنت تقرأ هذه السكينة في هدوء صفحة الوجه.. ليس هدوء السطح بل هدوء العمق.. هدوء الباطن.. و ليس هدوء الخواء و لا سكون البلادة، و إنما هدوء التركيز و الصفاء و اجتماع الهمة و وضوح الرؤية.. و كأنما الذي تراه أمامك يضم البحر بين جنبيه.

و البحر ساكن و لكنه جياش يطرح الآلئ و الأصداف و المراجين من أعماقه لحظة بعد لحظة، فهو غني الغنى اللانهائي.

و هذه خاصية المؤمن.. ذلك الهدوء المشع الثري.. لماذا..؟!

لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة.. علاقته بالأمس و الغد و علاقته بالموت.. و علاقته بالناس.. و علاقته بعمله و نظرته للأخلاق.

فالأخلاق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما لا يتعارض مع حق الآخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا، فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الأولى و هدفها حسن توزيع اللذات.

أما الأخلاق بالمعنى الديني – فهي بالعكس – أن تقمع رغباتك و تخضع نفسك و تخالف هواك و تحكم شهواتك لتتحقق برتبتك و منزلتك العظيمة كخليفة عن الله و وارث للكون المسخر من أجلك.. فأنت لا تستحق هذه الخلافة و السيادة على العالم، إلا إذا استطعت أولا أن تسود نفسك و تحكم مملكتك الداخلية.. و مفهوم الأخلاق هنا فردي، و هدفه بلوغ الفرد درجة كماله و إن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك الفرد فإنها تأتي بالتبعية.

فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلاء الأفراد لابد أن يسوده الوئام و السلام و المحبة.

و الأخلاق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا.. خروج من الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الإله.. خروج من الجزء إلى الكل.. من النسبي إلى المطلق حيث يجب أن تطلع كل العيون.. و هذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تم تصحيح و تكميل بصر العين.. فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه و نسبته لا تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالات الإلهية.


و لهذا تبدأ الأخلاق الدينية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها و تخضعها و لا تبدأ بالتسليم لها و بإشباعها كما هو شائع، فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات و إنما هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات، و هكذا تختلف النظرتان تماما و تؤدي كل منهما إلى انسان مختلف.

فالانسان المادي يستهدف النزوة و اللذة الفورية و المقابل المادي العاجل (( لأنه لا يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية ))، و هو لهذا يجري وراء(( اللحظة )) و يلهث وراء (( الآن ))، و لكن اللحظة متفلتة و ((الآن)) هارب و الفوت و الحسرة تلاحقانه في أعقاب كل خطوة يخطوها و هو متروك دائما و في حلقه غصة و في لبه حسرة و كلما أشبع شهوته ازدادت جوعا. و هو يراهن كل يوم بلا ضمان و بلا رصيد فهو محكوم عليه بالموت لا يعرف متى و كيف و أين، فهو يعيش في قلق و توتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت رغم أنفه.


أما الانسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف و أخلاقية مختلفة، فهو يرى اللذات الدنيوية زائلة، و أنها لا تساوي شيئا، و أنها مجرد امتحان إلى منازل و درجات وراءها، و أن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل و الدرجات الباقية.. و أن الدنيا كالخيال و أن الله هو الضمان الوحيد في رحلة النيا و الآخرة.. و أنه لا حاكم و لا مقدر سواه.. و لو اجتمع الناس على أن يضروك لما استطاعوا أن يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، و إن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لما استطاعوا أن ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك.

و لهذا فإن المؤمن لا يفرح لكسب و لا ييأس على خسران، و إذا دهمه ما يكره قال في نفسه: ((و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لاتعلمون))

و الله عنده حكيم عادل رحيم لا يقضي بالشر إلا بسبب و لحكمة أو لفائدة و استحقاق عادل.

و هو لا يحسد أحدا و لا يغبط أحدا، بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة، يقول له قلبه:

(( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد.. متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد))
(196- 197 آل عمران)

(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين.. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون))
(55-56 المؤمنون)

(( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما))
(187- آل عمران)

(( ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير.. لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور))
(22-23 الحديد)

(( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا))

و ثمرة تلك الآيات عند المؤمن هي السكينة و الهدوء النفسي و اطمئنان البال و الثقة في حكمة الله و عدله و رحمته و تصريفه.

و مثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته، وجد عوضا لها حلاوة في قلبه، مما يلقى من التحرر الداخلي من أغلال نفسه و مما يجد من النور في بصيرته.

و هو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق و يترك الدعاوى إلى الأوامر.

و يترك أهواء النفس إلى وجه الحق.

و يكف عن التلهف و الحركة وراء الأغراض و المناصب و الرياسات و المغانم و يسكن إلى جنب الله.. و هل بعد الله مغنم؟!!

و من صفات هذا المؤمن العامل لوجه الله أنه ناهض بالهمة على الدوام لا يفتر و لا يكسل و لا يتواكل، بينما يفتر من يعمل للأجرو يفتر من يعمل للخوف ((يخدع الأول نفسه بالاستكفاء و يخدع الثاني نفسه بالتمني)) أما القاصد وجه ربه فإنه لا يفتر لأنه لم يربط جهاده بأجر و هو لا يكسل متواكلا على مغفرة لأنه لا يتحرك بالخوف من عقاب و إنما هو عبد محب متطوع، العمل عنده سعادة، لهذا لا تجده متبرما و لا متسخطا و إنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل، حماد لربه في جميع الحالات لا يسب الدهر و لا ينسب لربه نقصا و لا قصورا.

و هذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة الايمان بالقرآن و هي ثمرة التوحيد.. و التوحيد يجمع عناصر النفس و يوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي فيؤدي بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد الآلهة و تعدد مصادر الخوف و النفع و الضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر و انقسام النفس و تشتت الانتباه إلى العديد من الجهات، و يؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية.

و القارئ للقرآن الكريم يخرج بعلم نفس قرآني متميز بديع و منفرد في تربيته للمسلم.

و ليس عجيبا أن القرآن أقام حضارة و صنع تاريخا.. فإنه قبل ذلك أقام إنسانا و ربى نفسا بديعة سوية متفردة في تكاملها و أشرق عليها بسكينة لا مثيل لها.

و مثل تلك التربية الفذة تشهد للقرآن بأنه خرج من المشكاة الإلهية.. فلا مرب مثل الرب.

و لهذا يختلف علم النفس و علم النفس القرآني في علاج الأمراض النفسية. فعلم النفس لا يرى إمكانا لتبديل النفس أو تغييرها جوهريا لأن النفس تأخذ شكلها النهائي في السنوات الخمس الأولى من الطفولة.. و لا يبقى للطبيب النفسي دور سوى إخراج المكبوت فيها إلى الوعي.. أو فتح نوافذ للتنفيس و التعبير و تخفيف الغليان الداخلي.. و بهدف الوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسي إلى العلاج بالتنويم المغناطيسي أو العلاج بالإيحاء أو بالتنفيس و التعبير و الفن و اللعب أو العلاج بالاستغراق في عمل آلي أو العلاج بالإشباع المباشر.

و كل هذه الصور أشبه بعلاج السرطان بالمراهم أو المسكنات لأنها لا تحاول أن تغير من النفس شيئا، فكلها تقبل وجود الدمل النفسي على حاله ثم تقول للمريض.. اصرخ أو تأوه أو ارقص أو غني لتنفس عن آلامك.. أو تضع يده على الدمل و تقول له.. هنا الدمل.. و هذا كل جهدهم.

أما الدين فيقول بإمكانية تبديل النفس و تغييرها جوهريا و يقول بإمكانية إخراجها من ظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة الإلهية و من حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالات الخلقية و ذلك بالرياضة و المجاهدة.

و يكون ذلك على مراحل.. أولها: تخلية النفس من عاداتها المذمومة و ذلك بالاعتراف بالذنوب و العيوب و إخراج هذه العيوب إلى النور كما قال موسى لربه بعد قتل المصري خطأ:

(( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له))
(16- القصص)

و كما نادى يونس في الظلمات:

(( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين))
(87- الأنبياء)

و المرحلة الثانية: هي التوبة و قطع الصلة بالماضي و الندم على ما فات و مراقبة النفس فيما يستجد من أمور و محاسبتها على الفعل و الخاطر.

و المرحلة الثالثة: هي مجاهدة الميول النفسية المريضة بأضدادها. و ذلك برياضة النفس الشحيحة على الإنفاق و إكراه النفس الشهوانية على التعفف، و دفع النفس الأنانية إلى البذل و التضحية و الإيثار، و حث النفس المختالة المزهوة على التواضع و الانكسار، و استنهاض النفس الكسولة إلى العمل.. و بمعالجة الضد بالضد تصل النفس إلى الوسط العدل.. و هو صراط الحكمة.. و هو حظ الصالحين من البشر.

و لا تنجح تلك الرياضة دون طلب المدد و العون من الله و دون الصلاة و الخشوع و الخضوع و الفناء في محبة الله ركوعا و سجودا في توحيد كامل(و توحيد الله لا يكون إلا بطاعته الكاملة و الاسترسال معه.. لا تريد لنفسك إلا ما يطلبه هو لك) و هنا تحدث المعجزة.. فيتبدل القلق سكينة و الفزع طمأنينة و الخسة الشهوانية عفة و طهارة.. و النواقص النفسية كمالات.

و ذروة العلاج النفسي هي(( الذكر)) ذكر الله بالقلب و اللسان و الجوارح و السلوك و العمل.. و استشعار الحضرة الإلهية على الدوام و طوال الوقت في كل قول و فعل.

و في الذكر شفاء و وقاية و أمن و طمأنينة لأن الذكر يعيد الصلة المقطوعة بين العبد و الرب و يربط النفس بمنبعها و يرد الصنعة إلى صانعها.. حيث هو الأعلم بعيوبها و الأقدر على علاجها.

(( ادعوني استجب لكم))
(60- غافر)

(( فاذكروني أذكركم))
(152- البقرة)

فيعود النور ليغمر ظلام النفس و يحل العمار مكان الخراب.

و بينما يرى فرويد (الطيبة) تخاذلا و سلبية و ينصح مريضه قائلا له: (( كل و إلا فأنت مأكول)).

نرى نحن الطيبة قوة إيجابية.. و نأمر بالصفح:

(( فاعفوا و اصفحوا))
(109- البقرة)

(( فاصفح الصفح الجميل))
(85- الحجر)

(( و أن تعفوا أقرب للتقوى))
(237- البقرة)

و بينما يرى فرويد من الأعمال مايساعد على تفريغ و تنفيس الغليان النفسي.. نشترط نحن العمل الصالح.

و بينما يرى أن ماضي الطفولة حاكم على كل إنسان و موجه لأفعاله لا نقول نحن بحاكم إلا الله.. و نقول إننا بفضل الله يمكن أن نخرج من أي حكم، و بينما يقول بفطرة عدوانية و بغريزة التحطيم و الهدم و بالطاقة الشهوانية كدوافع رئيسية، نقول نحن: إن الإنسان فُطر حرا مختارا بين النوازع السالبة و الموجبة يختار ما يشاء منذ البداية.

و سبب كل هذه المادية الفرويدية و مادية علم النفس بوجه عام هو أنهم يتعاملون مع النفس الإنسانية على أنها مادة وجسد يمكن اقتحامه بالتشريح و التجربة.. و هم يفعلون هذا عن إيمان بأنه لا روح هناك و لا ذات و لا نفس.. و إنما مجموعة مركبات كيميائية و جينات وراثية اسمها الإنسان و تلك هي خطيئة الحضارة المادية، فهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب لأن النفس الإنسانية (( ذات )) قبل كل شيء و لا يمكن إحالتها إلى موضوع مجرد.. و هي كالحياة إذا أعملت فيها مبضع التشريح ماتت في يدك.. و النفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية و تتنكر بما تطرح في الظاهر من ردود أفعال سلوكية و هي لا تعطي سرها أبدا حتى لصاحبها إذا بدأ يتدبرها كموضوع، لأنها ليست موضوعا بل هي في جوهرها (( ذات )) بكر إذا فضضت بكارتها و هتكت استسرارها و حاولت أن تقتحمها بالنظرة الموضوعية استعصت عليك و تفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة و تحولت إلى شيء آخر.. و لم تعد (( هي )).

و يظل دائما الفارق بين ما ترى منها في الظاهر و ما خفى عليك من حقيقتها، كالفارق الهائل بين الجسد الظاهر و الروح التي تسكنه.. و أنت لن تصل أبدا إلى كنه الروح بتشريح الجسد.. و إنما أنت على أحسن الفروض سوف تفهم الجسد أكثر فأكثر و لكنك تظل دائما بعيدا كل البعد عن إدراك سر الروح و لغزها.

(( و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا ))
(85- الإسراء)



د / مصطفى محمود
http://www.facebook.com/dr.mostafa.mahmoud


http://photos-g.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-snc6/250985_10150199964223813_177610833812_7145358_4986 500_s.jpg