المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البرمجة تتحكم تلقائياً بالإنسان في يقظته ونومه


نوره عبدالرحمن "سما"
19-06-2011, 02:28 PM
البرمجة تتحكم تلقائياً بالإنسان في يقظته ونومه

إن الفرد الإنساني الناضج السوي ليس بينه وبين أروع القدرات، وأنبل الأخلاق، سوى أن يبرمج ذاته بأعظم الأفكار، وأنصع التصورات، وأدق المعارف، وأنضج الخبرات، وأروع المهارات، وأرقى العادات، ثم يواصل التعبئة والتنقية والارتقاء، ما دام حياً
إن كل القدرات الفائقة ليست وليدة الوعي الآني، وإنما كل ذلك يفيض من مخزون اللاوعي بعد تعبئته بحرص وتنظيم ومثابرة
اللاوعي إذا تبرمج فإنه يستغني عن الوعي، فقابلية البرمجة هي السر الأعظم في الإنسان، إنها مفتاح قدراته، ووسيلة تطوير ذاته
يتبرمج تلقائياً بما في البيئة....

بعض مما قيل عن البرمجة الذاتية

أتركك مع مقال جدير بالقراءة للكاتب ابراهيم البليهي



إن الوعي ضيق المجال ضيقاً شديداً، وضئيل المضمون، وبسيط الطاقة، وقصير المدى، إنه فقط مفتاح التشغيل، وناقل الحركة، فلولا قابلية التعبئة في اللاوعي لكانت الحياة الإنسانية شديدة العسر، إن الوعي يحدد الاتجاه


قابلية التبرمج في الإنسان ليست محصورة بمواعيد اليقظة والنوم والإحساس في الزمن بواسطة الساعة البيولوجية، وإنما لكل جهاز في جسم الإنسان ساعته التي تنظم استجاباته، وتتحكم بفاعلياته، وتضبط نشاطه، بل إن كل خلية تنطوي على آليات في منتهى الدقة والجاهزية والانضباط، وليست الأورام الخبيثة سوى نتائج الخلل الذي يصيب هذه الآليات، ولكن الذي يهمنا هنا هو قابليات التبرمج القصدية، التي تتيح للإنسان أن يبرمج نفسه بما يريده من المعارف، والمهارات، والعادات، الفكرية، والسلوكية.

لقد أبدع الله الإنسان بتكوين دقيق متقن يعمل آلياً بانتظام رائع واستجابات تلقائية مدهشة، ليس فقط في العمليات الفيزيائية كعمليات الهضم وغيره، وإنما أيضاً في العمليات العقلية، والعاطفية، والأخلاقية، إن هذا التكوين الآلي العجيب يتيح للإنسان أن لا يواجه الحياة وهو أعزل، من غير ان يستعد استعداداً كافياً بالمستوى الذي يرضاه لنفسه، فقد أعطته هذه الآلية فرصة دائمة لتعبئة ذاته بالكفايات المهمة، والاستمرار في تنميتها إلى ما لا نهاية، فكل مستوى رائع يبقى قابلاً لأن يصير أروع، فما كان يعد رقماً قياسياً في فترة من الفترات يجري كسره وتجاوزه، ثم يجري مرة أخرى كسر الرقم القياسي الجديد، ويبقى السباق مستمراً، وتظل القدرات والمهارات في تصاعد دائم، فكل رقم قياسي يجري كسره وتجاوزه، ويبقى المجال مفتوحاً إلى ما لا نهاية، وينطبق هذا النمو المستمر على كل المجالات.








إن الفرد الذي يهتم بتنمية قدراته لن يبقى كليلاً، أو يظل أسيراً لردود الفعل الآنية عند مواجهة أي حدث، أو التصدي لأية مشكلة، أو الرغبة في أداء مهمة، أو الطموح في تحقيق نجاحات غير عادية، أو التطلع إلى إنجاز أرقام قياسية فيما يتنافس عليه الأفراد الطموحون، أو الأشخاص المغامرون، بل إن أي فرد سوي يستطيع بارادته واختياره وتخطيطه ان يهيئ نفسه بجهده المسبق لحياة حافلة بالنجاحات، بأن يملأ ذاته بالمعارف والمهارات، فيقدم على العمل وهو مطمئن إلى أن في خافيته من الامتلاء والاحتشاد والجاهزية ما يمكنه من الإنجاز بتفوق وتدفق، فيصير مقداماً في مواجهة الأعمال والمهمات والصعوبات والسباقات، والتنافس في أي مجال، وذلك بعد أن يقوم بتعبئة ذاته بأفكار خلاقة، وتدريب منظم، ومران كثيف، وتصورات ممحصة، ومعارف دقيقة، وخبرات ناضجة، ومهارات عالية؛ ليواجه بها كل الظروف، ويتهيأ بها لمختلف المواقف، وبذلك تمتلئ ذاته بأقصى ما يمكن من الكفايات والقدرات والنضج، وإمكانات التفاعل الإيجابي التلقائي في كل الحالات، التي برمج نفسه لمواجهتها.

إن التأكيد أن قابليات الإنسان مهيأة لقبول التعبئة التي تجعلها جاهزة للاستجابات التلقائية ليس من نوع التعبير المجازي، أو الاستخدام اللفظي غير الدقيق، وإنما هي تعبئة حقيقية تشبه تعبئة البالون، أو الحاشدة (البطارية)، أو نابض الساعة (الزنبرك)، أو خزان الوقود، وما يماثل ذلك من التجهيزات القابلة للتعبئة، وليس أدل على قابليات الاستعداد الحافل بالامتلاء من تجلياته المدهشة في مباريات المونديال وفي ألعاب السيرك وغيرهما من المهارات الفردية العالية التي يشاهدها الجميع ان هؤلاء الأفراد الباهرين، الذين يقفزون في الهواء بخفة وروعة وفاعلية تخلب الآلباب، لم يولدوا بهذه القدرات العجائبية المثيرة، بل ان ما ملكوه من قدرات مثيرة، وما اكتسبوه من مهارات باهرة، هو ثمرة التعبئة الموصولة والمران المنتظم، ان هذه الإمكانية متاحة للإنسان في مجالات العلم والعمل، وفي حقول المعرفة والإبداع والأداء كافة.

ومن خصائص قابليات الإنسان ان ما يودع فيها يظل جياشاً جاهزاً للتدفق، ما دام الفرد يعايشه باهتمام قوي مستغرق، ويمارسه بحماسة فائرة متدفقة، ويندفع إليه برغبة ذاتية تلقائية، لكنه يخمد إذا أهمل، فمخزون الخافية يحتاج إلى تجديد مستمر للتأكيد باحتياج الفرد إليه، ورغبته في توقده، أما إذا تركه وغفل عنه فإن هذا الترك يطفئ توقده، وهذا الاغفال يوقف جاهزيته، ولكن هذا الخمود ليس بمنزلة إشارة لنسيانه وحذفه، وإنما لترحيله إلى الخلف بدلاً من بقائه جاهزاً في الصدارة، فالطيار مثلاً، بعد إجازة طويلة لابد ان يمر بفترة مران قصيرة للتأكد من جاهزية مهاراته، وكذلك اللاعب، وكل أصحاب المهارات الفائقة في جميع المجالات.

إن الآليات التلقائية التي أودعها الخالق سبحانه في الأحياء، هي أعجب ما خلق، وكل الوجود عجب في عجب، ولكن ليس أروع من نبض الحياة، وليس أدق انتظاماً من ايقاعها التلقائي المدهش، وتبلغ هذه الروعة ذروتها في الإنسان، وتتجلى بشكل أنصع في عظمة قابلياته المتجددة، وفي انفتاحها العجيب، وفي إمكانية التجديد الدائم لهذا الانفتاح، وفي قابلية تكرار تعبئة الذات من دون توقف، وفي الإمكانات الهائلة التي تتيحها له هذه التعبئة المفتوحة، لذلك فإنه ليس أضر على الإنسان، ولا أشد اهداراً لإمكاناته، وايقافاً لتطوره، وتجميداً لفاعلياته، من أن تغيب عنه إمكانات التعبئة الدائمة لقابلياته المرنة المفتوحة، وان يظل يتوهم ان العقل جوهر ثابت، وان فاعلياته مشروطة بآنية الوعي، وان أنشطته مرهونة بهذه الآنية، فيخسر فرصاً هائلة تتيحها له إمكانات تعبئة قابلياته المفتوحة، ومواصلة الإضافة الدائمة والتنقية المستمرة لمحتوى اللاوعي.

إن الفرد الإنساني السوي ليس بينه وبين امتلاك أروع القدرات، وأنبل الأخلاق، سوى ان يبرمج ذاته بأعظم الأفكار، وأنصع التصورات، وأدق المعارف، وأنضج الخبرات، وأروع المهارات، وأرقى العادات، ثم يواصل التعبئة والتنقية والارتقاء، ما دام حياً، فلو أدرك الناس أنهم يملكون قابليات مرنة، مطواعة، مفتوحة، عظيمة، مدهشة، لتطوير قدراتهم الفكرية والمعرفية والعملية والعاطفية والأخلاقة، لتغيروا تغيرات جذرية، ولكنهم في الغالب يجهلون طبيعة هذه القابليات، كما أنهم لم يتعرفوا على مفتاحها المدهش، ولم يسعوا إلى هذا التعرف.

إن اللاوعي هو الفضاء الواسع والحافظ الأمين والإمكانية المفتوحة لبناء القدرات الإنسانية، فليس الوعي الآني هو مصدر الكفايات العلمية، والفضائل الأخلاقية، واليسر السلوكي، والمهارات العملية، ولا هو منبع المزايا الفردية التي تبلغ أحياناً مستوى الادهاش، فهؤلاء المدهشون في مهاراتهم لم يولدوا بهذه القدرات، وإنما أضافوها هم لذواتهم بالتدريب الدقيق، والمران الطويل، والتعبئة الحاشدة، ففاضت بهذه التجليات الخارقة، إن كل القدرات الفائقة ليست وليدة الوعي الآني، وإنما كل ذلك يفيض من مخزون اللاوعي بعد تعبئته بحرص وتنظيم ومثابرة، فاللاوعي لا يضيق بأي محتوى مهما بلغ، بل يتسع لأية تعبئة، ويستجيب لأي تمرين، ويستقبل بطواعية عجيبة أي مدد، فتتكون به القدرات والمهارات والخبرات، وتنساب منه، أو تتدفق تلقائياً عند اللزوم، إن الذين يكتفون بآنية الوعي فلا يعدون أنفسهم مسبقاً بتعبئة كثيفة ومنظمة للاوعي، بما هو متاح من المعارف الممحصة، والمهرات العالية، وما هو مستطاع من المران الدقيق، والتدريب المتكرر، يبقون يعانون من الكلال والضحالة، والركالة والعجز، في أي مجال يعالجونه، أو أي عمل يتصدرون له.

إن مهمة الوعي هي الفرز، والاختيار، والانتقاء، والتنظيم، وإجراء عمليات تعبئة الخافية (اللاوعي)، والمثابرة على التدريب والمران، والارتقاء المنتظم بمستوى مخزون الخافية كماً وكيفاً، وكذلك ينهض الوعي بكبت ما لا يصح الجهر به، والكف عما لا تجوز ممارسته، والامتناع عما يعاب فعله، أما ما عدا ذلك فإن الوعي بعد القيام بعمليات التعبئة، والإعداد، والتجهيز، والتدريب والمران، ينصرف لمهام أخرى، مما يحتاجه الفرد لحياته، فالوعي حين يتدخل في عمليات الانسياب، أو التدفق التلقائي للأداء والسلوك، فإنه يعوق تدفقها، ويربك انسيابها، فالأصل في الأداء والتفكير والافضاء والسلوك أنه فيضان تلقائي من مخزون الخافية، فدور الوعي هو مواجهة الحالات الطارئة، والفرز والتعبئة والرقابة والحراسة والبحث عن الجديد، واستكمال عمليات التعبئة من دون توقف، وبذلك تغتني الذات وتتنوع القدرات، وترتقي المهارات وتتسع المعارف وتتعمق الرؤى، ويتواصل الاغتناء بمواصلة التعبئة والتصحيح والإضافة إلى ما لا نهاية.

لقد خلق الله سبحانه في الإنسان هذه القابليات العظيمة المرنة والمفتوحة المدهشة؛ لتتيح له ان يبرمج نفسه بما يريده من أفكار ورؤى وأخلاق ومعارف وتصورات وعادات ومهارات، فإذا التزم الفرد ببرنامج دقيق لتعبئة ذاته، وواصل تموينها وحشدها بما هو رائع وعجيب، فإنه يستطيع ان يبرمج نفسه بأي شيء يريده، إن قابليات الإنسان تتبرمج بما تتلقاه تكراراً، برغبة وتنظيم وشغف ومثابرة، فتعتاد عليه وتتبرمج به، فتصير به جاهزة للاستجابة الفورية التلقائية، إنها تفيض تلقائياً مما تعبأت به احتشاداً لمتطلبات الحياة، أو اظهاراً لبراعات فائقة، أو تعويضاً عن حاسة مفقودة، أو النهوض بدور عضو مبتور.

إن الوعي ضيق المجال ضيقاً شديداً، وضئيل المضمون، وبسيط الطاقة، وقصير المدى، إنه فقط مفتاح التشغيل، وناقل الحركة، فلولا قابلية التعبئة في اللاوعي لكانت الحياة الإنسانية شديدة العسر، إن الوعي يحدد الاتجاه، ويختار المواد، ويخطط للعمل، وينظم الجهد، ويتعهد بتجديد التموين، ويواصل الحذف والتصحيح فقط، أما اللاوعي فهو مخزن الطاقات والقدرات، فليس لاتساعه من نهاية، إنه واسع سعة مطلقة، وبهذا الاتساع غير المحدود فإنه مهيأ ليصير كثيف المحتوى، ومركب التكوين، ومتهيئاً للتدفق التلقائي المنتظم، إنه بالتعبئة الكثيفة المنظمة يحتشد للامداد الفوري عند الطلب، وكلما زيدت التعبئة ازداد اتساعاً ومرونة وامداداً، فيصير طاقة هائلة مدخرة جاهزة متحفزة، إنها ليست نتاج وعي اللحظة، وإنما تكونت هذه الطاقة الزاخرة على امتداد عمر الفرد، في مراحل متتالية وجهود منظمة، وتعبئة موصولة، فبينما أن الوعي آني وبسيط المحتوى وقصير المدى، فإن اللاوعي بعد حشده وتعبئته يكون زاخراً بمركبات كثيفة، ويصبح جاهزاً للتدفق التلقائي المتصل، وبمثل هذه التعبئة والاحتشاد والجاهزية التلقائية يتحقق ما يشاهده الناس من مهارات، تبلغ حد الاعجاز عند بعض الأفراد، ولكنها أكثر تجلياً في المهارات الجسدية وتنويعاتها الرياضية المذهلة؛ لأن هذه المهارات قابلة للتجسيد والعرض، بخلاف التعبئة بالأفكار والمعارف ومهارات الأداء الأخرى، التي يصعب تجسيدها أمام الناس، فتتجلى في أعمال إبداعية في الفكر والعلم والفن والأدب.

إن قابليات الإنسان التي تبرمجها البيئة في الطفولة، تظل قابلة لإعادة الفتح، وإعادة البرمجة، فإذا استيقظ الفرد وأعاد فتحها فإنها تتيح له ان يعيد برمجة نفسه، بأي شيء يريده لمواجهة مشكلات الحياة، والاستعداد لمتطلبات المستقبل، إنها إمكانات عظيمة، وفرص هائلة ضاعت ومازالت تضيع على أكثر الناس، فاللاوعي إذا تبرمج فإنه يستغني عن الوعي، فقابلية البرمجة هي السر الأعظم في الإنسان، إنها مفتاح قدراته، ووسيلة تطوير ذاته، ولكن هذه القابليات تتبرمج في الغالب تلقائياً بخليط مربك، وأحياناً يكون خليطاً ثقيلاً مقعداً مما هو سائد في البيئة، وقد تمتلئ بما ينتهي باستلاب الفرد، وإلغاء استقلاله، ومع ذلك يظل الفرد المسلوب مغتبطاً بهذا الاستلاب، ومبتهجاً بهذا الالغاء؛ لأنه معجون به، فلا يكتشف حقيقته إلاّ في حالات نادرة، ولكن حين يدرك الفرد طبيعة قابلياته ويعرف طبيعة الخليط الذي امتلأت به هذه القابليات تلقائياً، فإنه قد يتدارك نفسه ويعيد برمجة ذاته، وفي حالة التدارك فإن هذه القابليات تفتح له آفاقًا لا نهاية لها، سواء في إعادة برمجة خافيته بما يرفع به نفسه، أو باكتساب ما يريده من مهارات فكرية ومعرفية وعملية وعادات راقية متنوعة، يملأ بها ذاته، فتستجيب له تلقائياً عند الطلب، وتظل مفتوحة للتطوير والتجديد والارتقاء إلى ما لا نهاية.

إن اللاوعي بما أودع فيه ينطلق منساباً أو متدفقاً، مستقلاً عن الوعي، سواء كان محتواه جيداً، أم كان المحتوى رديئاً، ومن هنا فهو سلاح ذو حدين، فإذا أحسن الإنسان استثماره فهو يحيله إلى مخزون لا ينضب للخبرات والمهارات، ومنبع لا يجف للأفكار والقدرات، إن الخافية منظومة من القابليات الأمينة، يودع فيها الإنسان ما يشاء من طاقات وقدرات ومهارات، تظل جاهزة للتدفق التلقائي، أما إذا جرى إهمال هذه القابليات فسوف تمتلئ تلقائياً بما يلقى فيها من الأوهام، والتخرصات، والأهواء، والآراء الارتجالية، والأكاذيب والتلفيقات، إن اللاوعي يتحكم بالإنسان تلقائياً، فإما ان تضيع به حياته، أو يمده بعظيم المهارات، ودقيق المعارف، وجميل العادات.

إن مخزون الخافية لا يتحكم فقط في تفكير الفرد وسلوكه أثناء يقظته، بل إن البرمجة بالالتزام والتعود توقظه من نومه مهما كان مستغرقاً فيه، فيستيقظ في اللحظة نفسها التي يبرمج نفسه على الاستيقاظ فيها، وهذه البرمجة هي التي شاعت معرفتها بين الجميع، لقد عرف الناس هذه الجزئية الصغيرة مما تعنيه البرمجة الذاتية، لكن ظاهرة التبرمج في شمولها المدهش مازالت غائبة عن أذهان أكثر الناس، فالاهتمام بالساعة البيولوجية ظل محصوراً بالذين يعانون الأرق، فهم يتلمسون أسبابه، ويحاولون التكيف معه؛ من أجل التغلب عليه، ولكن هذا التركيز صرف الأذهان عما هو أهم، وحصر الاهتمام بمشكلة الأرق، مما أوهم بأن البرمجة لا تتحكم الا بتوقيت النوم واليقظة فقط، مع ان قابليات التبرمج مفتوحة على كل المجالات، فالحقيقة إن الإنسان كائن تلقائي، وأنه يتبرمج بما يكرر فعله في أي مجال فيعتاد عليه ويصير سلوكاً تلقائياً ينساب منه، وتترسخ البرمجة بمقدار الانتظام على الفعل، وتوسيع مداه، وقوة الارتباط العاطفي به، ورسوخ العادة وتجديد المحتوى.

في الكتاب المثير الشيق الذي كتبه عالم الأحياء الأمريكي البرفيسور جون بالمر، بعنوان (الساعة الحية)، ترجمة د. سامر الايوبي.. يتعرف القارئ إلى كثير من الحقائق المدهشة للآليات العجيبة والدقيقة، التي تتحكم في جسم الإنسان وعقله وعواطفه وسلوكه وكل جوانب حياته، إن هذا العالم أمضى أربعين عاماً وهو مأخوذ بالإيقاع الحيوي المذهل للأحياء، يتابعه في شتى تجلياته، ويدرسه في كل مظاهره، لقد أدهشته هذه الظاهرة الحيوية، واستولت على لبه، واستغرقت اهتمامه، فصار من أكثر العلماء انشغالاً بها، واستيعاباً لها، وفهماً لدلالاتها، وانبهاراً بروعتها، وقد حاول أن يجسد للناس بعض ما توصل إليه بعد المعايشة الطويلة لهذه الظاهرة الحيوية الرائعة، كما تتبع تجارب غيره من العلماء والباحثين، وهو يؤكد أن سيطرة الساعة الحيوية شاملة، وأننا إذا أردنا ان نفهم الأشياء الحية حقاً فإننا يجب ان نتفهم ساعاتها، ويرى أن الناس يخسرون كثيراً بعدم معرفتهم طبيعة أجسامهم وعقولهم وقابلياتهم، إنهم بذلك: يفتقدون مفتاحاً متزايد الأهمية لفهم الحياة، إن قابلية الإنسان للتبرمج التلقائي، أو التبرمج المخطط المنظم المكثف المقصود، هي مفتاح حياته؛ لأنه في الأصل يتبرمج تلقائياً بما في البيئة من حقائق وأوهام، ومن انفتاح أو انغلاق، ومن تعصب أو تسامح، غير أنه قابل لإعادة البرمجة بأفكار مغايرة، ورؤى جديدة، وتصورات طارئة، كما أنه يستطيع تطوير ما يرغب في تأكيده وتوسيعه وتعميقه مما تبرمجبه تلقائياً، كما أنه بسهولة أكثر يستطيع أن يضيف إلى ذاته معارف ورؤى وتصورات ومهارات، لم يتبرمج بها من قبل، ولا تتعارض مع أية برمجة سابقة، وإنما هي قدرات محايدة.

إن الآليات التي تتحكم في الإنسان هي أحد شواهد نظرية التلقائية الإنسانية، ولقد شاركت جامعات كثيرة في أمريكا، وأوروبا، وفي أوطان أخرى، في إجراء كثير من التجارب المتنوعة، التي يراد منها التعرف إلى أجهزة التشغيل الذاتي في الإنسان، وإمكانات الاستفادة الفردية والجماعية من هذه الآليات العجيبة.


نقلا عن صحيفة الرياض (http://www.alriyadh.com/2011/06/19/article643100.html)