المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة بقلمي يارب تعجبكم


المغربي
24-04-2009, 08:10 PM
من وحي شهر الصيام
- يا لها من غربة لعينة…
أخذتُ أردد هذه الجملة وأنا أتململ فى جلستى.. تاره أجلس القرفصاء.. وتاره أخرى أسند جانبى على يد المقعد القديم فتأخذنى اليد القديمة بعد تهشمها الى مقعد آخر رغما عنى، وأعاود الكره من جديد فى كل مقعد من مقاعد الصالة الضيقة حتى لم يعد هناك ما يصلح للجلوس سوى الأرض.
- هل أعمل لك معى "شاى" يا عمو أحمد؟
أشيح بوجهى ناحية التليفزيون واضع يدى على فمى إشارة لـ"شريف" ابن صديقى بالمسكن بأن يلتزم الصمت حتى الانتهاء من متابعة هذا الخبر الذى أترقبه ويترقبه الجميع.
أجلس على الأرض.. أنظر للتليفزيون وأنصت باهتمام.. انتظر بلهفة بالغة ما ستقوله لجنة الرؤية.
وفجأة… قفزت من على الأرض وأنا أصفق بيدى كالمجنون. نظر إليّ شريف وكأنه ينظر لإنسان قد أصابه الجنون مرة واحدة وسألنى.
- ماذا حدث يا عمو.. أراك فرحا!!
نظرت إليه وقد تهللت أساريرى من شدة الفرحة.
- لقد اتضحت الرؤية يا بنى.. غدا أول أيام رمضان الكريم… كل عام وأنت بخير.
أصاب الصبى صمت مفاجئ واكتسى وجهه بالفرحة الغامرة ثم تبدلت فجأة إلى حيرة وقلق وسألنى بصوت خافت وكأنه تلميذ يخاف الدخول فى امتحان آخر العام:
- إذن لن يكون هناك غذاء بعد اليوم يا عمو؟
نظرت إليه وأنا أبتسم:
- إن شهر رمضان يعنى العبادة وليس الأكل فقط يا شريف.
بادرته بهذا القول وأنا ابتسم فقد ذكرنى بأيام طفولتى فى شهر رمضان وكيف كان والدى رحمة الله عليه يحثنى على الصوم وأنا فى الخامسة من عمرى.
تذكرت طرفة حدثت لى وأنا فى هذا السن. فقد كان والدى يفضل دائما صنع سلاطة الطحينة قبل الإفطار بيده والتى كنت أعشقها وفى كل مرة عند جلوسنا على مائدة الإفطار ينظر والدى فيجد طبق سلاطة الطحينة قد فُقد إلى النصف تقريبا، فينظر باتجاهى ويدارى ابتسامة ذات مغزى. وبمرور الأيام عرف والدى السبب فقد رأنى آكل من الطبق قبل مدفع الإفطار بنصف ساعة، فنهرنى وعايرنى أخوتى بالإفطار فى نهار شهر رمضان، ولكنى فى براءة الأطفال أجبتهم وأنا أبكى بحرقة:
- أنا لست مفطرا.. فأنا حتى هذه اللحظة لم آكل خبزا أو أشرب ماءا.. أنها طحينة فقط.
وانفجر أبى وأمى وأخوتى ضاحكين فقد كنت أعتقد بأن المفطر هو الذى يأكل خبزا أو يشرب ماءا فقط أما أى شئ آخر فلا يفطر. وكنت أضحك كثيرا وأنا أتذكر هذه الطرفة الرمضانية.
ارتديت ملابسى بسرعة، أنظر لشريف وأنا مازلت ابتسم.. ينظر إلى وأنا أتوجه ناحية الباب الخارجى.. يبادرنى:
- إلى أين يا عمو..؟
- إذا حضر والدك فقل له أننى ذاهب إلى الجمعية لشراء طعام للسحور.
نظر إلى الصبى بأسى وهو يردد:
- إن ماما وأخوتى الآن فى مصر سيأكلون كل شئ ويشترون كل لوازم رمضان… القطايف والكنافة والمكسرات بجميع أنواعها… أما هنا….
تقدمت ناحيته مبتسما أهدئ من روعه وأنا أربت على كتفه فى حنان:
- وسوف نأتى لك أنا ووالدك بكل ما تشتهيه يا شريف… إن الكويت مليئة بأشياء كثيرة أيضا.. لا تحزن… سآتى لك بكل شئ تحبه من الجمعية.
انطلقت متوجها الى فرع الجمعية القريب لشراء اللبن والجبن وغيرهما.. أشم فى الهواء عبق روائح هذا الشهر الكريم.
دخلت الجمعية وأنا أحمل سلة صغيرة لأن الأشياء التى أود شراءها قليلة. ولكنى شعرت بأن هذا هو يوم الحشر العظيم.. فقد ازدحمت الجمعية على آخرها.. حاولت الخروج والإفلات ولكن هيهات فقد كان يدفعنى هذا بالعربة التى يجرها، وتطأنى قدم ذاك.. ابتعد عن هذه السيدة احتراما فيدفعنى ذاك الرجل بجسده الممتلئ فأسقط تارة فى ركن الألبان ويرتوى وجهى بخيرات الله من الروب والجبن والزبد المثلج فى هذا البرد، وتارة أخرى أسقط فى ركن الطماطم فتتغير ملابسى من اللون الأخضر إلى اللون الأحمر القاتم وكأنها طهيت وصارت صلصة بالمايونيز. وفى كل مرة أنظر للذى دفعنى معاتبا فيبتسم لى ابتسامة رقيقة ويبادرنى قائلا:
- آسف… رمضان كريم.
الجميع يملأون عرباتهم عن آخرها. أما أنا فقد امتلأ وجهى على آخره بكل ما تشتهيه الأنفس فى هذا الشهر الكريم من جبن ولبن وطماطم حتى المخللات فقد طمع وجهى فى الاحتفاظ بها لزوم فتح الشهية.
وخرجت من الجمعية دون أن أدفع فلسا واحدا لا لأننى لا أريد أن أدفع لا سمح الله ولكن لأننى لم أحمل شيئا فى يدى، بل كانت ثيابى هى التى تحمل كل شئ وفى الجمعية لا يحاسبون الثياب على ما تحمله.
وفى الطريق إلى المنزل تخيلت ملايين الجوعى والفقراء فى بقع مختلفة من العالم، وكيف هم فى حاجة إلى كسرة خبز تشبع جوعهم.. كيف يعيشون فى العراء، يلتحفون السماء غطاء لهم!.. يضعون الحصى فى أفواههم ليسدوا عطشهم؟..
كل هذا ويمر شريط ازدحام الجمعية أمام عينى وما نفعله من شراء أشياء كثيرة مهمة وغير مهمة. وفى النهاية نلقى بباقى الطعام فى سلة المهملات غيرنا فى أشد الحاجة إلى بضع لقيمات منه.
أسرعت فى خطواتى يملأنى الأسى باتجاه البقال الموجود أسفل المنزل.. أشترى بعض الأغراض الخفيفة التى فشلت فى الحصول عليها داخل الجمعية.
وصعدت درجات السلم باتجاه شقتنا.. أطرق الباب فيفتح لى صديقى أبو شريف وقد وجدته يرتدى زيّا غريب اللون.. اشتممت عليه روائح ألفتها منذ قليل.. نظر إلى ثيابى ونظرت إلى ثيابه… وفجأة.. انفجرنا ضاحكين ونحن نردد:
- رمضان كريم.