نوره عبدالرحمن "سما"
18-07-2010, 12:44 PM
تفسير الشاعر لشعره
من الوسائل التي تلقاها الأخطل الصغير، والمجموعة في كتاب صدر عن مؤسسة البابطين للإبداع الشعري، رسالة بعث بها إليها كاتب سوري مقيم في الكويت. قال هذا الكاتب في رسالته أن حلقة أدبية تصدّرها أمير الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح تداولت في أمر قصيدته «جفنه علّم الغزل» وأشكل عليها فهم بعض أبياتها. وفي هذه الرسالة أن بعض أفراد هذه الحلقة تمنوا لو غيّر الأخطل هذه المفردة في القصيدة لكان أحسن. أفلم يكن من الأفضل لو وضع الشاعر كلمة «النعيم» مكان كلمة «الجحيم» في البيت التالي:
فحرقنا نفوسنا
في جحيم من القبلْ
ثم ما الذي قَصَدَه الأخطل ببيتيه التاليين:
يا حبيبي أكلّما ضمّنا
للهوى مكانْ
أشعلوا النارَ حولَنا
فغدونا لها دخانْ
وليس في كتاب هذه الرسائل ما يفيد أن الأخطل أجاب على هذه الرسالة. والأرجح أنه لم يجب. ذلك أنه لم يكن يجيد في أمر الشعر سوى نظمه لا غير. أما تفسير أو شرح ما كان يكتبه، فقد تركه لسواه من النقاد. أو لنقل أنه ترك هذه المهمة لمتلقي شعره، سواء كانوا نقاداً أو قراء. والواقع أن صدره كان يضيق بكل من يتحدث عن النظريات الشعرية، أو النظريات حول الشعر. فعندما ألقى مرة في قاعة ويست هول بجامعة بيروت الأمريكية قصيدته «عروة وعفراء»، وقام بعده الشاعر الشاب يومها سعيد عقل يقول إنه يعجب لشاعر معاصر يكتب قصيدة عن موضوع أت من الصحراء أو من التاريخ، ولا يراعي نظريات الشعر الحديث، أو المواضيع المعاصرة، نهض الأخطل الصغير من مقعده وارتجل بيتين في هجاء من يتعرّضون له، غادر بعدها القاعة.
على أن بعض الشعراء الآخرين، من قدامى ومحدثين، كانوا يجيبون حيناً عن مثل هذه الاستفسارات، أو يعتصمون بالصمت حيناً آخر. فعندما قيل للمتنبي أن عبارة «صداقته» الواردة في بيته:
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدواً له ما من صداقتهِ بدُّ
أفضل منها عبارة «مداجاته» لأن المداجاة لا الصداقة تنطبق أكثر على واقع الحال، استمع المتنبي إلى صاحب القول ولم يردّ.
ولكن بعض الشعراء يستجيبون إذا سُئلوا عما قصدوه بهذه العبارة، أو بتلك الصورة، أو بهذا البيت. فقد سئل الشاعر التشيلي بابلو نيرودا مرة عما قصده بعبارة: «من أجله تُدهن المشافي باللون الأزرق».. فصمت لحظة قبل أن يقول: «لا يُطلب من الشاعر أن يجيب عن مثل هذه الاستفسارات، ولكن بما أنكم سألتموني عما قصيدته بهذه الصورة، وخوفاً من أن تظنوا أن المجانية عرفت سبيلها إليَّ، أقول لكم ما الذي قصدتُه بها». وشرح هذا القصد وهو يتمزق غيظاً وامتعاضاً..
ولكن بعض الشعراء المعاصرين ممن أضافوا إلى مهمة نظم الشعر، مهمة التنظير والغوص في النظريات النقدية التي تتناول العملية الشعرية لديهم على الدوام استعداد للغوص في مثل هذه الأسئلة. قد يعود جزء من هذا الاستعداد إلى شعور الشاعر الحديث بأن تهمة الوقوع في السهولة والمجانية تهمة كثيراً ما توجّه إليه، ولديه هو بالطبع شهية كبيرة للحديث عمّا قصده وعمّا لم يقصده. ولكن من حيث المبدأ تظلّ كلمة سلامة موسى الشهيرة: «على الأديب أن يكتب وعلى الناقد أن ينقد» كلمة سليمة وفي محلها.
لا يُطلب من الشاعر أن يُرفق قصيدته بمذكرة أيضاحية أو تفسيرية. يرفق الشاعر قصيدته أحياناً بعنوانها، أو بمناسبة أو تاريخ نظمها، أو يشير في المتن إلى معنى هذه الكلمة أو تلك. أما أن يلجأ إلى ما يلجأ إليه النقاد عادة من غوص في معاني القصائد وصورها، وفي ما الذي عناه بهذا البيت أو بهذه القصيدة بوجه عام، فهذا ما لم يشترطه أحد من أساتذة صناعة الشعر أو صناعة النقد. ذلك أن الشعر بوجه عام عملية مقعدة يدخل فيها الإلهام والحدس والإبهام والغموض، وفيها من وعورة السبيل ووطأة المعاناة، ما يُفترض أن تتدخل جهة أخرى لمحاولة كشفه، أو لمشاركة الشاعر في تفسيره. وقد تظل عملية التفسير مهمة صعبة أو عصية على الدوام، أو مهمة متروكة للبحث والمعالجة، دون أن تصدر حولها أحكام نهائية، وذلك لتعذر الوصول إلى تلك الأحكام. ولكن هذا لا يعيب عمل الشاعر، ولا يعيب فنه. إن الشعر خلق فني لا يمكن إخضاعه لمقاييس النثر، أو لأي مقاييس أخرى. وكثيراً ما يعجز الشاعر نفسه عن إدراك أو شرح كل ما حصل لقصيدته عند ولادتها، أو قبل هذه الولادة، نظراً لما صادفه من خلال كتابتها من أحوال لا يدركها إلا من عاناها. من أجل ذلك نُظر دوماً إلى الشاعر على أنه نمط خاص من المبدعين أو الرائين الذين لا يجوز إخضاعهم لتلك الحسابات الدقيقة أو العسيرة التي يمكن أن يخضع لها مبدعون آخرون كالروائيين أو القصّاصين. فالشعر سرّ لا يقبض عليه في أعلى تجلياته سوى نخبة خاصة مسكونة برؤى وهواجس كثيرا ما يتعذر تقديم حساب شافٍ وافٍ بشأنها، وما على القارئ أو الناقد سوى اللجوء إلى كدّ الذهن وبذل الجهد لإدراك صورها ومعانيها على النحو الأمثل. أما أن يُطلب من الشاعر أن يُسعف هذين المتلقيين في ما هو من اختصاصهما، فأمر لم يرد في ذهن أحد من شيوخ الأدب، لا في القديم ولا في الحديث!
المصدر (http://www.alriyadh.com/2010/07/18/article544708.html)
من الوسائل التي تلقاها الأخطل الصغير، والمجموعة في كتاب صدر عن مؤسسة البابطين للإبداع الشعري، رسالة بعث بها إليها كاتب سوري مقيم في الكويت. قال هذا الكاتب في رسالته أن حلقة أدبية تصدّرها أمير الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح تداولت في أمر قصيدته «جفنه علّم الغزل» وأشكل عليها فهم بعض أبياتها. وفي هذه الرسالة أن بعض أفراد هذه الحلقة تمنوا لو غيّر الأخطل هذه المفردة في القصيدة لكان أحسن. أفلم يكن من الأفضل لو وضع الشاعر كلمة «النعيم» مكان كلمة «الجحيم» في البيت التالي:
فحرقنا نفوسنا
في جحيم من القبلْ
ثم ما الذي قَصَدَه الأخطل ببيتيه التاليين:
يا حبيبي أكلّما ضمّنا
للهوى مكانْ
أشعلوا النارَ حولَنا
فغدونا لها دخانْ
وليس في كتاب هذه الرسائل ما يفيد أن الأخطل أجاب على هذه الرسالة. والأرجح أنه لم يجب. ذلك أنه لم يكن يجيد في أمر الشعر سوى نظمه لا غير. أما تفسير أو شرح ما كان يكتبه، فقد تركه لسواه من النقاد. أو لنقل أنه ترك هذه المهمة لمتلقي شعره، سواء كانوا نقاداً أو قراء. والواقع أن صدره كان يضيق بكل من يتحدث عن النظريات الشعرية، أو النظريات حول الشعر. فعندما ألقى مرة في قاعة ويست هول بجامعة بيروت الأمريكية قصيدته «عروة وعفراء»، وقام بعده الشاعر الشاب يومها سعيد عقل يقول إنه يعجب لشاعر معاصر يكتب قصيدة عن موضوع أت من الصحراء أو من التاريخ، ولا يراعي نظريات الشعر الحديث، أو المواضيع المعاصرة، نهض الأخطل الصغير من مقعده وارتجل بيتين في هجاء من يتعرّضون له، غادر بعدها القاعة.
على أن بعض الشعراء الآخرين، من قدامى ومحدثين، كانوا يجيبون حيناً عن مثل هذه الاستفسارات، أو يعتصمون بالصمت حيناً آخر. فعندما قيل للمتنبي أن عبارة «صداقته» الواردة في بيته:
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى
عدواً له ما من صداقتهِ بدُّ
أفضل منها عبارة «مداجاته» لأن المداجاة لا الصداقة تنطبق أكثر على واقع الحال، استمع المتنبي إلى صاحب القول ولم يردّ.
ولكن بعض الشعراء يستجيبون إذا سُئلوا عما قصدوه بهذه العبارة، أو بتلك الصورة، أو بهذا البيت. فقد سئل الشاعر التشيلي بابلو نيرودا مرة عما قصده بعبارة: «من أجله تُدهن المشافي باللون الأزرق».. فصمت لحظة قبل أن يقول: «لا يُطلب من الشاعر أن يجيب عن مثل هذه الاستفسارات، ولكن بما أنكم سألتموني عما قصيدته بهذه الصورة، وخوفاً من أن تظنوا أن المجانية عرفت سبيلها إليَّ، أقول لكم ما الذي قصدتُه بها». وشرح هذا القصد وهو يتمزق غيظاً وامتعاضاً..
ولكن بعض الشعراء المعاصرين ممن أضافوا إلى مهمة نظم الشعر، مهمة التنظير والغوص في النظريات النقدية التي تتناول العملية الشعرية لديهم على الدوام استعداد للغوص في مثل هذه الأسئلة. قد يعود جزء من هذا الاستعداد إلى شعور الشاعر الحديث بأن تهمة الوقوع في السهولة والمجانية تهمة كثيراً ما توجّه إليه، ولديه هو بالطبع شهية كبيرة للحديث عمّا قصده وعمّا لم يقصده. ولكن من حيث المبدأ تظلّ كلمة سلامة موسى الشهيرة: «على الأديب أن يكتب وعلى الناقد أن ينقد» كلمة سليمة وفي محلها.
لا يُطلب من الشاعر أن يُرفق قصيدته بمذكرة أيضاحية أو تفسيرية. يرفق الشاعر قصيدته أحياناً بعنوانها، أو بمناسبة أو تاريخ نظمها، أو يشير في المتن إلى معنى هذه الكلمة أو تلك. أما أن يلجأ إلى ما يلجأ إليه النقاد عادة من غوص في معاني القصائد وصورها، وفي ما الذي عناه بهذا البيت أو بهذه القصيدة بوجه عام، فهذا ما لم يشترطه أحد من أساتذة صناعة الشعر أو صناعة النقد. ذلك أن الشعر بوجه عام عملية مقعدة يدخل فيها الإلهام والحدس والإبهام والغموض، وفيها من وعورة السبيل ووطأة المعاناة، ما يُفترض أن تتدخل جهة أخرى لمحاولة كشفه، أو لمشاركة الشاعر في تفسيره. وقد تظل عملية التفسير مهمة صعبة أو عصية على الدوام، أو مهمة متروكة للبحث والمعالجة، دون أن تصدر حولها أحكام نهائية، وذلك لتعذر الوصول إلى تلك الأحكام. ولكن هذا لا يعيب عمل الشاعر، ولا يعيب فنه. إن الشعر خلق فني لا يمكن إخضاعه لمقاييس النثر، أو لأي مقاييس أخرى. وكثيراً ما يعجز الشاعر نفسه عن إدراك أو شرح كل ما حصل لقصيدته عند ولادتها، أو قبل هذه الولادة، نظراً لما صادفه من خلال كتابتها من أحوال لا يدركها إلا من عاناها. من أجل ذلك نُظر دوماً إلى الشاعر على أنه نمط خاص من المبدعين أو الرائين الذين لا يجوز إخضاعهم لتلك الحسابات الدقيقة أو العسيرة التي يمكن أن يخضع لها مبدعون آخرون كالروائيين أو القصّاصين. فالشعر سرّ لا يقبض عليه في أعلى تجلياته سوى نخبة خاصة مسكونة برؤى وهواجس كثيرا ما يتعذر تقديم حساب شافٍ وافٍ بشأنها، وما على القارئ أو الناقد سوى اللجوء إلى كدّ الذهن وبذل الجهد لإدراك صورها ومعانيها على النحو الأمثل. أما أن يُطلب من الشاعر أن يُسعف هذين المتلقيين في ما هو من اختصاصهما، فأمر لم يرد في ذهن أحد من شيوخ الأدب، لا في القديم ولا في الحديث!
المصدر (http://www.alriyadh.com/2010/07/18/article544708.html)