نوره عبدالرحمن "سما"
29-08-2010, 11:25 AM
ظواهر فنية في شعر المتنبي
جهاد فاضل
يلاحظ الدكتور إبراهيم عبدالمنعم إبراهيم في كتابه «بحوث في الشعرية وتطبيقاتها عند المتنبي»، وهو أحدث ما صدر عن المتنبي من كتب، أن في شعر المتنبي ظاهرة غربية لفتت أنظار الباحثين منذ القديم، وهي احتمال كلامه لأكثر من معنى، وبخاصة في كافورياته التي كان يضطر فيها إلى مدح كافور بينما هو في قرارة نفسه مبغض له هازئ به. وقد دارت حول هذه القضية معركة فكرية قديمة بين ابن الأثير في «المثل السائر» وابن أبي الحديد في «الفلك الدائر» حيث أورد ابن الأثير قول المتنبي في كافور:
فما لك تعني بالأسنة والقنا
(وجدّك) طعان بغير سنان
وعلق عليه بقوله: ان هذا بالذم أشبه منه بالمدح، لأنه يقول: لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجدّ وسماحة، وهذا لأفضل فيه لأن السعادة تنال الخامل والجاهل ومن لا يستحقها.. وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في كافورياته. وحكى أبوالفتح ابن جني قال: قرأت علي أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى قوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنتُ أرجو أن أراك فأطرب
فقلت له: يا أبا الطيب لم تزد على أن جعلته أبا زنة (كنية القرد) فضحك لقولي.
وهذا القسم من الكلام يسمى الموجه، أي له وجهان، وهو ما يدل على براعة الشاعر وحسن تأتيه.
ويضيف الباحث: وقد أغرى ذلك بعض الكتاب بإعادة قراءة كافوريات المتنبي في ضوء هذه الفكرة، فوضع كتاباً في «قلب كافوريات المتنبي» إلى أضدادها وتحويلها من المديح إلى الهجاء. وحول هذه الظاهرة أيضاً يقول أبوالقاسم الأصفهاني: «ان مقدماتها (أي الكافوريات) موجهة إلى الاشتياق لسيف الدولة والتحسر على فراقه».
ولكن هناك من يعترض على هذا الرأي ولا يقره، بل يراه ضرباً من التعسف. فهذا ابن أبي الحديد يتعقب كلام ابن الأثير ويقول: إن الناس لهم واقع ظريف مع المتنبي في هذا الباب وكان أصله الشيخ أبوالفتح عثمان بن جني، وزعم من جاء بعده أن المتنبي كان يقصد ذلك ويتعمده.. وما كان ذلك قط ولا وقع شيء منه، ولا قصد أبوالطيب نحو ذلك أصلاً. فأما هذا البيت: «وجدّك طعّان بغير سنان»، وغيره، فقد قال في سيف الدولة مثله، بل أمثاله. ومن ذلك قوله:
ولقد رمت (بالسعادة) بعضاً
من نفوس العدا فأدركت كلا
وقوله:
إذا سعت الأعداء في كيد مجده
سعى (جدّه) في كيدهم سعي محنق
ولو تأملت الأشعار كلها، وأردت ان تستنبط منها ما يكون هجاء لقدرت».
ولا يوافق الباحث ابراهيم عبدالمنعم ابراهيم ابن أبي الحديد فيما ذهب إليه من نفي هذا الشعر الموجه نفياً تاماً في كافوريات المتنبي. فلئن صح في بعض المعاني فلن يصح في معظمها. وهو يرى أننا لو استعنا بمعطيات علم النفس الحديث لوجدنا على ضوئها أن عقل المتنبي الباطن كان يفيض ببعض العبارات التي تظهر مكنونات نفسه بما يحمله لكافور من حقد وكراهية ورغبة في التنقص والسخرية. وحسبنا أن ننظر في قوله:
ترفّع عن عون المكارم قدره
فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
فهو يقر إقراراً واضحاً أنه ترفع عن المكارم. فإن يكن كذلك فليس أمامه إلا أن ينغمس في المخازي لو أخذنا بالدليل العكسي. ثم انه يفعل الفعلات، وليس في هذه الصيغة وتلك الألفاظ إلا الدلالة المتواطئة على هوان قدره وسوء صنيعه لما وقر في الوجدان الجمعي من ارتباط (الفعلة) بالخزي والعار.
ويعرض الباحث للون من المحسنات يعتمد على السخرية والتعريض لا يمكن ضبطه والوقوف على طبيعته دون الاستعانة بالسياق والمقام ونوايا المرسل بل ونوايا المتلقي. وهو ما يتكشف بجلاء في علاقة المتنبي بكافور الذي واجهه المتنبي في أول لقاء بينهما بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
ويحتمل هذا اللون من السخرية مبدأ اللغة المزدوجة أو الازدواج اللغوي على طريقة «ليت عينيه سواء» بالنسبة للأعور. ونجد هذا كثيراً عند المتنبي في خطابه لكافور من نحو قوله:
قضى الله يا كافور أنك أول
وليس بقاض أن يرى لك ثاني
أو قوله:
وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
فلا يدري أي أولوية له وأي معان فيه، أهي معاني المروءة والكرم أم معاني الخزي والعار، حتى يصرح بقوله:
أميناً وإخلافاً وغدراً وخسة
وجبناً؟ أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟
لينهتك الستر ويعرف المقصود!
ولعل شعر المتنبي الذي ينام ملء جفونه عن شواردها من أكثر نماذج الشعر العربي لظاهرة التحول الدلالي حيث تنعتق فيها الدوال من مدلولاتها وتتحول إلى إشارات حرة سابحة في فضاء المعنى غير مقيدة بحدود المعاني المعجمية بما تحويه من طاقة تخييلية تعتمد على تحولات الإشارة وفعاليات القراءة.
لنأخذ مثالاً من شعر المتنبي، وهو هذا البيت الذي دار حوله لغط كبير وتعددت فيه القراءات لاحتمال اللفظ معاني عدة:
يترشّفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
فلفظة «التوحيد» من الألفاظ التي ذهبت فيها القراءات مذاهب شتى. ذهب بعضهم إلى ان التوحيد هو نوع من التمر الحلو المذاق، تخلصا من المبالغة. وذهب الواحدي إلى ان هذه الرشفات لحبهن إياه كانت أحلى من كلمة التوحيد، وهذا إفراط وتجاوز حدّ. وقد يجوز هذا على مذهب الشعراء في مبالغاتهم. وهو قريب من مذهب المتنبي في جرأته وتقحمه على أمور العقيدة.
كما يحتمل المعنى أن هذه الرشفات المتعاقبات أحلى من الرشفة الواحدة، وقد تكون هذه الرشفات المختلفات طعماً ومذاقاً أحلى من الرشف من امرأة واحدة لا يعدوها إلى غيرها.
وقد تكون «أحلى» هنا ليست للمفاضلة، بل تأتي على المقاربة في التشبيه، فتكون هذه الرشفات قريبة من لذة الايمان والوحدانية، عنده أو عندهن، وينقلب المعنى هنا إلى النقيض ليدل على فرط الايمان وشدة التدين. فقد جعل التوحيد الغاية القصوى التي ينتهي عندها الاستمتاع والغبطة والسعادة.
والله أعلم ما في القلوب والسرائر، وفي قلب المتنبي وسريرته، وهو الذي شغل أحباءه وخصومه عبر حقب التاريخ ومازال يشغلهم إلى اليوم!
http://www.alriyadh.com/2010/08/29/article555537.html
جهاد فاضل
يلاحظ الدكتور إبراهيم عبدالمنعم إبراهيم في كتابه «بحوث في الشعرية وتطبيقاتها عند المتنبي»، وهو أحدث ما صدر عن المتنبي من كتب، أن في شعر المتنبي ظاهرة غربية لفتت أنظار الباحثين منذ القديم، وهي احتمال كلامه لأكثر من معنى، وبخاصة في كافورياته التي كان يضطر فيها إلى مدح كافور بينما هو في قرارة نفسه مبغض له هازئ به. وقد دارت حول هذه القضية معركة فكرية قديمة بين ابن الأثير في «المثل السائر» وابن أبي الحديد في «الفلك الدائر» حيث أورد ابن الأثير قول المتنبي في كافور:
فما لك تعني بالأسنة والقنا
(وجدّك) طعان بغير سنان
وعلق عليه بقوله: ان هذا بالذم أشبه منه بالمدح، لأنه يقول: لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجدّ وسماحة، وهذا لأفضل فيه لأن السعادة تنال الخامل والجاهل ومن لا يستحقها.. وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في كافورياته. وحكى أبوالفتح ابن جني قال: قرأت علي أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى قوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنتُ أرجو أن أراك فأطرب
فقلت له: يا أبا الطيب لم تزد على أن جعلته أبا زنة (كنية القرد) فضحك لقولي.
وهذا القسم من الكلام يسمى الموجه، أي له وجهان، وهو ما يدل على براعة الشاعر وحسن تأتيه.
ويضيف الباحث: وقد أغرى ذلك بعض الكتاب بإعادة قراءة كافوريات المتنبي في ضوء هذه الفكرة، فوضع كتاباً في «قلب كافوريات المتنبي» إلى أضدادها وتحويلها من المديح إلى الهجاء. وحول هذه الظاهرة أيضاً يقول أبوالقاسم الأصفهاني: «ان مقدماتها (أي الكافوريات) موجهة إلى الاشتياق لسيف الدولة والتحسر على فراقه».
ولكن هناك من يعترض على هذا الرأي ولا يقره، بل يراه ضرباً من التعسف. فهذا ابن أبي الحديد يتعقب كلام ابن الأثير ويقول: إن الناس لهم واقع ظريف مع المتنبي في هذا الباب وكان أصله الشيخ أبوالفتح عثمان بن جني، وزعم من جاء بعده أن المتنبي كان يقصد ذلك ويتعمده.. وما كان ذلك قط ولا وقع شيء منه، ولا قصد أبوالطيب نحو ذلك أصلاً. فأما هذا البيت: «وجدّك طعّان بغير سنان»، وغيره، فقد قال في سيف الدولة مثله، بل أمثاله. ومن ذلك قوله:
ولقد رمت (بالسعادة) بعضاً
من نفوس العدا فأدركت كلا
وقوله:
إذا سعت الأعداء في كيد مجده
سعى (جدّه) في كيدهم سعي محنق
ولو تأملت الأشعار كلها، وأردت ان تستنبط منها ما يكون هجاء لقدرت».
ولا يوافق الباحث ابراهيم عبدالمنعم ابراهيم ابن أبي الحديد فيما ذهب إليه من نفي هذا الشعر الموجه نفياً تاماً في كافوريات المتنبي. فلئن صح في بعض المعاني فلن يصح في معظمها. وهو يرى أننا لو استعنا بمعطيات علم النفس الحديث لوجدنا على ضوئها أن عقل المتنبي الباطن كان يفيض ببعض العبارات التي تظهر مكنونات نفسه بما يحمله لكافور من حقد وكراهية ورغبة في التنقص والسخرية. وحسبنا أن ننظر في قوله:
ترفّع عن عون المكارم قدره
فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
فهو يقر إقراراً واضحاً أنه ترفع عن المكارم. فإن يكن كذلك فليس أمامه إلا أن ينغمس في المخازي لو أخذنا بالدليل العكسي. ثم انه يفعل الفعلات، وليس في هذه الصيغة وتلك الألفاظ إلا الدلالة المتواطئة على هوان قدره وسوء صنيعه لما وقر في الوجدان الجمعي من ارتباط (الفعلة) بالخزي والعار.
ويعرض الباحث للون من المحسنات يعتمد على السخرية والتعريض لا يمكن ضبطه والوقوف على طبيعته دون الاستعانة بالسياق والمقام ونوايا المرسل بل ونوايا المتلقي. وهو ما يتكشف بجلاء في علاقة المتنبي بكافور الذي واجهه المتنبي في أول لقاء بينهما بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
ويحتمل هذا اللون من السخرية مبدأ اللغة المزدوجة أو الازدواج اللغوي على طريقة «ليت عينيه سواء» بالنسبة للأعور. ونجد هذا كثيراً عند المتنبي في خطابه لكافور من نحو قوله:
قضى الله يا كافور أنك أول
وليس بقاض أن يرى لك ثاني
أو قوله:
وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
فلا يدري أي أولوية له وأي معان فيه، أهي معاني المروءة والكرم أم معاني الخزي والعار، حتى يصرح بقوله:
أميناً وإخلافاً وغدراً وخسة
وجبناً؟ أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟
لينهتك الستر ويعرف المقصود!
ولعل شعر المتنبي الذي ينام ملء جفونه عن شواردها من أكثر نماذج الشعر العربي لظاهرة التحول الدلالي حيث تنعتق فيها الدوال من مدلولاتها وتتحول إلى إشارات حرة سابحة في فضاء المعنى غير مقيدة بحدود المعاني المعجمية بما تحويه من طاقة تخييلية تعتمد على تحولات الإشارة وفعاليات القراءة.
لنأخذ مثالاً من شعر المتنبي، وهو هذا البيت الذي دار حوله لغط كبير وتعددت فيه القراءات لاحتمال اللفظ معاني عدة:
يترشّفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
فلفظة «التوحيد» من الألفاظ التي ذهبت فيها القراءات مذاهب شتى. ذهب بعضهم إلى ان التوحيد هو نوع من التمر الحلو المذاق، تخلصا من المبالغة. وذهب الواحدي إلى ان هذه الرشفات لحبهن إياه كانت أحلى من كلمة التوحيد، وهذا إفراط وتجاوز حدّ. وقد يجوز هذا على مذهب الشعراء في مبالغاتهم. وهو قريب من مذهب المتنبي في جرأته وتقحمه على أمور العقيدة.
كما يحتمل المعنى أن هذه الرشفات المتعاقبات أحلى من الرشفة الواحدة، وقد تكون هذه الرشفات المختلفات طعماً ومذاقاً أحلى من الرشف من امرأة واحدة لا يعدوها إلى غيرها.
وقد تكون «أحلى» هنا ليست للمفاضلة، بل تأتي على المقاربة في التشبيه، فتكون هذه الرشفات قريبة من لذة الايمان والوحدانية، عنده أو عندهن، وينقلب المعنى هنا إلى النقيض ليدل على فرط الايمان وشدة التدين. فقد جعل التوحيد الغاية القصوى التي ينتهي عندها الاستمتاع والغبطة والسعادة.
والله أعلم ما في القلوب والسرائر، وفي قلب المتنبي وسريرته، وهو الذي شغل أحباءه وخصومه عبر حقب التاريخ ومازال يشغلهم إلى اليوم!
http://www.alriyadh.com/2010/08/29/article555537.html