شبكة الدراما والمسرح الكويتية الخليجية > القاعات العامة والإدارية > قاعة الأدب والكتب ( القاعة الثقافية ) > فلسفة الثعبان المقدس *مكتبة متكاملة للقصص القصيرة في الأدب العربي |
البحث في المنتدى |
بحث بالكلمة الدلالية |
البحث المتقدم |
الذهاب إلى الصفحة... |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
06-07-2010, 03:06 PM | #1 (permalink) |
خبيرة في التنمية البشرية العــضوية: 5529 تاريخ التسجيل: 17/09/2009
المشاركات: 3,872
الـجــنــس: أنثى | فلسفة الثعبان المقدس *مكتبة متكاملة للقصص القصيرة في الأدب العربي فلسفة الثعبان المقدس * كان هناك ثعبان وعصفور يعيشان في غابة وارفة الأشجار والظلال جوار مدينة ما.. التقيا ذات مرة وتعارفا. - ما أجملك أيها العصفور وما أبها ريشك الملون وتغريدك العذب. نظر العصفور في امتنان إلى الثعبان وردد في حياء - أنت تراني جميل في مرآة نفسك الطيبة فأنت أيضاً لك جلد بديع صاغته ريشة فنان مبدع، هذه النجوم الزرقاء والخطوط الحمراء. ابتسم الثعبان ابتسامة ودودة وأردف - هل تعرف يا صديقي البشر ؟! نظر العصفور إلى صديقه في دهشة - البشر من بني آدم أسمع عنهم فقط أردف الثعبان في توجس - انتبه جيداً !! أحياناً يأتون إلى هنا - لكني لم أرد أحداً منهم حتى الآن - إني أخاف عليك منهم، قد يراك صبي طائش في يده مقلاع فيصيدك بحجر فتسقط على الأرض مضرجاً في دمائك، يأخذك إلى البيت وينزع ريشك الجميل ويشويك ويأكل لحمك القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في أعياد النيروز*.. ارتعش العصفور وهو يسمع لثعبان يتحدث في تلذذ واللعاب يسيل من فمه على لحيته فيلعقه بلسانه المزدوج، فردد في وجل. - آه رباه .. أنا لا أريد أن يفعلوا بي ذلك. - إنهم لا يقدرون الجمال، يرونك قطعة من اللحم تشوى وتؤكل في الأعياد ويروني حقيبة من الجلد الفاخر تشرى وتهدى إلى السيدات الساقطات.. - أنت تعرف كثيراً عن البشر يا صديقي - وما خفي أعظم، هل ترى تلك الصقور المسكينة مع المصورين؟ … هل تعتقد أنها جاءت بنفسها إلى المدينة لتقوم بمثل هذا العمل الشاق، تضع على الأكتاف أمام أضواء الفلاشات وسط هذا الضجيج ؟!. "إنهم ذهبوا واقتنصوها من معاقلها في الجبال المجاورة وأتوا بها إلى المدينة وباعوها إلى المصورين ". - مسكينة هذه الصقور النبيلة. - أجل تعيش هكذا بلا زوجة.. ولا أبناء ولا عش مربوطة الساق مهيضة الجناح مكسورة الخاطر. - أنت فيلسوف يا صديقي - أنا لست فيلسوفاً بل أعرف الحقيقة، لماذا لا يأتوا بالحيوانات التي رضت حياة الذل بين البشر كالحمير والكلاب والدجاج لتقوم بهذا العمل الكئيب؟ الجلوس أما الكاميرات بدل الصقور. - أنت حكيم يا صديقي. - أنا لست حكيما بل أعرف الحقيقة، حتى هذه الحيوانات المسكينة عندما يدركها الكبر يتركونها تهيم على وجهها في الطرقات تواجه الموت جوعاً ومرضاً ، ثم يلقوا بها في المزابل، فلا تحصل على موت كريم يليق بخدماتها الجليلة لبني البشر. - أنا لن أمكنهم مني أبداً .. سأعيش حر وأموت حر. - قلت لك أنهم يأتون ولا يرحمون لقد فعلوا ذلك لبني جلدتهم من البشر السود الإفريقيين أيضاً. - السود !! - كان هؤلاء السود يعيشون أحراراً مثلنا في الغابات، فجاءوا إليهم من بلادهم البعيدة وراء البحار وأسروهم واقتادوهم في الأغلال ليعلموا في معسكرات العمل في سيبيريا *، ويبيعونهم ويشترونهم كالسلعة تماماً. - إن البشرة قساة !! لماذا يفعلوا ذلك بالسود؟ - لأنهم يكرهون اللون الأسود.. الحقد في نظرهم أسود، الموت عندهم أسود.. انظر بنفسك إلى تلك الغربان التي ترتفع في حدائقهم ولا أحد يأبه لها.. لأنها قبيحة المنظر وصوتها فج، فهم يتشاءمون منها .. لكن إذا ذهبت أنت إلى الحدائق سيكون لك شأن آخر. - ماذا !! .. ماذا تعني؟ ضحك الثعبان في خبث : - سيأسروك ويجعلوك في قفص ذهبي، يضعونك في استقبال الفنادق أو قصور المترفين يتسلى بك أطفالهم التعساء. أدهشت العصفور العبارة الأخيرة "التعساء". - هل تعتقد أن أطفال الأسر الموسرة تعساء؟ - نعم لأنهم يعيشون في سجون بلا قضبان.. إن ذويهم يحرمون عليهم التجول ليلاً أو الذهاب إلى السينما. - لماذا؟ ضحك الثعبان ضحكة ماجنة وردد بصوت يشوبه الغنج. - يخافون عليهم من ( ……) ضحك العصفور في جزل ويبدو أن أحاديث الثعبان أخذت تروقه - لن أذهب إلى تلك الحدائق في المدينة أبداً. - ألم اقل لك أنهم قادمون، صه ألا تسمع، مهما تأخروا فإنهم يأتون. خفض الثعبان رأسه وأدناه من الأرض، ثم صاح بصوت مبحوح " إنهم قادمون .. إني أسمع وقع أقدامهم تقترب من الغابة، لا بد أنهم يحملون البنادق لألوية الحمراء.. اللعنة !!" . دب الرعب في قلب العصفور المسكين وأخذ ينتقل من غصن إلى غصن في توجس ويتلفت يمنى ويسرى. - أين المفر ؟ … أين اختبئ؟ إنهم قادمون. ردد الثعبان في حنو بالغ مس شغاف قلب العصفور - " تعال إلي .. سأحميك منهم، لن أجعلهم يأخذوك الأقفاص وأعياد النيروز. نظر العصفور في عيني الثعبان المحمرتين والمتقدتين شبقاً وشعر بالدوار فسقط من بين الأغصان وارتمي بين أحضان صديقه الماكر، تنفس الثعبان الصعداء وأطلق زفرة حارة أشعلت جسد العصفور المسكين وردد في تشفي. - نعم لن يأخذوك.. لأني سأكلك وأجعلك تسري في دمي وأضمن بذلك لجمالك الفاني الخلود الأبدي. ". صعق العصفور المغدور، ثم شهق من الألم وقد أحس بالناب المسموم ينغرس في جسده " الغض، أغمض عينيه استسلم للقدر المحتوم". * * * استشهادي الضيعة التي أختارها جدي ياسين لنقيم معه بعد أن حلت اللعنة بالمكان منذ نزوحنا من بلدة دير ياسين كانت أشبه بالجنة الموعودة.. منزل حجري مكون من طابقين.. به شرفة تطل على بساتين الكروم والزيتون في المنطقة التي تحيط بها الجبال من كل جانب وترتبط بمدينة رام الله بطريق ترابي، تراه من الشرفة التي أعتاد جدي الجلوس فيها كل صباح يجتر الذكريات ويشهد شروق الشمس بين الجبال.. الطريق يمتد أمام نظر جدي حتى يتوارى خلف الجبال كحية غبراء طويلة، كان جدي يتأمل هذا الطريق المترب بعينين كعيني الصقر وبقلب متوجس من شرفته العالية.. بعد أن تدفعه أمي فاطمة بكرسيه ذو العجلات فقد تقدم به العمر كثيراً.. يتألف بيتنا من أربع غرف في الطابق الأرضي، غرفة نقيم فيها أنا وشقيقي الصغير بسام.. غرفة يقيم فيها جدي وحده، غرفة يقيم فيها خالي محمود وحده أيضاً وتقيم زوجته زهرة وطفله محمد مع أمي.. لعلكم تتساءلون. لماذا يقيم خالي محمود وأسرته الصغيرة معناَ هكذاً؟! * * * * * قبل عامين وفي عيد الفطر.. قامت أمي كالمعتاد بصنع الكعك وتجهيزه لنا. أنا وجدي لنأخذه في زيارتنا المعتادة لخالي محمود في رام الله لتهنئته بالعيد والبيت الجديد، في ذلك اليوم المشهود عندما نزلنا من الحافلة واتجهنا إلى بيت خالي في الضاحية الجديدة فوجئنا بجنود الاحتلال يحاصرون المنزل والجرافات تقف عن كثب.. اقتربنا من المنزل وجدت زوجة خالي زهرة تولول.. خرج الجنود يسحبون خالي محمود النحيف البنية بقسوة ويقذفون به وطفله الذي بين يديه في الشارع وتحركت الجرافات لهدم المنزل الجديد، ظل خالي يقاوم بشدة والجنود يدفعونه ويسقط في الأرض المرة تلو المرة، استشاط جدي غضباً وناولني سلة العكك ودفعني بعيداً وانقض على الجنود وانتزع خالي من براثنهم واحتضنه، ظل جسد خالي ينتفض بشدة وأخذ يعوي في حرقة. كانت نظرة واحدة لعينيه الطيبتين كافية لأعرف أن خالي قد فقد عقله تماماً، حدق فيه جدي في أسى متمتماً. - يرحمك الله يا ولدي محمود .. أنت لا تتقن شيء سوى الشعر ولا تستطيع مقارعة اللعنة التي حلت بالمكان !! ظل محمود يصرخ ويهزئ ويلعن حتى بعد تركنا المدينة.. وقفلنا عائدين إلى البيت .. هناك استقبلتنا أمي المتشحة دائماً بالسواد والهلع يغمر عينيها ومنذ لك اليوم وضع جدي القيد على كاحل خالي المجنون وحبسه في غرفته وحيداً.. كنت دائماً أنظر في عيون خالي الزاهلتين وفمه المطبق بإصرار وأحس باالهوان.. ويقوم جدي بنظافته وحلاقة شعره ويحرص دائماً على ابعاد أي أداة حادة أو شيء يجعله يؤذي نفسه. * * * * * في البهو الكبير حيث نجتمع على الطعام تطالعك صورة عائلية لأسرتي.. أمي وأبي عبدالناصر الذي استشهد في حرب الاستنزاف في أواخر الستينيات بعد أن نفذ عملية ضد قوات الاحتلال ومن حينها وأمي غارقة في السواد والنواح وتردد دائماً أنها في انتظار الضيف ولما كبرت عرفت أن الضيف الذي تنتظره أمي الصابرة هو ملك الموت. تطالعك أيضاً صورة شقيقتي سعاد، كانت تقيم معنا في الطابق الثاني مع زوجها وأولادها ثم هاجرو إلى لبنان في بداية الثمانينات، ذبحت مع زوجها وأولادها في مجزرة صبرا وشاتيلا وفي تلك الأيام بكت أمي بكاء امرأً وانهار جدي وأصبح يجلس على الكرسي ذو العجلات. * * * * * جدي ياسين رجل صلب المراس، قوي الشكيمة، له جسد فارع ومفتول العضلات، كانت تجمعني به أكثر من صداقة لابد أنه يرى نفسه في شخصي، أخبرني كيف كانوا في الماضي يقاومون الاحتلال واللعنة التي حلت بالمكان … أخبرني عن صديقه سعيد الذي يطلق عليه أبو النصر .. كان جدي يزور عائلة أبو النصر في دير ياسين .. أو قل ما تبقى من عائلة الرجل.. امرأة مسنة تجلس وحيدة في بيت كان حافل بالذكريات، ويدور هذا الحوار بيني وبين جدي. - أين زوجها يا جدي؟ - في السجن منذ 1948. - اين ابناؤها؟ - في امريكا وهم يحملون شهادات عليا.. أنهم أسرة عبقرية. كنت اتجول في ردهات المنزل الخالي .. رأيت صورة لامرأة جميلة تحمل طفل وتحيط بها الملائكة. - لمن هذه الصورة يا جدي ؟ - إنها مريم العذراء. - هل هم مسيحيون يا جدي ؟ - نعم. - هل هم فلسطينيون ؟ - نعم .. وعندنا تكبر قليلاً سأخذك لتزور أبو النصر. وأظل أدور في البيت الخالي الذي يلفه الصمت وجدي جالس يرشف الشاي مع المرأة المسنة تحدثه عن أخبار ولديها وأحفادها في أمريكا وتوصيه لزوجها عندما يذهب إلى زيارته في السجن.. * * * * * عندما ذهبنا إلى زيارة أبو النصر في السجن، وجدت إثارة لا توصف، كان جدي في اليوم الذي يقرر فيه السفر لزيارة صديقه يكتنفه نشاط غير عادي يرتدي أجمل الثياب ويحلق ويتطيب ويحمل معه حقيبة ملأة بكل ما يفرح الرجال خلف الأسوار، نمر خلف الأسلاك الشائكة والأبواب العديدة والجدران العالية والتفتيش المضني ونجلس في القاعة الكبرى ونلتقي بسعيد، تصيبني القشعريرة عندما أرى سعيد.. رجل في السبعين من عمره له شعر فضي وعينان زرقاوان تشعان سلام وطمأنينة، كان أيضاً ضخم الجثة كجدي، يتعانقان بقوة ويحاول كل منهما أن يقهر الآخر في لعبة قبضة اليد، وذلك بعد أن يتحدثا أحاديث ذات شجون عن اللعنة التي حلت بالمكان، وبرموز لا أفهمها.. قبل انتهاء الزيارة يقوما بفعلتهما التي تثير استياء الحراس وتزلزل قاعة السجن مستغلان التفاف السجناء حولهما وهما يمارسان لعبة لوي الذراع المفضلة لديهما.. يبدأ الضرب على الطاولة بطريقة رتيبة ويمتد الضرب إلى كل الطاولات ويندفع الزائرين كدوي النحل. مهما هم تأخروا فإنهم يأتون من درب رام الله أو من جبل الزيتون من دمى الأطفال من أساور النساء باقة أنبياء ليست لهم هوية ليست لهم أسماء يأتون مثل المن والسلوى من السماء . ويعم الهرج.. ويعلن الجرس انتهاء الزيارة ويدفعنا الحراس الساخطين للخروج ونتخطى الأبواب الكثيرة والأسلاك الشائكة والجنود المدججين بالأسلحة في رحلة العودة، يغمر وجه جدي الحزن النبيل ويظل صامتاً حتى نعود إلى البيت. * * * * * كان الصباح مهيباً والضباب يغمر الوادي، أمام البيت وجدي جالس على شرفته يتأمل الطريق المترب البعيد.. أمي تعد طعام الإفطار وتتحرك كالنحلة بين المطبخ وقاعة الطعام، زوجة خالي زهرة تجلس عن كثب تغسل ابنها على الطست وهو يصرخ في هلع من لذع الماء الدافئ ومن داخل الغرفة المغلقة ينبعث أنين خالي محمود .. ينادي بسام أخي الصغير، أنا جالس أذاكر في دروس الكيمياء اللعينة التي تحشو بها رؤوسنا جامعة نابلس .. خرج بسام ليجمع الزهور البرية ذات الرائحة الزكية والمبللة بندى الصباح لخالي الشاعر .. يشرق وجهه وتزول كل آثار الجنون عندما يجلب أخي بسام الزهور ويضعها في أصيص جوار فراشه، تعود له سكينته ويجلسان يتحدثان كصديقين ودوديين، خالي يحب بسام بصورة استثنائية ويستمع إلى احلامه الغضة، أن يكون لاعب كرة قدم ممتاز مثل اللاعب أحمد راضي.. لاعب كرة القدم العراقي.. ظل بسام دائماً يستقبلني بحفاوة عند عودتي من الجامعة، ويخطف حقيبتي ويأخذ من المجلات الرياضية التي بها صر اللاعب أحمد راضي ويقصها ويجمعها ثم يزين بها غرفتنا. * * * * * ظل الجد يتابع حفيده الصغير بنظراته من على الشرفة وعلى فمه ابتسامة عريضة، كان بسام يتنقل كالفراشة من مكان إلى آخر يقطف الأزهار.. فجأة من خلف الضباب لمح التراب والغبار يصعدان إلى عنان السماء، فقد كانت هناك دورية لجنود الاحتلال تقترب على طريق المترب.. نظر إليها الجد في توجس.. رفع بسام رأسه وأخذ يحدق في الأفق المدجج بالجنود بغضب، ألقى الزهور جانباً وأوسع الخطى نحوها.. أخذت تقترب رويداً رويداً.. تشنج الجد في كرسيه المتحرك وأخذ ينادي بصوت متحشرج كالفحيح. - أحمد .. أحـ … مـ…د. لا زلت جالس أذاكر دروسي وبكاء الطفل وصوت الراديو ونداء خالي في الداخل يشكلون سيموفينة الصباح.. وضعت أمي الطعام وأخذت تتلفت في توجس. - أين بسام ؟! - ذهب لقطف الزهور. - هيا ناده يا أحمد .. حتى لا يبرد الطعام. جمعت كتبي ووضعتها في الحقيبة ودفعتها تحت المكتب وخرجت من الباب.. سمعت صوت جدي لأول مرة.. كان يصرخ ويشير بأصبعه إلى بسام الذي غدا نقطة بعيدة تتحرك في الأفق نحو الدورية. عرفت كجدي الخطر المطبق والمقدم عليه أخي، اندفعت إلى الوادي أعدو بكل ما أوتيت من قوة، وأنا أصيح ولكن هيهات.. انحنى بسام والتقط حجر واستعد ليقذف به الدورية.. أصاب الجنود الفزع الشديد.. لعلع الرصاص بأصداء مؤلمة ممزقاً السكون وقذف بأخي كالخرقة على قارعة الطريق وابتعدت الدورية والجنود المذعورين ينظرون إلى الجسد الممدد بلا حراك في رعب شديد. اقتربت من جسد أخي وحملته، كان قد فارق الحياة ، لم تفارق عيناي نظرة الغضب في عينيه والحجر الصغير بين أصابعه المتقلصة. * * * * * جلست أمي وأختي تولولان كالمعتاد واندفعت نحو الشرفة إلى جدي، كان رأسه قد سقط على صدره وقد انقلبت سحنته تماماً وازرق وجهه وبقايا زبد تتساقط من فمه، مات بالسكتة القلبية ولا زال على وجهه آثار السخط على اللعنة التي حلت بالمكان.. تجمع أهل البلدة اللذين أفزعهم صوت الرصاص وحملنا الجثمانين إلى المقبرة.. ومنذ تلك اللحظة عرفت المعنى الحقيقي للقهر الذي يعيشه أهلنا في فلسطين. بعد يومين من الحداد استيقظت مبكراً على صراخ زوجة خالي وبكاء طفلها الذي يصم الآذان.. خرجت من غرفتي لأواجه أبشع منظر تقع عليه عيناي، كانت الدماء تسيل من تحت باب الغرفة الموصد وتغمر الردهة وتتسرب إلى الفناء.. خيل لي أن دماء خالي ستغطي أرض فلسطين كلها.. دفعت الباب بقوة.. كان مستلقي كالنائم ويده متدلية إلى الأرض والدماء تندفع من شرايينه المقطوعة كمياه الصنبور.. "لقد عرف خالي موت بسام وجدي الذي أخفيناه عنه" ويبدو أن زهرة نسيت موس الحلاقة أمس وهي تحلق له بدلاً عن جدي الراحل.. أمي لا زالت في غيبوبتها على فراشها لا تعي شيء منذ موت والدها وبسام".. هذه أيضاً ثالث جنازة تخرج من بيتنا في أقل من ثلاث أيام.. وأمي وأختي تندبان وتنوحان وأحزانهم التي لا تنتهي في انتظار الضيف.. أما أنا فسأذهب إليه بنفسي!! * * * * * كانت الحافلة المكتظة بالركاب تقترب من الحاجر الأمني، نظر أحمد في الجنود واحصاهم "ثمانية عشر جندي، صيد ثمين. لعل من بينهم قاتل شقيقي، تحسس الحزام الناسف تحت ملابسه الرياضية التي لا تثير الشبهات، ابتسم في ظفر، لقد قام المهندس يحيى زميله في الجامعة بعمله بمنتهى الاتقان.. لحظات وتنطلق ألسنة الجحيم ويحيل المكان قاعاً صفصفاً، توقفت السيارة أمام الحاجز واقترب الجنود في حذر.. تمتم أحمد بالشهادتين وقفز من الحافلة وأندفع كالنمر الكاسر بين الجنود.. شجون كانت السيارة المحملة بالعلف تنساب على الطريق، قادمة من مدينة المنصورية، تنقل المعلم السوداني الجديد إلى قرية السكري، أحمد جالس جوار السائق المرح الذي كان يتحدث في مواضيع متشعبة ويمطر أحمد بالأسئلة، كعادة اليمنيين في التعرف على الغرباء، الشمس قد شارفت على الغروب وأحمد يلاحقها بعينيه المجهدتين.. كانت الرحلة طويلة من صنعاء إلى الحديدة وأكتملت الإجراءات في مكتب التربية بالحديدة وأنه الآن في طريقه إلى القرية والسائق الطيب لازال يتقصى منه المعلومات عن الأمطار في السودان وعن الزراعة والقات، كانت حقول الدخن تغطي الأرض في بساط أخضر داكن يمتد عبر المسافات بين القرى المتناثرة في سهول تهامة، عند مفترق الطرق أوقف الرجل السيارة وأشار لأحمد بأن يتجه في الطريق الذي يمضي شمالاً، لأنه سيذهب شرقاً إلى قريته البعيدة في الاتجاه الآخر، ترجل أحمد من السيارة وودع الرجل الذي رفض أن يأخذ نقوداً، نظر أحمد إلى السيارة وهي تبتعد. وبدأ الظلام يلف المكان بعباءته السوداء والسكون المطبق أيضاً.. ما أجمل الريف، استطاع أن يجلو ويزيل كل آثار الضجيج والتوتر الذي أحدثته حركة الدراجات النارية في الحديدة.. هبت نسمة لطيفة جعلت أعواد الدخن تتمايل طرباً، ملأ أحمد رئتيه من الهواء النقي ثم حمل حقيبته واندفع في الطريق المترب، يوسع الخطى نحو القرية التي يتداعى نباح كلابها من بعيد.. * * * * * ظل أحمد يسير ساهماً مستغرقاً في أفكاره وذكرياته عندما سمع صوت حركة آدمية لشخص يحصد أعواد الدخن بهمة ونشاط... ولكن في هذا الوقت ؟!. التفت ولمحها.. فتاة جميلة ترفل في ثوب طويل أبيض كأنها فراشة تعمل بجد ونشاط، توقفت الفتاة عن العمل والتفتت كالغزال إلى القادم الجديد دون وجل ثم فتر ثغرها عن ابتسامة طفولية برئية.. كانت هذه الإبتسامات الطفولية المليئة بالدهشة تواجهه في كل مكان، منذ نزوله في مطار صنعاء والحديدة والمنصورية، فأحمد يتمتع بطول خارق للعادة.. إن اليمنيين كالأطفال أو قل كالملائكة لدرجة أنك لا تعرف من أين يأتي الشر والدمار الذي تجده عندما تقرأ في تاريخ هذا البلد.. توقف أحمد في ارتباك والقى تحية خجولة. - السلام عليك.. أنا أحمد .. المعلم الجديد في مدرسة القرية. جاء صوتها الرقيق كرن الجرس. - أهلاً وسهلاً.. تفضل أجلس حتى أفرغ من عملي هذا وأقودك إلى القرية.. إلى بيت مدير المدرسة عثمان.. بان التردد على وجه أحمد ولاحظت الفتاة الذكية ذلك فأردفت. - لن تستطيع دخول القرية وحدك في هذا الوقت.. ستفترسك الكلاب اجلس حتى أفرغ من عملي. شعر أحمد كأن هناك قوة قاهرة ترغمه على الجلوس مع هذه الحسناء الساحرة، إنها حتى هذه اللحظة تبدو له كحلم غريب، جلس أحمد عند حافة الطريق وعادت الفتاة إلى عملها، أخذ أحمد يتأملها في إعجاب. شي ما مس شفاف قلبه فسألها من أنت ؟! - أنا أمنة بنت المدير .. مدير المدرسة. تنفس أحمد الصعداء، إذا هذه الفتاة تعي ما تقول وستقوده إلى بيت والدها.. حدق أحمد في يدها المخضبتين بالحناء النقوش الجميلة وعينيها المدمختين بالكحل وردد في نفسه "لا بد أنها تزوجت حديثاً". أراد أحمد أن يتحقق من ذلك دون أن يجرح شعورها فسألها. هل تقيمي مع والدك الآن؟ . توقفت الفتاة عن العمل ولمح أحمد طيف من الحزن على وجهها الجميل وأشارت إلى مكان بعيد عن طيف القرية الجاثم في الأفق الداكن. - لا … أنا أقيم هناك. نظر أحمد إلى حيث أشارت بيدها ودقق النظر في الأفق المعتم لعله يرى بين الأشجار طيف عشه أو بيت وردد في نفسه "لا بد أنها تقيم مع زوجها في مكان منفصل عن الأسرة". * * * * * انتهت الفتاة من عملها ودعته لمساعدتها في جمع وربط العلف في حزم صغيرة وتسويتها، أسعد ذلك أحمد، أن يقوم بهذا العمل مع ابنة المدير وردد "ليتها لم تتزوج.. ربما كانت من نصيبي كما قالت العرافة في السودان" .. انتهى العمل وتحرك أحمد خلف الفتاة التي تقدمته نحو القرية.. عند أطراف القرية حدث شيء غريب، تجمعت الكلاب في تحد تقطع عليه الطريق وتزوم في شراسة .. أنحنت أمنة وحملت عصا صغيرة أفزعت الكلاب فولت هاربة وتقدم معها يشق طرقات القرية الساكنة، كان بيت المدير في الطرف الأقصى من القرية وعندما وصلا إلى السور المصنوع من أشجار السول نادت آمنة أباها بصوتها المعدني الساحر ثم ضغطت على يد أحمد الحارة.. شعر بقشعريرة لمس يدها الباردة، هذه البرودة التي تحيط بالفتاة أسكتت كل كلاب الشهوة المسعورة التي كانت تعوي في داخله أثناء عمله معها في تشوين* العلف.. سمع أحمد نحنحة المدير ووقع خطواته. التفت ليجدها مبتعدة وغابت في طرقات القرية وعادت الكلاب تنبح في كل أرجاء المكان من جديد. * * * * * خرج المدير عثمان وانقض على أحمد يقبله ويدعوه لدخول البيت، دخل أحمد إلى البيت وهو يشعر بألفة عالية، تجمع حوله أبناء المدير وبناته وجاءت زوجته تقدم الشاي، جلس أحمد بين أفراد العائلة يتصفح وجوههم الطيبة ولا زال غارقاً في الدهشة، جلس المدير قباله وبنفس الابتسامة التي تذيب القلوب، ردد متسائلاً. - كيف عرفت البيت بهذه السهولة ؟! - دلتني عليه ابنتك آمنة. صمت الجميع فجأة.. كأنما على رؤوسهم الطير.. قفز المدير من مقعده وجلس جوار أحمد واكتسى وجهه بالحزن والدموع تتلألأ في عينيه الطيبتين. قلت من يا ابني؟! - ابنتك آمنة التي تقيم مع زوجها هناك … أشار أحمد إلى حيث أشارت آمنة.. هطلت الدموع غزيرة من عيني المدير وبدأت زوجته تنوح والأطفال يبكون.. وحملق المدير في وجه أحمد في دهشة يشوبها الحزن وردد في صوته تحنقه العبرات. - لا يوجد هناك سوى المقبرة.. ابنتي آمنة ماتت قبل شهر من قدومك.. قتلتها الصاعقة.. الله يرحمها .. صعق أحمد من الدهشة وشرق بالجمع " إذن كلام العرافة في السودان صحيح عندما قالت أني سأصل متأخر" .. إنساب الدمع المر على خديه وهو يسترجع تفاصيل اللحظات الماضية " يا لها من فتاة جميلة، تباً لهذه الغرابة التي تكتنف كل شيء في اليمن !!".
* * * صالح العراج * ( نفس إنسانية) حدثت هذه الأسطورة في ثلاث قرى في وادي تهامة، قرية العطاي، قرية السكري وقرية الجوابي، هذه القرى تشكل مثلث ممتد على كثب الزبرجد تحيط بها حقول الدخن من كل جانب، عن كثب وادي جاحف الذي يعج بالضباع والثعابين والجن وغيرها من الهوام، الماء العذب يحصل عليه سكان القرى الثلاث من المشروع في قرية الجوابي، الماء المالح من آبار محلية في كل قرية، أقرب مدينة " المرواعة" تقع أقصى الشمال على طريق الإسفلت الذي يربط الحديدة بصنعاء، لا ننسى بلدة النخيل التي تقبع عند منتصف الطريق المترب الذي يربط هذه القرى بمدينة المراوعة، بها سوق لكل شيء وكهرباء أيضاً، فيما عدا ذلك فإن البيئة شبه صحراوية تنتشر فيها شجرات السول والهلج والنخيل والدوم. * * * * * مع الأنفاس الأولى للصباح، كان الفقيه عثمان يسير ساهماً في الوادي عائداً من مدينة المراوعة قادماً من الأراضي المقدسة إلى قرية السكري بعد أن فاتته سيارة القرية الوحيدة، سمع عواء إنساني طويل يصدر من حفرة بعيدة، إقترب الرجل من مصدر الصوت، واجه الرجل منظر وقف له شعر رأسه، طفل إنساني يجلس مع أولاد الضيعة يلعب معهم إقترب الفقيه من الوجار، هربت الضباع الصغيرة ومد يده إلى الطفل وجمله ونظر إليه، كان بشعاً ويحمل بين فخذيه أعضاء لا تتناسب مع حجمه، لفه الفقيه بالغترة* (الشال). وحمله معه إلى البيت، الرجل له أربع بنات وليس له ولد ذكر يعينه على عمل الزراعة الشاق.. عاش صالح. وكبر في بيت الرجل الطيب أطلق عليه أهل القرية عدة أسماء "صالح الأعجم*، العراج*، الملكد*" أصبح غلاماً صخم الجثة، استطال شعره، وغدى جمة كبيرة، ذات جدائل ذهبية تتدلى على وجهه الدميم له عينين صغيرتين لامعتين وأنف صغير أفطس، وفم غليظ الشفاة وجسد برونزي يكسوه الوبر، فلم يخيب ظن الفقه فيه، كان يجلب الماء العذب من المشروع ويعلف البهائم ويحصد الدخن ويقوم بكل ما يأمره به الفقيه عن طيب خاطر، الكل في قرية السكري يعتقد أنه ولد الضبعة، الخبثاء يقولون " لابد أن يكون ضاجعها جان فولدت هذا الغلام البشع". * * * * * الجانب الحقيقي للأسطورة كان في قرية العطاي.. حاج عبدالسلام الرجل الطيب الشجاع والند القوي للعاقل عكيش، افلح في الماضي في إنزال هزيمة ساحقة به بعد أن تزوج من آمنة الجميلة بنت سر التجار، بعد مساجلات ومؤامرات طويلة، اشتد الصراع بينهما ردحاً من الزمن، عندما كانت آمنة زوجة عبد السلام حامل ذهب العاقل إلى بيت سيد في جبال براع وأحضر منه ورقة طرحها في بيتها فولدت ذلك اليوم مسخاً مشوهاً حتى أن القابلة حميدة التي قامت بالتوليد أصابها الفزع الشديد عندما رأت وجهه القبيح وجسده الذي يكسوه الشعر وأعضائه الجنسية المتضخمة، جاءت به والقته في حجر أبيه في مجلس القات* مع عدد من الرجال منهم العاقل نفسه ورددت في قرف وهي امرأة سليطة اللسان يهابها الرجال والنساء على حد السواء "أذكرت اسم الله قبل أن تأتي زوجتك تلك الليلة" انتفض عبدالسلام وبان عليه الغضب الشديد لقولها الفاحش ونظر لقطعة اللحم في حجره في قرف وحزن وقهقهات العاقل تجلجل في المكان وفي المساء حمله إلى الوادي والقاه هناك وعاد بعد أن تعوذ من الشيطان الرجيم.. * * * * * لم ينس صالح الأعجم أمه الضبعة أبداً، كان كثيراً ما يذهب ليزروها في الوادي، أدركها الكبر، يجلس عند الوجار يلعب مع أولادها، .. في ذات يوم كان يجلس عند الغروب، سمع وقع خطوات متربصة، أختبأ ونظر من بين أغصان شجرة السول ونظر إلى القادم، كان عكيش يحمل مسدساً، كمن للرجل العائد من الوادي يمتطي حماراً، نظر صالح المرعوب إلى المنظر، دوى الرصاص وسقط الرجل من الحمار يتخبط في دمائه، انسحب القاتل إلى سيارته البعيدة وركبها وأنصرف، خرج صالح من مكمنه وأنطلق نحو الرجل المحتضر، كان الرجل عبدالسلام والده الحقيقي، نظر الرجل إلى الوجه الدميم وعرفه رغم طول الأمد، في هذه اللحظات تتجلى الحقيقة الكاملة للإنسان، دمعت عيناه وتقلص وجهه من الألم والندم، أحتضن المخلوق التعس وردد " سامحني يا ولدي.. كان خطأ فادحاً.. أرجوك سامحني" .. عرف صالح والده وإنه ليس ابن العراج كما يقولون أخذ يعوي في حزن عميق، أغمض الرجل عينيه، حمله صالح وسار به طوال الليل حتى وصل المدينة فجراً، في مخفر الشرطة تلبسته الجريمة البشعة، تعرض للضرب المبرح ولم ينقذه منهم إلا الفقيه، الذي افتقده وأخذ يبحث عنه، عرف خبر القتل الذي انتشر في القرى الثلاث، جاء إلى المخفر خلصه من براثنهم، وقيدت الجريمة ضد مجهول، وأصبح الأعجم وحده الذي يعرف القاتل!! رحل عبد السلام وبدأت مساجلات جديدة بين العاقل عكيش وصالح الأعجم، فطرة صالح الحيوانية الطابع والنقية لا تعرف النفاق والمداهنة، عندما يأتي العاقل لزيارة الفقيه، يهرب صالح ويترك القرية بأكملها، أحياناً يؤم العاقل المصلين يوم الجمعة في مسجد القرية، يترك صالح القرية ويتعلل بجلب الماء العذب أو تعليف الدواب وأشياء أخرى، هذه المنغصات احالت حياة الرجل إلى جحيم جعلته يفكر جدياً في إرتكاب جريمة قتل جديدة، أطلق في أثره أعوانه الأشرار الخميسي بائع القات وحبيش بائع الشمة ولم يفلحا ولكنهما قتلا أمه الضبعة المسنة التي تصدت لهما وذبحا أولادها.. مضت السنين تباعاً، تزوج العاقل من آمنة زوجة عبد السلام وورث بذلك كل الآراضي التي تمكلها وأنجب منها ولدين جميلين.. * * * * * جاء ينؤ بحمله من العلف، دخل الأعجم إلى البيت ووجد عائشة بنت الفقيه الصغرى تبكي بحرقه، صعق المسكين لا بد أن هناك خطب جلل!! اقترب منها يواسيها، وهو يعرف أنها لا تبكي بسهولة، بل هي الوحيدة التي تعيش حب حقيقي مع حسن ابن المدير في قرية الجوابي، حسن المسؤل عن مشروع المياه، صالح يعرف ذلك ويسعد له كثيراً، كيف كان يلازم عائشة عند الذهاب إلى جلب الماء العذب من المشروع، يراهما يتبدلان نظرات الحب الصامتة واحياناً يجلسا في منتصف الطريق عند شجرة الهلج دون أن يأبها للمخلوق الظريف صالح الجالس على كثب ينظر اليهما في ود.. كان يحبهما معاً، لأنهما يجسدان لوحة جميلة للحب العذري بعيداً عن المبازل التي تعج بها القرى الثلاث، ويعرفها جيداً، من ذا الذي يجهل صالح الملكد*؟!! التي مات عنها زوجها منذ أمد بعيد والتي سافر زوجها وتركها نصف مشتعلة، كان محور حديثهن في مقيلهن وحلهن وترحالهن بمؤهلاته العظيمة وفحولته التي يحسده عليها الكثير من الرجال بما فيهم العاقل نفسه فقد دأب على تحيته بطريقته الخاصة عندما يقابله في مكان منفرداً، بكشف عورته المخيفة!! إجمالاً أنه يعرف الوجه القبيح للحياة في القرى الثلاث.. اقترب صالح من البنت المكلومة ونظر إليها بعينه الصغيرتين، رفعت له وجهاً كالبدر ورددت في أسى "العاقل عكيش يريد أن يتزوجني يا صالح" .. هب صالح كالملسوع وتشنج جسده وعوى بشدة، إندفع إلى داخل الغرفة وعاد يحمل بندقية الفقيه الآلية وانطلق خارجاً والزبد يتطاير منه وعيناه تقدحان شرراً. وقد انقلبت سحنته تماماً، اصطدم بالفقيه عند الباب، أمسك الفقيه بتلابيبه وأنتزع منه السلاح وصفعه بقوه زاعقاً فيه "إلى أين أيها المجنون؟!!" .. انهار صالح عند قدمي الفقيه، وأخذ يهزي، أشار له أن لا يزوج عائشة للعاقل اللئيم أخذ يشرح للفقيه كل الحلول الممكنة ويعدد له شباب القرية المحترمين الجديرين بها بما في ذلك حسن الجميل ولد مدير المشروع في قرية الجوابي والفقيه ساهم، جلس الفقيه على الأرض جوار المسخ الجريح، وربت على ظهره وقال في إنكسار "أعذرني يا بني كلمتي قد خرجت".. أخذ صالح يعوي في أسى ودفن رأسه في الصدر الحنون الطيب ثم رفع رأسه ونظر إلى الفقيه الذي كساه الحزن النبيل وأردف " نحن لسنا مستوى الشر الذي يتمتع به هذا الرجل" بأن الامتعاض العميق على وجه صالح، نهض فجأة وانطلق لا يلوي على شيء، لم تفلح نداءات الفقيه المتوسلة في ثنيه عن عزمه، خرج من البيت ثم القرية كان يسير حاني الرأس منكسر الخاطر " لم يبقى له شيء يخسره في معركته مع هذا الرجل قتل والده في الماضي أمام عينيه.. تزوج من أمه عنوة وأرسل المقوت وبائع الشملة لقتله في الوادي، ولم يفلحا ولكنهما قتلا أمه الثانية الضبعة العجوز وذبح إخوانه من الرضاع، إلا أنه انتقم منهما، افتعل معهما مشاجرة في السوق، قضم نصف أذن المقوت وهشم أسنان بائع الشمة ثم نكل بهما وأذلهما بعد أن أقام علاقات غير مشروعة مع زوجتيهما سمع بها القاصي والداني … ماذا بعد" .. كان يمشي تحت ثقل الأفكار، قادته خطاه إلى قرية الجوابي إلى بيت صديقه حسن دخل إلى العشة التي يرقد فيها الشاب المكلوم ينتفض من الحمى والهذيان بعد أن وقع عليه الخبر كالصاعقة.. جلس صالح عند قدمي الشاب يحملق فيه في ذهول والأفكار الشيطانية تعبث في عقله الضعيف "إن طريقته الفريدة في الإنتقام لا تجدي مع العاقل، زوجات العاقل الثلاث، الكبرى الحاجة نفيسة تعتبره مثل ولدها وهو يجلها كثيراً، والثانية أمه الحقيقة التي أنتزعها العاقل من والده المغدور، الثالثة عائشة بنت الفقيه، العروس الجديدة رمز الجمال التي تعامله دائماً ككائن حي.. إذاً سيقتل الرجل !!" وهذا أيضاً لن يجدي، القتل معناه السجن ويفقد الفقيه ساعده الأيمن القوي. وتذكر ما حدث عندما بلغ عن أبيه، تعرض للضرب المبرح، والسجن الذي كاد يفقده صوابه وقد انتزعه الفقيه من قبضتهم بضمانة كبيرة كلفت كثيراً، باعوا البقرة الحلوب مع عجلها، وعاد إلى البيت مع الفقيه مسخناً بالجراح والكدمات ظل يعتصر عقله الضعيف عسى أن يجود له بفكره طيبة، كان ينظر إلى الشاب المنكود أمامه يهذي من الحمى ويردد أسمها في ألم ممض، أشعل الغضب النار في نفس صالح البسيطة وجاءت الفكرة، ومضت كنجم لاح في الأفق البعيد خلف نتف السحاب الهارية، طفق المسكين يحيك ويلتقط خيوطها الواهية بصعوبة ونهض فجأة وأنقض على حسن يهزه وصرخ فيه، هب حسن جالساً وهو لا يعي ماذا حدث، أشار له صالح " بأن يجهز سيارته عند منتصف الليل وينتظره بها عند شجرة الهلج المعروفة التي شهدت لقاءتهما بين القريتين".. وأنسحب من العشة تاركاً الشاب المسكين غارقاً في الدهشة. * * * * * ظل يركض في وهج النار على الرمال الساخنة إلى بلدة النخيل البعيدة، وصلها عصراً وذهب إلى دكان صديقه الحلاق عبده، أشار له بأن يحلق كل الشعر الذي على رأسه فقد كان له جمة كجمة الأسد، مجدولة الضفائر ذهبية اللون، طفق عبده يحلق زهاء الساعة حتى تحول صالح إلى مسخ جديد، مسخ أصلع، خرج صالح وهناك في مطعم صديقه الآخر العزي أخذ يجمع السخام الأسود العالق بالمواقد والأواني ويضعها في كيس نايلون والعزي ينظر إليه في دهشة يشوبها الفزع، حمل صالح الكيس الأسود وانحدر به نحو الوادي، عند الغروب كان هناك، أخذ يعوي تجمعت حوله الضباع من كل حدب وصوب، وأخذ يعفر جسمه البرونزي بالسخام الأسود ويمسح أجساد الضباع التي تزوم حوله، تحول إلى مارد أسود يقود قطيع من الضباع المتوحشة السوداء، عند منتصف الليل جلس بين أشجار السول على حافة الطريق الذي يربط قريتهم بقرية العاقل في إنتظار الحملة *، لم يدم الإنتظار طويلاً سمع هدير السيارات وأهازيج الفرح، أقترب الموكب رويداً رويداً وطلقات الرصاص تصم الأذان، وتملأ السماء بعقود من النجوم المضيئة البنفسجية في اللحظة المناسبة انقض صالح والضباع على الموكب الذي ساده الهرج الفوضي بدأ الناس يتقافزون من السيارات كان آخر ما شاهده الفقيه قبل أن يفقد وعيه يد سوداء تفتح باب السيارة ويد أخرى تنتزع ابنته العروس التي تجلس جواره كأنها خرقة وتندفع بها بين أشجار السول وخلفها أسراب الضباع المتوحشة، صعقت الدهشة الجميع أخذوا يرددون آيات من القرآن.. * * * * * وصل صالح مكان صاحبه حسن بحمله الثقيل، وجده في إنتظاره على السيارة نظر حسن إلى القادم في ذهول شديد، انزل صالح البنت المغمي عليها ووضعها على المقعد الخلفي ثم اخرج من زناده حزمة نقود دسها في حجر حسن وأشار له بأن مهمته انتهت عليه أن يهرب بها ويتزوجها في أي مكان، بلاد الله واسعة .. انسحب صالح وقطيع الضباع وغاب بين الأشجار وحسن يودعه بعين دامعة وينظر إلى الأوراق النقدية التي تناثرت على أرضية السيارة وردد في نفسه "كيف فعل هذا المخلوق التعس كل ذلك؟!" وانطلقت السيارة مبتعدة تشق الوهاد.. * * * * * مضت خمس أعوام أو ينيف على هذه الحادثة، أصبح أهل القرى الثلاث في ليلة النصف من شعبان، عندما تهب نسائم الليل والقمر الساحر يجلو الأشياء بأشعته الفضية يسمعون عواء الضباع الذي يأتي من الوادي البعيد، كان من بينها عواء إنساني طويل فيتسامرون عن القصة العجيبة، الجان الذي خطف بنت الفقيه الجميلة عائشة وتأخذ الحكاية ثلاث أبعاد، في قرية العطاي كان العاقل الذي ذهب نصف عقله يغلي ويكاد يتميز من الغيظ، في قرية السكري تنساب الدموع الصامتة في عيني الفقيه الطيب وتردد شفتاه آيات من القران ( لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) .. المسكين فقد ابنه صالح وابنته الجميلة التي تختطفها الجن الذي يضج به المكان، وغدا حزنه حزنين، وفي قرية الجوابي استسلمت قاطمة أم حسن للأقدار بعد أن أنفقت جل مالها وذهبها لدى المشعوذين على امتداد تهامة وجبل براع*، عسى ولعل أن يدلها أحدهم على مكان إبنها الغائب حسن .. أو يكاد.
__________________
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
انواع عرض الموضوع |
العرض العادي |
الانتقال إلى العرض المتطور |
الانتقال إلى العرض الشجري |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
من جسد الثقافة روائع الكتب في عالم الأدب العربي .. | نوره عبدالرحمن "سما" | قاعة الأدب والكتب ( القاعة الثقافية ) | 2 | 11-07-2010 11:47 AM |
موسوعة إطلاق القدرات ..مكتبة سمعية و مرئية متكاملة | نوره عبدالرحمن "سما" | القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) | 2 | 16-04-2010 03:42 AM |
نحو بناء ثقافي و معرفي ...........مكتبة متكاملة | نوره عبدالرحمن "سما" | القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) | 2 | 30-03-2010 02:13 AM |
السيرة الذاتية لطه حسين عميد الأدب العربي | تراب | القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) | 1 | 22-06-2009 12:22 PM |
Powered by vBulletin® Version
Copyright ©vBulletin Solutions, Inc
SEO by vBSEO 3.6.0
LinkBack |
LinkBack URL |
About LinkBacks |