شبكة الدراما والمسرح الكويتية الخليجية > القاعات العامة والإدارية > قاعة الأدب والكتب ( القاعة الثقافية ) > الأدب الرحباني
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-09-2010, 04:04 PM   #1 (permalink)
مالك ومؤسس الشبكة
 
الصورة الرمزية أحمد سامي
 
 العــضوية: 1
تاريخ التسجيل: 30/07/2008
المشاركات: 6,094
الـجــنــس: ذكر

Smile الأدب الرحباني


لم يعرف أدب الغناء والموسيقا قدرة على التصوير الفني والتأثير الإيجابي في المتلقي مثل تلك التي تميز بها أدب الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، الذي انطلق من جدلية الوحدة والصراع بين الطبيعة والمجتمع فأتحف التراث الأدبي والفني بتوأمة جمالية للطبيعة والغناء لم يعد بالإمكان تجاهل عظمة حضورها وعمق تأثيرها في الوجدان.
منذ انطلاقتهما في أواسط خمسينيات القرن العشرين حرص الأخوان رحباني على ربط إبداعاتهما الفنية والأدبية بأكثر ما يصل الإنسان بالحياة، وهي الطبيعة التي أقرَّت الرؤى الفكرية عبر السيرورة الحضارية وحْدة الإنسان معها، فكانت مقولة: (من التراب وإليه نعود).
كان نصيب الضيعة، كوحدة تجمُّع للناس الأكثر ارتباطاً بالأرض والمواسم والغلال، كبيراً في جميع مراحل التراث الرحباني، مع أن باحات مسرح الأخوين انتقلت نسبياً بعد العام 1967م إلى المدينة. ومع مشاهد وحوارات وأغاني الأعمال المسرحية بين 1960م و1977م تكرَّست علاقة محاور الدراما الرحبانية وأحداثها وشخصياتها بالطبيعة فأصبح هذا الأدب بحق أدبَ الحياة بأنقى مفاهيمها وأكثر صورها واقعية وأقدرها تعبيراً عن طيبة الناس وحبهم للخير والفرح وكذلك عن همومهم ومعاناتهم وأحلامهم وآمالهم وفي كل ما يواجههم في علاقاتهم مع المتنفذين والمتحكمين بأمورهم المعيشية وبمصائرهم ومصائر أوطانهم.
لم يأت الميل نحو الطبيعة في مسرحيات الأخوين رحباني مصادفة؛ فقد ولد عاصي ومنصور في بيئة ريفية محاطة بمكونات الطبيعة الجميلة من جبال عالية خضراء ومناطق خلابة ومزارع وأنهار وسواحل أضافت إليها أيادي البشر ما يزيد من متعة الالتصاق بها ومبادلتها المشاعر والاهتمام وصدقية العطاء، فكان الإحساس المرهف للشاعرين والموسيقيين الشابَّين رفيقَ دربهما وهما يدخلان بفكرهما الثاقب وروحهما الطيبة إلى أعمق أغوار الإنسان، وإلى أوسع امتداد للطبيعة اللبنانية المتميزة بسحرها وغناها يستوحيان منهما شاعرية استثنائية وقدرة خلاقة على تغيير معايير الفن والأدب التقليدية والانطلاق في بناء صرح له خصوصية وضعته في أعلى مراتب المجد.
على مدى خمسين عاماً وعبر ثلاثة أجيال دخلت الأغنية الرحبانية بيوت الناس في بلاد الشام وفي سائر البلدان العربية والأجنبية حيث يقيم المهاجرون من أصول عربية. كان لهذه الأغنية، بأصوات فيروز وصباح وهدى حداد وسهام شماس ووديع الصافي ونصري شمس الدين وإيلي شويري ومروان محفوظ وملحم بركات وجوزيف ناصيف ومحمد مرعي وغيرهم، كان لها وقع لطيف محبب لدى المستمعين الذين تقبلوا بسرور الرؤية الرحبانية واللحن الجميل والكلمات العذبة والصور الجميلة وانتظروا الجديد في مواسم تلهَّفت للقائها القلوب في بعلبك ودمشق وبيروت وعمان وفي عواصم العالم؛ فكانت القاعدة الشعبية منقطعة النظير لعالم الأخوين رحباني التي قطع العبقريان لها عهداً بالاستمرار والتطوير حفاظاً على رضاها وتمسكاً بمحبتها.
ونحن، إذ نعترف للأغنية الرحبانية، كلمات وألحاناً وأداءً، بأحقية اعتلاء عرش الأغنية العربية المعاصرة، لابد لنا من التعامل مع القسم الأعظم في تراث الأخوين عاصي ومنصور من وجهة النظر المسرحية؛ فمعظم أغاني السيدة فيروز والراحل نصري شمس الدين والفنانين الآخرين مرتبط بالأعمال المسرحية التي ظهرت لأول مرة فيها وشكلت أجزاء منها وأتت كلماتٍ وألحاناً متناغمة مع روح العمل الدرامي وموضوعه وحواراته.
فإذا حصرنا الحديث عن مكانة الطبيعة والفرح في الأدب الرحباني بحدود مسرحيات الأخوين عاصي ومنصور في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي فإننا سنجد أنفسنا أمام سيل عظيم من اللوحات الرائعة التي جمعت الناس بالطبيعة في أكثر الأوقات تعبيراً عن الفرح والابتهاج. وقد جاءت هذه اللوحات في أعلى درجات الحيوية تعكس نقاء الطبيعة وسخاءها وقيمها الأخلاقية، وجاء توظيف صفات الطبيعة لخدمة الفكرة الرحبانية دليلاً على صدقية التوجه النبيل الذي أراد عاصي ومنصور اصطحابنا وفقه إلى عالم الخير والمحبة والسلام والتعاون من أجل سعادة الجميع ومَسرَّتهم. لقد نجح الأدب الرحباني في ربط الجماليات الأدبية والفنية بالطبيعة ولخَّص الراحل عاصي هذا النجاح بوضع قاعدة لم يعد من السليم الحيادُ عنها؛ إذ قال: (إن الرائعَ هو ما كان منسجماً ومتناسقاً مع الطبيعة والحياة).
في لوحات مسرحيات الأخوين عاصي ومنصور يرتبط الحب والسعادة والفرح بالطبيعة فيأتي الغزَل والتفاخر والمجاملة باستخدام مفردات من البيئة المحيطة وعناصر الجمال فيها فتسحرنا الكلمات والصور ونعيش مشاعر الحب الصادق والسعادة الحقة؛ فمقدمة مسرحية (موسم العز) مثلاً تأخذنا إلى ساحة الضيعة وبهجة عيدها والمحتفلين في أحضان الطبيعة وعناصرها الجميلة من سماء صافية يضيء قمرها وتتلألأ نجومها صانعة ثريَّات يطيب السَّهر تحتها والمرح والغناء. يصف (شاهين) الفتاة الحسناء (نجلا) التي زنَّر خصرها (المنتور) بـِ(شلح الزنبق) وبالـ(وردة مزروعة بـْ فيِّة) التي تحميها أسوار من الشوك، أما عيناها فـَ(بْحيرة ميّ). والعيد مناسبة للفرح مليئة بالـْ(غناني وحكي...) تفيض في ثناياه صور التعلُّق بجمال الطبيعة (شو زِينِة وشو عناقيد)، وأبطال العيد شعراء وفنانون (زرعوا الأرض ياسمين وحساسين). ها هو المختار يتغزل في أغنيته (عم تغزل) بحبيبته وبالطاحونة وخيرها من الطحين والبرغل في نفس الوقت، أما نجلا فتستخدم علاقتها الحميمة بـ(طير الزعرورة) لضمان تواصلها مع الحبيب الغائب. وفي مسرحية (جسر القمر) تداعب النسائمُ شعرَ الحسناوات (والشَّعرْ طايرْ والهَوا طايرْ) وفي مسرحية (بياع الخواتم) يُدهم (وردُ الحب) الفتاة ريما فيُحرحها بشَوكه (شَوْكَكْ عَ تْيابي عَلَّقْ). أما رسُل الحب فهم (نْواطير التَّلج، نْواطير البرْد والشِّتي والهوا) والعالمون بـِ (قصص الحب والحكي والهوى). وفي مسرحية (الشَّخص) يصف بائع الفاكهة الفتاة الجميلة مستعيناً بغلَّته (يا أحلى تفاحة من بستان بْعيد) و(يا رمَّانِة) وتصبح الفاكهة اللذيذة معياراً للحُسْن (لا كرْم العِنب متْلِك وَلا الكرْزِة البَرِّيِّة)، واسم الحبيبة التي (ربْيِت حدّ المَيِّة) في (جبال الصوان) تفاحة (وْلما استسْميت قالوا اسمها تفاحة).
تضعنا مسرحية (موسم العز) في الحياة الاقتصادية لأهل الضيعة عبر مهنتهم التي اشتهروا بها وهي تربية دود القز وقطف الحرير، وكمية من الفرح ترافق الناس خلال جميع مراحل العمل التي يتعاون الأهالي من ضيع متجاورة في آخرها تتويجاً لعمل السنة بجني موسمها، موسم العز، الذي تبتسم فيه الطبيعة للعشاق وتفتح الحياة أبوابها لأصحاب الحظ بعرس مليء بالرقص والغناء والتمنيات بالخير والسعادة والهناء. ويتوج الفرح الإعراب عن حب الوطن، الذي تأتي في مقدمته تربية الأبناء (ازْرعيُن بالوعر أرز وسنديان)، والحفاظ على مكانته العالية.... لأنه (القوي والغني) ولأن أجدادهم في مسرحية (جبال الصوان) عاشوا فيه (مِن ميِّة سِنِة.. مِن ألف سِنِة.. مِن أوَّل الدِّني).
وفي باحات العمل تحضر الطبيعة ضيفاً عزيزاً لا تحلو صورة تغيب مفرداتها عنه ويتحفنا الأخوان رحباني بعشرات الكلمات والعبارات ذات الجرْس الموسيقي والموقع الخاص في ذاكرة شعوبنا بلغة وأسلوب تتأكد معهما جمالية ارتباط الأدب الشعبي في بلادنا بالطبيعة. وتداعب هذه المفردات على الأخص مسامع أولئك الذين تمتد جذورهم إلى القرى الفلاحية والمزارع والمناطق الجبلية الرائعة الجمال. في مسرحية (جسر القمر) يحدد الشيخ للمتنازعَين سبع ومخول (رزقَهم) باعتماد (شبُّوق العفْص) و(الحْفافي) و(جفْت الطيُّون) و(الهِيشة) و(مِحْقان الميّ) و(المْطلّ). وفي (موسم العز) نرى (خْصاص القز) معلقة بالـ(شيح) والـ(وزَّال)، وفي (الشخص) يتروَّق الشاويش (بيض وْفول وْشنكليش). وفي (جبال الصوان) يفدي الوطن (قيدوم جبال الصوَّان). وفي (ميس الريم) تفوح رائحة (الطيُّون) وغير ذلك.
لقد كان الأخوان عاصي ومنصور منذ خمسينيات القرن العشرين من رواد شعر العامية اللبنانية ومسرحها فسُجِّل لهما الفضل الكبير في حماية اللهجة اللبنانية ومفرداتها الخاصة وتعابيرها الجميلة وإبراز العلاقة الجوهرية والشاعرية بين الفرد اللبناني ومجتمعه وتراثه الفكري والثقافي من جهة والطبيعة اللبنانية بمناخها المعتدل ذي الفصول الواضحة وتضاريسها الرائعة الجمال والمتنافرة وغطائها الأخضر الساحر وبحرها الأزرق وسمائها وقمم جبالها الشامخة وأرزها الصامد ومواسمها الطيبة الخيِّرة، من جهة ثانية. وقد تمَّ هذا الإبراز عبر أرقِّ الكلمات وأعذب الألحان وألطف الصور وأجمل الإبداعات الفنية والأدبية التي زيّنت رفوفَ المكتبات وخشبات المسارح والشاشات السوداء والفضية ومهرجانات الشعر والزَّجل والقصة والمسرح بأنواعه والبرامج التلفزيونية المتنوعة وغيرها وغيرها.. وأصبحت المفردات والتعابير التراثية اللبنانية التي كانت مهددة بالنسيان عمادَ اللغة الفنية والأدبية تحمل المشاهد والمستمع والقارئ إلى بقايا صور حُفرتْ في قلب الذاكرة من زمن الالتصاق بالضيعة والطبيعة والأهل وغَلَبةِ البساطة والوجدانية والغَيرية والطيبة.
ويأخذ حضور الطبيعة في مسرحية (جسر القمر) أبعاداً فلسفية؛ فالطبيعة أكثر صدقاً من الناس الذين (عَ مْزارع الأرض وعَ حْجار بْيتْقاتلوا) في حين أن القمر (بيضوِّي عَ الناس) و(بيْزور الطِّرْقات) و(بيضوِّي بالسَّهْريَّات عَ الفقير وعَ الغني)، وأن الذين يحبون بعضهم يكفيهم حنان القمر (بيكفِّينا ضو القمر). حتى أن البلابل تصرِّح بأن (الحْقول وْساع والدِّنيي بتْساع) متسائلة عن أسباب الاقتتال، التي كانت في تلك المسرحية مياه النهر. وقد عَرضت (جسر القمر) الرؤية الرحبانية للسلام بين الجيران وللعدل بين الناس. يشير الأخوان رحباني إلى عدالة الطبيعة المادية، والتي يجب أن نرى الطبيعة البشرية جزءاً منها، ويؤكدان إمكانية التعايش بسلام بعيداً عن روح الأنانية والفوقية والملكية الخاصة التي يعتبرها الكثيرون مخطئين جزءاً من طبيعة البشر الفطرية تجعلهم لا يقبلون بالمساواة؛ فالشمس تضيء للفقير كما تضيء للغنيّ.
وفي محطات الفرح تبرز الطبيعة في استعارات فائقة القيمة الجمالية تندمج فيه مكونات الطبيعة بالفن والبهجة وفي أشكال التعبير؛ فالعشاق (يزرعون المواعيد) والقلب المحبّ يكبر (وِسْع الغابة قلْبي) وصوت الفنان القدير (يهدُرْ متل الريح بـْ صنِّين) وتغازل الشمس في إشراقتها بيوت الضيعة (غمْزِت الشمس دْراج ضيعتنا) وفي العرس (تعيِّد قناطر) ويحمي القمر الحبيبة ويؤنسها (يا حِلْوِة اللي القمر وِلْف لْحِماكي وْجار)، وللفرح (ننْدُر السهرات) إذ إن (بْلاد الفيّ فيها الفرح دايم). وإن حلَّ السلام وأقيمت المسرَّات نزل القمر ضيفاً (بيصير ينْزَل القمر يْغَنِّي ويسْهَر معْكُنْ) وتعود (النجمة ع القناطِر)، ويشبِّه الأحباب بعضهم بطيور البريَّة (يا مواسم العصافير).
كل دار تعمِّرها سواعد الأبناء تصبح جزءاً من الوطن الغالي. ويحرص الجميع على أن تكون الدارة عالية (عَ العالي الدَّار علِّيها) تصون النفوس (كرامتَها) ويرعاها (صهيل الخيل) وتضويها (سْيوف العز) وينيرها القمر (عَ الدَّار نوِّر يا قمر) وتكلِّل زواياها الأفراح فتصبح (عَ العزّ عَ لْيالي السَّعِد مِسْمِيِّة)، ولا يفوت بُناتها تزيينها بالزهور والأشجار (بيتَكْ حَدّ العين سْياجو والزنبق عَ غْصونو) و(سَيّجْ تـَ نْسَيِّجْ بِزْهُور، بْوَرْد بْتِفَّاح بْرِمَّان) أو بالياسمين الذي تتفاخر الفتيات به حتى لو غابت ملكيات البساتين (نحْنا ما عِنَّا بْساتين، عنَّا دُوَّارة ياسْمين).
للطرقات، التي يتواصل الناس بفضلها، حصة في فن التصوير الرحباني (خَلَّي الطِّرْقات تِتْلَوَّى مارْقَة بَيْن صْنَوبَرْ، خَلَّي الطِّرْقات تِتْضَوَّى نْجُوم وْلَيْل وْعَنْبَرْ). ولأهميتها في حياة الناس أعطيت قدسية الشمس (أهلي نَدروني للشمس وللطرقات)، ويحزن الناس أن فقدت الطرقات بريقها وحيويتها أيام المِحَن (طِرْقاتي غَطَّاها الشَّوْك والأعْشاب البرِّيِّة) ويؤرقهم استمرار هذه الحالة (فَيَّات الطِّرْقات السَّعيْدِة غِفْيانِة مِن مِيِّة سِنِة). وللجسور حضور في التواصل بين الناس (وْما زال في جْسورَة بْهالأرْض مشْرورَة، بَدُّن يضلُّوا الناس يجُو لَعند الناس، وتْزورنا الدِّني وِنْزورا). أما ساحات الضِّيع والبلدات والحارات فهي ملتقى الأهالي وملعب حكاياتهم وحضن مناسباتهم وأفراحهم (العيد الساحة السَّهرية تْنَوِّرْ وِتْزيْد الضَّيْعَة الحِلْوِة المضويِّة بْليلِة هالعيد)، وإذا فرغت الساحة من أهلها تظهر قفراء (كِلُّن تَرْكوا السَّاحَة، بقْيِت فْراغِة السَّاحِة).
أسطح البيوت في مسرحية (الليل والقنديل) (حلْيانِة دَواليها) وتنتظر قناديل منتورة التي يشتريها (أهالي المزارع من تلّ الورد) و(أهالي السهل الغنية بالقمح والبيادر والخضْرة) وأهالي قرى الجرد المليئة بـ(جَناينْ التفَّاح) وبالـْ (مَيِّة ونْبوعة). أكبر قناديل منتورة في مسرحية (الليل والقنديل) سيضيْ (مَمْرَق ضهْر الشِّير) عندما يربط إلى (السنديانة فوق الصخرة الكبيرة) فيرشد بنوره السائرين ليلاً. في الصراع بين النور والظلمة يتعرَّض صنَّاع النور إلى المتاعب والانكسار المؤقت، ولكنهم ينتصرون بعد إقناع الظلاميين بالفارق الكبير بين النقيضين، بواسطة الحب الذي أثاره الفن الرقيق عبر صوت منتورة العذب.
بساطة بيوت ضيعة درج اللوز في مسرحية (هالة والملك) لا تضعف من حب هالة لها لأنها مكتملة بعناصر الطبيعة (بَلَدي دَرَج اللَّوز، أربَعْ خَمْس بْيُوت وشْوَيِّة شَجَرْ، بلدي دَرَج اللَّوز بالْجبَل العالي بِخْيال الشَّجَرْ، طَلِّة القَمر وْوَرْدِة السَّهَرْ).
أجمل اللقاءات بين الأحبة تتم (عَ قطف القزّ)، (عَ الطَّريق)، (عَ المفرق)، (عَ المَوقَف)، (عَ الطاحونِة)، (على الجسر العتيق)، (تحت الصفصافة) أو (فوق العين) أو (تحت النبعة) وأحلى الهدايا (مْن زْهوري باقة) أو (المنديل المْطرَّز عَ الدَّاير) أو (الصورة) أو (عَ الورقة يكتب أشعار) أو (بالنجمة وْعَدْتِك) أو (حبيبي بدَّو القمر) أو (بحْمِلِّكْ ريْحة الأرض) والمرسال هو (طير الطاير) و(طير الزعرورة) و(حجل صنَّين) و(اليمامة) و(جْوانِح حَساسين).
في مسرحية (بياع الخواتم) تتألق الطبيعة اللبنانية الخلابة بجميع عناصرها، ترافق العشاق في رحلاتهم الممتعة وهم يشقون طريقهم نحو السعادة الزوجية. فنحن أمام حكاية لِـ (قصِّة ضَيْعَة، لا القِصَّة صحيحَة ولا الضَّيْعَة مَوْجُودِة) يضعنا لحن مقدمتها اللذيذ، الذي توحي نغماته بالرِّقة والنعومة، في بيئة الضيعة الجميلة وتخومها وبساتينها وصخورها المُوَّشَّحة بألوان حياة الناس وأفراحهم وآمالهم وبحكايا الأجيال التي نقشت على سطوح هذه الصخور فغدت السجلَّ الصادق والتُّراث الخالد والأدب الشعبي الذي يحفُّ الجمال به من كل جانب والذي تسمو بمكوناته الروح وتتأجج مشاعر الحب وتحلِّق الأحلام في فضاءات لا حدود لرحابتها. ويبدأ المختار القادم من (الحرش) بسرد الحدث، الذي ينتظر أخبارَه الضيوف، بأسلوب شعري تحْضر الطبيعة في محطاته (طالِعْ طالِعْ، منْ فوْق الْمَقالِعْ وقْطَعْت مْشاحِر الْغَيضَة خَلْف التَّلِّة رايحْ، وعَ حْفافي الحَفافي اللِّي كلا قْرامي يابْسِة وحْجارة سَوْدة عابْسِة.. وَلاَّ تْلاقَيْت بْراجحْ). وبخلاف المختار يعبُر (راجح) الفعلي الحقول والوديان وهو يردد أبيات الغزل بالطبيعة وطيور البرية وصباح الوديان النضِرة ونواطير الكروم وعيون الماء الرقراق (طِيري يا رفوف الدِّرُّجْ طِيْري تـَ نطيْر، حِلْوِة ساحات الضِّيْع حلوِة بكِّيْر). ويختلط الحب والفرح بجمال الطبيعة في صورة الصيادين وهم يتبادلون مع العصافير المداعبة الرياضية (بَدِّي شِفْلِكْ شي زعْرورَة فيها إصْليلِك) دون أن تخدش مهارتُهم جمالَ اللوحة (من وادي لَوادي ما قِدْروا عْلَيْها الصِيَّادة) فما يريده الصياد هو الاستمرار في ملاحقة العصفورة (صَوتِك يصْدَح ويْسَوسحني، إركُض والشَّوك يْجَرِّحني) وهي تستعرض رشاقتها (تْطير وْتِتدَلَّع) وها هو يقطع لها عهداً بعدم قتلها (لو فيِّي طالِك ما بْطالِك، ما بسْخى فيكي) تأكيداً لعشق الطبيعة الذي لا يخبو بريقه (خلَّيْها تْطول مْشاويري، أنا إمْشي وْإنتي تْطيري).
وفي مسرحية (يعيش يعيش) تتكرر صورة الصياد الرومانسي الذي يهوى الصيد والحديث عنه؛ إذ به يرتفع (شوف السَّما حَدِّي) ويخترق المجهول (إشرُد عَ بْواب الحْراش وْما أعرِف وين هَدِّي)، ويتلذذ المبالغة (كَمِّش نْسورَة والنِّسر قدِّي)، و(شفتي مَطْرَح ما قوَّسْت السَّبع.. شفتي مَطْرَح ما كْمَشْت التمساح).
في الأعراس التي معها (تتبارك حجار البيت) تتكدَّس صور الفرح والرقص والغناء وتتألق الحسناوات بقدودهن وفساتينهن والحليّ المصنوعة من الحجارة الطبيعية (خواتم الياقوت من جبل الياقوت) و(عْقُود اللُّولو مْن بْحُورِة اللُّولو). ويرتبط العرس في أذهان الناس بالخير والنور والبركة والطِّيب (والخوابي....) التي بها (تْفيض المحبِّة)، والوصية للعروس: (كوني قمح وْسكَّر، كوني طيب وْعَنبَر، وْقنديل الزوَّار)، فإذا قامت الأعراس لا يريد المحتفلون أن ينتهي الفرح (سعْدوا الأحبة طول يا ليل الهنا).
ويزدهر الحب في الحكايات الرحبانية في الطبيعة الخلابة ومكوناتها الصغيرة (خاتم ياقوت بقلبي بيرِنّ) والكبيرة (كِبْر البحر بحبَّك)، القريبة (مْصوَّر ع بابي) والبعيدة (بعِْد السَّما بحبَّك).
أبسط المكونات الطبيعية نالت حظها من التقدير الرحباني؛ في مسرحية (دواليب الهوا) تغني الصبيَّة حلا لنبتة القصب النهري (يا شجرة آل عَدِّني فيََِّاتها علْيو، طابتْ وعزّ الْجني وصحابها غلْيو) وتتغزل بالْـ (قصبة وْوَرْقة) التي تحلُّ مشكلة الضيعة وتخلق الفرح والسعادة في أهلها الذين تجاوزوا استغلال الإقطاعي فهد العابور لهم فصنعوا دواليب الهوا ونجحوا بتسمية عيد الضيعة باسمها. وكان القرص الورقي الملون الدوَّار رمزاً لأجمل وأقوى الحقائق الطبيعية المتعلقة بالحركة والتطور والمرتبطة بسعادة الناس وفرحهم (الدواليب عم بتدور والايام عم بتدور وْمش رح فيك تْوَقِّفْها يا فهد العابور).
لا مكان للتشاؤم والاكتئاب في حالات الشدَّة في حكايات الأخوين رحباني بل تبرز عند الناس روح التفاؤل وتتكاتف الأيادي البيضاء لتجعل من الكفاح والاستبسال مساحة للفرح والأمل بتحقيق النصر وطيِّ الأيام السوداء. في مسرحية (أيام فخر الدين) حين يَسعد الوطنُ بعودة أبنائه من منافيهم (عَلى الدَّار رِجْعوا صْحاب الحاميِّة) يرقص الفرسان وقد تشابكت سواعدهم (نِزْلوا الفرسان عَ الحلقة والسيف الأبيض واعِد) ويغنِّي الشعراء (وْشاعرْ حامِلْ غِمْر غْناني) للدار آل (بالعزّ مْسَيَّجة وعَ العالي مْحصَّنة وبالخير مْسَوَّرَة وبالقمر مْنوَّرَة). وعلى جبهة البناء تتدفق المياه إلى الأراضي التي أحيت ترابها هِمَمُ الأهالي (الميّ اللِّي بدَّا تْصير، ورد وْشتْل وْحَرير) وتتلألأ البيادر بغِلالها (بيدَرْ مزروعة بْيادِر مزروعة رْجال)، تبرز القمم (شِفْت جْبال آل عم تِتمختّر) وتضحك للناس المزارع (ومْزارع تخْضرّ وْتكْبَر). أما البحر فتطوِّعه سواعد البحَّارة محوِّلة أمواجَه إلى طاقة تنتقل فوقها المراكب من بلد إلى آخر (مَراكبْنا تْروح وْتِرْجَع، تِشْحن بَضايع وْتِرْجَع) فإذا فرغ البحارة من عملهم خلدوا إلى الراحة والغناء على شاطئ البحر وقد سحَرَت قلوبَهم حوريتُه (يا ماريَّا يا مْسَوسِحَة القبطان والبحرية).
تتحالف الطبيعة في الأدب الرحباني مع عزيمة الرجال المناضلين في سبيل كرامتهم وحرية بلدانهم؛ فنور الشمس يقضي على الظلام ويقطع على الظلاميين خططهم الشريرة (طلْعِت الشَّمْس، الشمس الْجايي مْن البَحْر، الشمس الْجايي مْن اللَّيلْ، وَيْن فِيْك تْغِيب يا ديب؟).
ويتطوع الفنُّ للعب دوره المحرِّك لعواطف الناس ولروح التعاضد من أجل بناء الوطن وصون حريته (لَرُوح بَيْن الشَّمِس والْفَيِّة، وِابْواب حِلْوِة تِشْرُق عَلَيِّي، سَلِّم عَ الِبْيُوت آل عَ هالطِّرْقات وْحامْلِة بْلادي بِعَيْنَيِّي)، وتغنِّي الفتاة.. عطر الليل للعمال والحرفيين مثل ما تغنِّي للفرسان والجنود (يامْعَلِّمْ رَكِّزْ مِيْزانَك عَ الْخَيط وْيالله، تَ الْجِسْر يْهلّ وْبنْيانَكْ حَيْطو يتْعَلَّى)، كما تطالب القائمين على حراسة الوطن والمنجزات بدورهم (يا كِرَّام انْطُرْ كرُومكْ عَ راس الوادي، حِلْيُو عْناقِيْدُنْ يا هْمُومَكْ من هالصِّيَّادي) وتناجي (بدر وادي التيم) الكبير (يا قمر مشْغَرَة) متمنية له السلامة (ما يْطال عِزُّو حدا وْلا يْصيب وِجُّو ضَيم) لأنه قمر (البْواب المفتوحة عَ الشمس وعَ الحرية)، ولأن هذه الأبواب محميَّة بالحب (بْوابِك مْشَرَّعِة والحب راعيكي)، ولأن الوطن (صخرة الفجر وْقصر النِّدي). وفي المصاعب استنجد أبناء الوطن قليلو العدد بالطبيعة لمواجهة الغرباء الزاحفين، فهم يجيدون التعامل معها، علَّها تكون قاسية على الغزاة (تْأخَّر الشِّتِي، وَيْن الغَيْم البارد يِطْلَعْ؟). ولا تكْسر الكبوات شموخ الأوطان التي تحميها صدور أبنائها (شُو بْيِمْرُق عْلَيْها رْياح وْضَيْم وْبِتْضَّلا تْلاقي نْواطيرا). وكما تتدخَّل الطبيعة في بعض الأحداث فهي تُنْبئ بغيرها (احْمَرِّت الشَّمس، انْكَسَر الغيم، وِلْعِت الجوزِة.. بدُّو يْصير شي).
وفي مسرحية (بترا) يؤكد الوزير ريبال للملكة شكيلا: (يا مَوْلاتي الأرْض آل إنْتي مِنْها شَمْس وْريْح وْشَعْب يْقاتِل عَنْها)؛ لأن هذه الأرض هي (زَهْرِة الجَنوب وعَصْفُورِة البِكي).
يفتخر الناس الطيبون بممالكهم التي تصنع ثرواتها جهودهم وسخاء الطبيعة. في مسرحية (ناطورة المفاتيح) تفتخر زاد الخير بممالك الناس (مملِكة اللَّيل، مملِكة السَّهر، مملِكة الهوى، مملِكة القمر) وبحياة أهلها البسيطة (مْنِقْعُد عَلى سْطَيْحَة، مْنِغْفي عَ حجر)، وبدل الحرَّاس (بْتِحْرِسْها السَّما ووْراق الشَّجر)
وتحفظ الطبيعة بعناصرها الجميلة ذكرى الأبطال وشهداء الوطن (راجِعْ بـِ اصْوات الْبَلابِلْ، راجِعْ بِغْنانِي الحِصَّادِين، ساكِنْ عَ اطْراف المَعاوِلْ، ساكِنْ بِفْراريع الحِطَّابين) وتفتخر باحتضانها صورَهم (ساكِنْ تَحْت اللَّوْز وْحَدّ الزَّيْتُونِة والسَّبْلِة)، وبحضورهم في فرح الأيام القادمة (وْتِجي إيَّام وْفَرَحَكْ يِكْبَرْ، دِنِي تِنْقام وْسَما تِتْعَمَّرْ). الوطن كبيرٌ في عيون الناس وغال على قلوبه؛ فهو (جبل الغيم الأزرق، وقمر النِّدي والزَّنبق، ودَهب الزمان الضَّايع) وهو ليس تراباً فقط، إنما تراب الأجداد (يا تْراب اللِّي سبقونا).
تربط اللوحات الرحبانية حياة الناس بالمناخ والطقس والمواسم وتستخدم عناصر الطبيعة ومصطلحات الناس بدءاً بالوقت الذي يرافق تحركاتهم (ركبوا عربيات الوقت) (نَطَرْتَك سِنِة، يا طول السِّنِة) والشاهد (اسْأل شجر الجوز) و(غيَّر العِدَّان). وتحتفظ ذاكرة المحبِّين بصور الأيام السعيدة (أيام البيادر غنَّينا سوا) و(نحنا لنا ورق الخريف). ويصبح الوقت هاجساً إذ تتحدَّد بواسطته الأعمار، ولأن (شمس العمر خْيال) فلا بدَّ من بعض التحايل (تَعا تَ نِتخَبَّا مِنْ دَرْب الأعْمار) و(مِنْوَدِّعْ زَمان وْمِنْرُوح لَزَمان)، مع بقاء الأمل بعودة، ولو عبر الذكريات (يا سْنين اللِّي رِحْتي ارْجَعي لي.. وْرِدِّيلي ضحكات اللِّي راحوا)، فإذا قنط حائر أو حزين وجد عزاء في (الإيَّام بْتِمْحي الإيَّام). في مسرحية (لولو) يصل العمر بالجدِّ الذي عاش دهراً مع طاحونته والناس (يِطْحن للحيّ قمح وسهريَّات) إلى درجة أصبح معها (طاحونة الذكرَيات يطْحن شَمْس وْفَيّ).
لشهرَي تشرين مسحة من الحزن (خَلَص الزَّرْع الشِّتي جايي وْلَفَح الدِّني تِشْرين) و(غَرَّب الْحَسُّون والزَّنْبَق تِكي، وْتِشْرين عمْ يجْمع الزَّهْر اللَّيْلَكي) و(برد الطقس وبَدُّو يجي السِّمُّن والتينات عَسَّلو ع إمُّن والعِنْبات ما في مين يْلِمُّن) و(رِجْعِت الشَّتوِيِّة) و(وِبْيِمْرُق تشرين ياخُدْ سَهْرِيَّاتْنا واصْوات الحِصَّادين.
وللقاءات التي تعتمد الفصول والأشهر دلالات: (لاقيني بْأوَّل تشرين) و(ندَهْني من تموز) و(ع العنقود، عيد الغلة) و(أواخر أيلول المعاصر مشتاقة) و(آخر إيَّام الصَّيْفيِّة) و(بإيام البرد، إيام الشتي) و(زهرة نيسان مزروعة فوق جيابو). في لقاء العشاق تزدهر الطبيعة وتسخى (يا دِنْيي شتِّي ياسمين)، ويؤرخ الناس قصص الحب باستخدام الفصول (بِدْيِت الْقِصَّة تحْتِ الشِّتي بِأوَّلْ شِتي حَبُّو بَعْضُنْ، وْخِلْصِت الْقِصَّة بِتاني شِتي تحْتِ الشِّتي تَرَكُوا بَعْضُنْ)، والمواسم (لاكْتُب كْتابِك عَ وَرَق تينِة واجْعَل طلاقِك حبِّ الزَّيْتونا).
لعناصر الطبيعة أحاسيسها ولغاتها أيضاً، إنها تعيش معنا فنتبادل معها المشاعر واهتزازات العواطف، ونجدها في النص الرحباني تفعل ما نفعله وتتكلم أيضا؛ فالصباح ينتظر كالعشاق (وْيا هالصِّبح النَّاطِرْ، قاعِد بالْقناطر) والطيور تبادل الآخرين صداقتَهم (يْدور الدُّوري ويْحاكي يْحاكي المنتور) وتتكلَّم (خَبّرُوني يا عْصافير الدَّار) و(الطير الحزين يْقول للعشاق خلص الحنين) و(شو قال الدوري لقرميد البيوت)، والقمر يسافر (سافرْت كْتير وْضَوَّيْت عمرك كلُّو راح) ويدخل من النوافذ دون استئذان موقظاً الوالي في مسرحية (صح النوم): (ضَوِّ الْقَمَر، فات مْن الشِّبَّاك، وَشْوَشْني، قلِّي اصْحا) وتعاتبه قرنفل (لولا بْتِلْقيلَك شي بيت وبْتِقعُد تِرْتاح مش أحسن ما تْقوم تِطلَع وْتِفضَح العشَّاق).
وتتحرك مكونات الطبيعة تعبيراً (عمْ تِمشي الجبال وتبعد الكروم والبيوت تهاجر) وتتضامن مع المضطهدين وتعينهم (ورا كل صخرة، تحت كل شجرة.. بْفيِّة كل بيت عمْ يخلق ولد لَ مِدْلِج). الحجارة تبدي فرحها بالعائدين (ضحكِت حِجار الدار لِفيو حْبابنا)، والزهور تتأثر وتشارك ماريا في (ناس من ورق) حزنها (وَحْدنا يا ورد رح نبكي)، وتغازل قطرات النَّدى في (بترا) الزَّهرَة بتْفَتِّح للنَّدى)، والماء في (بياع الخواتم)، (تْفَتِّح زَهرَة بالمَيِّة). الفصول تتحرَّك (رجعِت الشَّتوية، هرَب الصَّيف، وإذا إجا الربيع) والبحر يلبِّي مَطالب الأحبَّة (يا بحر بيروت سَلِّم ع اللِّي نِسْيونا)؛ لذلك تغني له ماريا (هيلا يا واسع) وتستحلفه (وحياة موجَك وْأيَّام الهوى والصَّيف). (الشلال انجَرَح) لغياب الأميرة الصغيرة في (بترا) و(محى) هدير القطار (الصَّدى) في (المحطة).
تبقى للشمس مكانتها الكبيرة فهي مصدر النور (عم بتضَوِّي الشمس والدِّنيي عم توعى). منها الدِّفء في (لولو)، (وْصَوِّرْ عَ هالْحِيْطان شَمْس كْبيرِة بهاللَّيل وأقعُدْ حَدَّا تَ إدْفَّا) والخير في (الشخص)، (ضو نهارَك طالع والرزقة على الله)، وهي رمز الحرية في (ناطورة المفاتيح)، (طْلِعْنا عَلى الشَّمْس طْلِعْنا على الْحِرِّيِّة)؛ إذ يسعد السجناء بإطلاق سراحهم وخروجهم إلى الحياة متمثلة بِـ: (عَ الضَّو، عَ الرِّيْح، عَ الشَّمْس، عَ البَرْد، عَ بْيادِرْ مِضْوِيِّة وْمِنْسِيِّة). وتوصَف الحسناوات بمقارنتهن بالشمس والقمر؛ فعمَّة نعمان في (ميس الريم) تعده بعروس (بِنْت القَمَر والشَّمْس نِعْمان تَـ جِبْلك) بدلاً من شهيدة التي يصفها والدها راجي (بَيْن الشَّمْس وْبَيْن الفَيّ غِرِّتْها مَزْروعَة).
و(أرْض الخَوابي والرَّوابي) تضحك (عم تضحك الأرْض، الأرْض آل إلها زمان، تْرابا مْشَقَّق عطشان) وتركض (لما بْتِركض فينا الحَفافي) وتركض معها الحياة (البيادر راكضِة بْسَنابل القمح). وكوكب الأرض كُروي ويدور ليضمن لقاء الأحبة (إذا الأرض مْدَوَّرَة يا حبيبي، رح نرْجع نِتلاقى يا حبيبي). مع (النَّسْمِة جبليَّة) يصبح (المَلْقى طيِّب طايب)، وللنسيم قدرة على الاستدعاء (ندهِتْني النَّسمِة الغريبة).
الغيم الملوَّن (في غَيْمِة زَرْقا) يستضيف الطيور (عَ الغَيم اللِّي فَوْق دْراجو،غاطِط رفّ سْنونو) ويبقى عندما يرحل الآخرون (وْما بْيِبْقى بْكَحْلُون إلا الغيم الأزرَق)، فإذا حزن يرحل بدوره (وْيِهْرُب فيْنا الغيم الحزين)، ولمكانته تستخدمه زيُّون في (ميس الريم) استعطافاً لمختار المخاتير (عم حلّفَك بالدَّمع بليالي الحنين، بالغيم بالتَّلِّة بزهر الياسمين). والأفق حسَّاسٌ لدخَّان الحضارة الذي (بيْجَرِّحْ بَياض المَدى) في (المحطة).
للَّيل باب (واقِف عَ باب الليل) وهو ضيفٌ عزيز يحب الناس ولا ينساهم (ليلية بترجع ياليل وبْتِسأل عَ الناس)، ولأن نجومَه معلَّقة فيه فهي لا تقع (خَلَص الحب ما وَقَع وَلا نِجْمِة) وتستضيفها البيوت في انتصار الحب (وْرِجْعِت عَ القناطر نجمة العشاق). وفي الليل يحلو سفر القادمين إلى (درع الصَّحرا) في (بترا) سفر الليل صحارى مْخبَّاية وْيا نجمة الليل قوافِلْنا جايي).
أسماء شخصيات المسرح الرحباني هي الأخرى مستمدة في أغلب الأحيان من الطبيعة؛ فالبطلة (فيروز) هي (منتورة) في (الليل والقنديل) و(عطر الليل) في (أيام فخر الدين) و(قرنفل) في (صح النوم) و(وردة) في (المحطة) و(زاد الخير) في (ناطورة المفاتيح)، وهي الزهرة المِسْتحِيِّة ولولو وغربة.. والآخرون ديب وأبو ديب وهبّ الريح وديك الميّ وفهد وسبع وشبلي وشاهين وزهرة وياسمين ونجمة ونسُّوم وزمرُّد وسهريِّة.
الملابس في مسرحيات الأخوين رحباني عنصرٌ أساس ومادة للتعبير عن جمالية التناغم مع الطبيعة؛ فللعيد تتحضر الفتيات (مْهِيَّايِة فستان جْديد) خصْرُه (مْزنَّر بالمنتور) و(زهرة نيسان مزروعة فوق جيابو). حلا في (دواليب الهوا) تكشف فساتينها حجم التغيُّر الذي أحدثه الحب بها (فْساتينها الْكانِت بْلون الشَّوك زهَّرو) وتؤكد نجمة (لِمِّن بْيحْلى الفستان بيكون القلب عشقان) وتتغزَّل نجلا في (موسم العز) بفستانها الحريري معترفة بتأثيره على الشباب (فستاني من وْراق الورد مْسَوسَح السَّاحل والجرْد). حتى العصافير فإنها ستحظى باهتمام الفتيات السعيدات في (أيام فخر الدين)، (للعَصْفوُرَة الْقمُّورَة بَدْنا نَعْمِلْ تنُّورَة إلها عِقْدِة زْغَيُّورَة والْكَشْكَشْ طايرْ).
يستعير مادحو الحكَّام عناصر الطبيعة لإطلاق الصفات الحسنة عليهم (نهر الليل، نهر العدل الفايض على طول، قمر الفضَّة، بحر الكَرَم الواسع). في مسرحية (بترا) تشبِّه الملكة شكيلا الملوك بالبحيرة (الملوك متل البُحيْرة بْتِتْجَمَّع فيها أحزان الكِلّ وهْموم الكِلّ)، وتمدح زوجها الملك (مالك الثاني)؛ (شِبَّهْتَك بِحَقْلِة زَيتون، شِبَّهْتَك بِعَجْلون، بالتَّلْج الأبْيَضْ عَلى حَرَمُون، بِإرْزِة مِنْ لبنان). الناس العاديون أيضا ترتبط صفاتهم الحسنة وقدراتهم وأخلاقياتهم بالطبيعة (كانو الخِيّالِة تَلْج وْصَهيْل وْخَيْل)، (أهل الشتي والريح)، (مَرْبى الحِرْشايات)، (مَرْبى شْيارة ومقالع).
ومَن عاش في الطبيعة يمتاز عن الذين نمت معارفهم بعيداً عنها بصدق التصاقه بها؛ لذلك ترى هيفاء في مسرحية (يعيش يعيش) أن جَدَّها هو الأجدر بتسلم الحكم لأنه: (جدِّي عايشْ بالطَّبيعة تْصاحَب هُوِّي والطَّبيعة. هَوْديكْ بْيقْرو الإشْيا بالكتُبْ.. بتْضَّلْ بْعَقْلُنْ كُتُبْ. جدي بْيعرف كيف الِبْدار بْيطْلَع مْن الأرض، جدي بْيعرف كيف أيَّام الطَيور وْمواسم السَّفَر، جدي بْيعرف لما التَّلْج بْيضْرُب اللَّوز كيف بْيِبْكُو صْحاب اللَّوز).
هل يستفيد جيل القرن الحادي والعشرين، والأدب الرحباني الخالد بين يديه، من قوة الحضور الفني والفكري لهذا الأدب وخصوصية القيم الجمالية في إبداعاته فيعتمدها نواظم ومعايير يتبين بها طريقه ويطوِّر من خلالها قدراته الإبداعية؛ فيقدم للتراث مساهمات على ذات المستوى الرفيع وفي مثل جمالياته سعياً لإبقاء المتلقين على تناغم حياتهم مع الطبيعة وجمالها وقوانينها وأخلاقياتها بعيداً عن السَّطحية والغرضية؟ نأمل ذلك.

 

 

__________________

 


أحمد سامي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-09-2010, 04:58 PM   #2 (permalink)
خبيرة في التنمية البشرية
 
 العــضوية: 5529
تاريخ التسجيل: 17/09/2009
المشاركات: 3,872
الـجــنــس: أنثى

افتراضي

أدب جميل
و عنوان لرسالة فن راقية
و بحق لن ننسى أن فيروز شكلت مع زوجها الراحل عاصي الرحباني وأخوه منصور الرحباني
( الأخوين رحباني )
ثورة في عالم الموسيقى و الغناء العربي

كتاب فيروز و الفن الرحباني فيه استعراضا كثيرا من إبداعات الأخوين عاصي و منصور
حقيقة لفت انتباهي

استاذي العزيز أحمد بحق مدينة لكم و أعود لكم الفضل
لكم بصمات ساحرة في رؤيتي عن الفن الجميل

 

 

__________________

 


لم يكتشف الطغاة بعد سلاسل تكبل العقول... اللورد توماس

نوره عبدالرحمن "سما" غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأدب, الرحباني


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الابتسامه بدون سبب ~~ روعه في الأدب ذكرى القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) 6 11-09-2010 04:12 AM
الأدب الفارسي والحاجة إلى الترجمة نوره عبدالرحمن "سما" قاعة الأدب والكتب ( القاعة الثقافية ) 0 13-08-2010 02:19 PM
علي الوردي ... أسطورة الأدب الرفيع نوره عبدالرحمن "سما" قاعة الأدب والكتب ( القاعة الثقافية ) 2 18-07-2010 05:07 PM
هل أعلمه الأدب أم أتعلم منه قلة الأدب زهراء القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) 2 23-10-2009 01:48 AM
[الرأي العام] منصور الرحباني غير راضٍ عن التعديلات التي طرأت على فيلم «سيلينا» < أحمد سامي الـقاعـة الـكـبرى ( الفن والإعلام ) 1 09-12-2008 03:40 AM


الساعة الآن 10:09 PM


طلب تنشيط العضوية - هل نسيت كلمة المرور؟
الآراء والمشاركات المدونة بالشبكة تمثل وجهة نظر صاحبها
7 9 244 247 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 289 290 291 292