حنين- قصة قصيرة (المغربي) جريدة الأنباء 1996 تلاحمت الأجساد فى كتلة واحدة.. كأنها "سردين" محفوظ فى علبة.. تتابعت الأنفاس فى سباق رهيب على من يتنفس هواء أكثر.. ومن يموت اختناقا؟.. تصارعت الأيدى وكأنها فى "حلبة الموت".. تحاول شق طرق لأجسادهم تبعدها عن الازدحام.. تهرس الأقدام أقداما.. يعلو الصراخ.. تتساقط الشتائم كالمطر.. وكلمات غاضبة متناثرة بعيدة وقريبة.
حاولتُ شق طريق لنفسى وسط هذا الازدحام .. فأنا فى عجلة من أمرى.. أريد شراء بعض الحاجيات لى ولأولادى فالعيد على الأبواب ومازال أمامى طريق طويل أقطعه للعودة اليهم.. أمرُ وسط الزحام بصعوبة.. يد أنثوية ولكنها قوية تضرب كتفى بغضب:
- ابتعد عنى يا قليل الأدب.. أليس لك أخوات!!.
نظرتُ إليها نظرة مليئة بالإحراج وكأننى فعلا قد ارتكبت فاحشة فى الطريق العام.. اعتذرت ولا أعرف عن أى شئ أعتذر!!.. أكملت طريقى أشقه بجسدى وبيدى وبقدمى.. يد قوية تدفعنى هذه المرة.. وصوت أجش يصرخ فى وجهى:
- أراك فى جسد "بغل"… لماذا لا تعمل بدلا من السرقة؟؟!!
قالها وهو ينظر إليَّ شذرا ويضع يده على جيبه فى حرص شديد يحاول الابتعاد عنى. نظرت إليه مندهشا واعتذرت.. وللمرة الثانية لا أعرف عن أى شئ أعتذر!!.. قاومت ما بداخلى من غضب ممتزج بالاختناق والحسرة.. شققت طريقى.. مجدفا بيديَّ وكأننى أجدف وسط أمواج عاتية متلاطمة..
تراجعتُ بذاكرتى إلى الوراء.. لعقدين من الزمن أو أكثر.. لا أدرى ما الذى جعلنى أتذكر "الترمواى أبو سنجة".. والذى يشبه الأتوبيس حاليا.. عربه واحدة.. تسير على قضبان حديدية.. معلق على سطحها "سيخ حديدى" ينتهى " بسنجة" أو قطعة حديدية مثل الكرة قد علقت فى أسياخ حديدية أخرى فوق العربة وبطول الطريق.. قطار وليس بالقطار.. نركبه دون زحام.. نصل إلى أى مكان.. نذهب لنشترى ونبيع دون اختناق.. دون أن تفارقنا الابتسامة والضحكة الصافية..
أخرجنى من حلم الماضى صوت امرأة تصرخ.. تلطم خديها:
- إبنى.. إبنى.. ألم تر إبنى يا أستاذ؟؟.. لقد ضاع وسط الزحام.. إبنى..
شعرت بحزن عميق لتلك الأم التى ضاع منها ابنها وتخيلت نفسى فى مكانها… وبحركة لا إرادية وكأننى أبحث عن ابنى.. وجدت نفسى أشق الزحام بقوة.. أنظر يمينا ويسارا لأسفل بين غابات السيقان المتلاصقة.. حتى وجدته.. يصرخ.. ينادى أمه.. حملتهُ.. أبحث مرة أخرى عن أمه.. وإذا بها ورائى.. تمسك بتلابيب قميصى حتى مزقته.. تصرخ:
- حرامى.. حرامى.. لقد خطف هذا الرجل ابنى.
تجمع الناس حولى.. كل منهم يحاول أن يثبت مهارته فى تسديد اللكمات لوجهى.. أتحاشاها.. يضربون بأقدامهم فى عدم تركيز فأبتعد عنهم… أحاول إخبارهم بالحقيقة.. أصرخ "ماذا جنيت؟!"… وبصعوبة اقتنعوا بأنى "فاعل خير" ولست لصا.
لملمتُ بقايا قميصى الممزق وكرامتى المبعثرة تحت الأقدام.. أتذكر مرة أخرى "الترمواى أبو سنجه" وكورنيش النيل والهواء النقى.. تذكرت بائع السميط والبقسماط والبيض والدقة.. تذكرت "المصطبة" أمام منزلنا الريفى.. تذكرت الهدوء وكرم أبناء البلد فى ذلك العهد.. تذكرت رائحة الهواء النقى الذى كان يطرد أعتى الأمراض.. تذكرت الخير كله فى الرزق القليل جدا.. تذكرت القلوب التى لم تحمل يوما ذرة حقد أو كراهية رغم "العدم" فى بعض الأحيان.. تذكرت محال الكرشة والكشرى وكيف كنا نأكل بشراهة منها حتى تصيبنا التخمة وبقروش قليلة.. نجرى بعدها.. نتنزه على الكورنيش.. نركب الترمواى أبو سنجه.. نذهب لبيوتنا.. نكمل لعبنا بين خيرات ما يسقط من الأشجار والنخيل.. نسعد لهذه ونأكل منها.. وننتقل لتلك ونملأ منها جيوبنا.
شعرت براحة وأنا أتذكر الماضى.. نظرت حولى بعدما وصلت لنهاية هذا الشارع المشئوم.. وجدت الزحام قد انتهى تقريبا.. وعلى الجانب الآخر وجدت ضالتى المنشودة .. إحدى المحال التى أقصدها للشراء..
وبسرعة البرق أخذت حاجياتى وكأننى أخاف حتى من الوقوف.. سألت عن الثمن.. أخبرنى به البائع.. وضعت يدى فى جيبى أخرج منه النقود دون أن أفاصله..
وفجأة… أعدت مشترواتى مرة أخرى للبائع دون تعليق … أبتسم فى مرارة، وأسرعت بالخروج من المحل أُمسك برأسى وكأن عقرب لدغنى فيه.. أسرعت والبائع يجرى خلفى مندهشا ومتسائلا:
- ماذا حدث يا أستاذ؟!!
نظرت إليه وأنا أضحك ضحكات هيستيرية وأردد:
- لا شئ.. لقد ضاعت نقودى فقط وسط الزحام.
أخذت أعدو حتى أخفيت نفسى وسط الناس مرة أخرى.. تلاشى بينهم حلمى وحنينى فى تذكر الماضى.. واكتفيت بأطلاله وسرابه بين الأنفاس المختنقة وعلب السردين البشرية.. أتمنى العودة لبيتى لأتنفس بعد هروب الماضى من ذاكرتى..وضياع نقودى وحافظتى.
|