إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-03-2025, 05:24 PM   #1 (permalink)
عضو شبكة الدراما والمسرح
 
 العــضوية: 19928
تاريخ التسجيل: 18/07/2023
المشاركات: 17
الـجــنــس: ذكر

افتراضي قصة قصيرة فازت بجائزة البغلي


تحياتي للجميع

هذه القصة ، عثرت عليها وأنا أقلب ملفاتي القديمة في الكمبيوتر
وقد فازت قبل سنوات في مسابقة القصة القصيرة


القصة :


واحد اسمه : عبد التواب
بقلم : حامد العلي


بين مخلفات البناء والحديد وأكياس الأسمنت ، جلس عبد التواب - ذو الأربعين عاما ونيف - يشرب الشاي الكشري ، وقفت في جهة وقد أدركني الملل من طول مدة البناء ، سألته : " متى راح تخلص الشغل ؟ " .
انتهى من رشفته سريعا ليجيبني بلهجة أهل الصعيد المحببة :
" كمان أسبوع " ، قالها وعاد يدير كوب الشاي ليخلط الحثالة المتبقية أكثر ، فعبد التواب يعشق الشاي الكشري .
دخلت ، وكعادة أصحاب القسائم اليومية ، أتفرج وأتخيل النهاية السعيدة لهذه الأيام الصعبة المتعبة في بناء البيت ، فقدمٌ في وزارةِ كذا وقدمٌ أخرى في إدارةِ كذا ، وبين طلبات عبد التواب بتاع الطابوق وأبو الكلام البنغالي بتاع الصحي ، أقسّم وقتي وعقلي وجهدي ، وحق لي ذلك ، أليس هذا هو بيت العمر ؟!

وبينما أنا غارق في خيال تقسيم الغرف ولون السجاد الملائم وتوزيع التحف ، إذ أسمع صوت عبدالتواب متحدثا على هاتفه النقال .. المغبر ، ابتسمت ، فكلام أهل الصعيد ممتع مميز، وله موسيقى خاصة ، ولابد أن ينتهي بابتسامة .. منّي ، ولا أدري ما هو سر هذه الابتسامة ، ربما يعرف " بافلوف " سرها .
انتهيت من توزيع الأثاث والتحف ، وفرشت السجاد ، كل ذلك في ذهني وخيالي ، ودونما تشاور مع الزوجة صاحبة الرأي الأخير ، ففي ذهني أستطيع أن أفعل كل شيء ، من دون اعتراض من أصحاب الشأن ! أما في عالم الواقع ، فرحم الله امرئ عرف قدر نفسه .
تركتُ عملية التأثيث الذهني ، واقتربت من عبدالتواب وهو يضع هاتفه المغبر في كيس ثم يضعه في جيبه حفاظا عليه من .. الغبار ، سألته بلهجته مازحا :
" إيه الحكاية يا عبدالتواب ؟ "
قام وهو يحمل كوب الشاي - الذي طبع عليه بصماته - بيدٍ ، وترمس الشاي بيدٍ أخرى ليضعهما قرب الحائط كي لا يتسخا ! وهو يقول :
" مفيش يا بو أحمد ، أبويا .. بكلمه كل يوم مرة ، بينشغل علي على طول " .

قلت متصنعا الاهتمام مجاملة : " بس إنت كبير منت صغير علشان يخاف عليك ! "
رد بلهجته المميزة ، ولكن بجفاف وكأنه لم يستسغ ما قلته ، ولكنه احتراما للعقد المبرم بيننا خفف من نبرة الجفاف وقال :
" راجل كبير ، لزماً أراعيه " .
أحسست بأنني قلت ما لم يعجب عبدالتواب دون قصد ، فبعض الناس لهم مقدسات قد لا يعرفها من يحيط بهم ، ورغم ذلك ، لم أحسن الخروج من ورطة لساني الذي خرج عن طوع عقلي ، فقلت : " والوالدة ؟ ليش ما تكلمها ؟ " .
التفت إلى بهدوء وكأنه يلقي وراء ظهره عبارات وجمل ثقيلة كثيرة تنفع كإجابات وإجابات على سؤالي ، ولكنه اختصر كل ذلك ، وقال :
" الله يرحمها " ، عرفت هنا بأنني قد زدت الطين بلة ، وعرفت أن الصمت حكمةٌ ، لم أُعطَ منها شيئا .
تحرك عبد التواب نحو كومة الطابوق وهو يشد الربطة الصفراء فوق رأسه ، تلك الربطة التي كانت بيضاء قبل سنوات ، ليست بالغترة ولا بالعمامة ! وطرقت أذني كلمات تمتم بها لم أتبينها ، يالله .. ماذا يقول عني عبدالتواب ؟
وقبل أن يرفع أول دفعة من الطابوق ، نظر إلي وقال :
" والله يا بو أحمد ، أنا بحسد كل واحد أمه عايشه "
رفع كمية من الطابوق كبطل أولمبي ، وابتعد ، ولكن كلماته كانت كافية لأجمد مكاني ، وقفت .. كلمات عبدالتواب كانت من أصل وصورة ، أما الأصل فدخل إلى قلبي وأما الصورة فانطبعت في عقلي ، لذا لم أتحرك من مكاني لحظات حتى لا أفقد ما انتابني جراء كلام عبدالتواب بتاع الطابوق .

لماذا يحسد هذا الرجل أقرانه ؟!
عبدالتواب ، رجل من صعيد مصر ، جل وقته بين الطابوق والأسمنت والتراب . وهو في أثناء البناء والشغل ، إذا لم يفكر في البناء والشغل ، فهو يفكر في البناء والشغل .
ثيابه الرمادية الخالية من الإحساس والمشاعر ، لحيته الخشنة ، التعابير الجافة المنحوتة على قسمات وجهه ، يده المشققة ، سيجارته الملتوية .. كلها مع غيرها توحي لك بأن الرجل ، سطحي ، ضحل ، غارق في الجمود ، الدينار هو غاية نظره ، والجنيهات منتهى رضاه .
عبدالتواب الذي تشققت يده من الأسمنت ومواد البناء ، ولطالما سالت منها الدماء أثناء العمل ولم يرف له مع ذلك جفن .. عبدالتواب هذا .. يحسدني ؟ على ماذا ؟!
لم يحسدني على مساحة بيتي وموقعه على شارعين ، وهو الموقع الذي يحسدني عليه حتى أصدقائي المقربين .
ولا على تصميمه الأوروبي ، ولا على سيارتي الفارهة ، ولا على وظيفتي أو راتبي .. وإنما يحسدني على أن لي .. أمّاً ؟
وهل يحتاج عبد التواب المغبر .. إلى أمْ ؟
**
الأم ، شيء مسلّم في الحياة ، موجودة دائما .. كالهواء ، لا تلتفت له لبساطته من حولك وإحاطته بك واحتضانه لك من دون علم منك ولا إرادة ، تعرف قيمته عند فقده .
**

" بدأت أستعيد ذكرياتي " ، والحقيقة أن هذه الجملة .. لا تقترب في معناها قيد شعرة مما عشته قبل لحظات ، وأنا أقود سيارتي عائدا إلى بيتي في حر الظهيرة ، أقسم أنني بدأت أشم رائحة أمي وعبق ثيابها الممزوج ببقايا دهن الورد الذي كنت أشمه منها وأنا في العاشرة من عمري .
وها أنا – في السيارة – أشعر بلمسة يدها وهي تمسح على شعري قبل ثلاثين سنة ، الآن .. فقط الآن ، عرفت معنى الدائرة الكهربائية المغلقة ، الآن عرفت لم يضيء المصباح ، هذا الاتصال ، هذا الحب ، هذه اللمسات على شعري كانت تنبع من قلبها لا من يدها .
رباه ، لماذا تأخرت الإضاءة إلى اليوم ؟
الآن ؟!
الآن وبعد أن ذرفت على الأربعين ، الآن أضاء مصباح روحي ؟!
وعلى يدي من ؟! عبدالتواب ؟!
وصلت إلى منزلي ، منزل مؤقت ، ريثما أنتقل إلى منزلي الجديد ، منزل عبدالتواب ! إن صحت التسمية ، أو وافقت عليها زوجتي ، ولا أظنها ستفعل .
وقفت ، نظرت للساعة ، تشير إلى دقائق قبل الثانية ظهراً .
لم أخرج من السيارة ، بل .. عدت أدراجي إلى الشارع ، محملا بذكرياتٍ ذاتِ حياة وعبق ، لا مجرد صور ثابتة أو متحركة لا طعم لها تدور في الأذهان التي لم يروها عبد التواب بكلماته .. أو حسده .
لحظات ، وجدت نفسي أمام منزل العائلة ، خرجت .. وقفت أنظر في الحديقة الصغيرة ، " الله يرحمك يبا " ، كلمات صدرت عن لساني بشوق جارف ، لرجل مات منذ حقبة ، رنّت صوت ضحكته الجميلة في أذني ، ضحكة لم ترد على بالي منذ زمن ، منذ دخل أحمد – ولدي – إلى الابتدائية .
منذ بدأت أصارع زملائي لرئاسة القسم ، فالبحث عن واسطة قوية بين الواسطات أمر يحتاج إلى جهد . وإذا كنت أرى في نفسي الكفاءة لأكون مديرا في يوم ما ، فلا بد من أن أضع قدمي على السّلمة الأولى بثبات ، وهي رئاسة القسم ، فلا مانع حينها أن أنسى كل شيء لأجل شيء ، فقديما قالوا :
" ألف عين لأجل عين تكرم " .. وقد صدقوا ، فهم السابقون !

تذكرت ضحكة أبي التي نسيتها عندما طغت عليها صوت أقدامي تركض وأنفاسي تلهث لتوفير مبلغ يكفي لسفري مع أسرتي إلى جولة أوروبية .
نعم .. نسيتها ونسيت صاحبها ، عندما دخلت قرعة توزيع الأراضي على المواطنين للبناء ، وبات صداها في عالم النسيان وأنا أسابق الزمن لأرفع أعمدة البيت وأساساته .
والآن ، لم أنته من تشطيب البيت ، وها أنذا منشغل في تقسيم الغرف ولون السجاد وتوزيع التحف ، فبالله عليكم كيف أتذكر ضحكة أبي ؟ أو لمسة حانية على شعري من راحة كف أمي ؟
تذكرت كل هذا مع صوت صرير الباب القديم لمنزل العائلة القديم وأدخل إلى فنائه ، الحوش .. الحوش الذي جمعنا صغارا ، كنا نلعب ، ونتصارع ، ونبكي ونضحك ، وكل ذلك يحدث في غفلة منا عن الستارة التي تُفتح بين الفينة والأخرى ، وتطل من ورائها علينا عين رحيمة ، تتابعنا رأفة بنا وخوفا علينا ، لم تتدخل أمي في لعبنا ولا في ضحكنا ولا حتى في صراعنا ، فكل همها هي أن نكون هنا .. في الفناء ، تُمتع ناظريها بنا ، ويطمئن قلبها إلى وجودنا .

دخلت الباب .. استوقفتني رائحة دهن الورد ، ممزوجة برائحة بدن أمي المميزة ، رائحة حنانها ، نعم حنانها .. عبدالتواب ليس بأحق مني بالتعبير عن رغبته بحنان والدته ، فإن كان يحسدني ويحسد كل من كانت أمه علي قيد الحياة ، فليحسدني إذا وأنا أتمتع ببقائها ورائحتها وتقبيلها واحتضانها ، بل .. ليحسدني ما شاء وأنا أضع يدها على رأسي ، وأمرر يدها بين بقايا شعري القصير ، فهذه المرة ، أنا أعرف لم يضيء المصباح . هذه المرة أنا أستمتع بإضاءة المصباح . هذه المرة ، أنا .. أحسست .. حقيقة .. بما تعنيه كلمة أم .
فليحسدني ، حتى لو كان هو بنفسه الشعلة التي أضاءت لي طريقا إلى الجنة كنت قد نسيته .
**
بعد أيام ، دخلت بيتي ، حيث أزال العمال أغلب الأنقاض ومخلفات البناء ، بدا البيت جميلا ، سألت فتحي المقاول : " وين عبدالتواب ؟ " .
قال بجمود : " عبدالتواب .. أبوه مات ، سافر يحضر الجنازة والعزى " .
ثم أردف وهو ينظر لبقايا الأنقاض : " بو أحمد .. عوزين خمسمية دينار علشان نخلص التشطيب ؟ "

قلت - وأنا أخرج ربطة الدنانير من جيبي - :
" فتحي ! أمك موجودة ؟ " ..

فهذا جفاف من لم تلمس شعره .. يد أمه .

**



 

 

حامد العلي متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البغلي, بجائزة, فاست, قصة, قصيرة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مقالتان قديمتان من جريدة القبس .. للكاتب ( علي أحمد البغلي ).. وتسجيل إعجاب خاص مني.. عندليب الكويت القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) 2 11-11-2020 02:29 PM
راسل ينضم لـ «فاست أند فيورست 7» اللجنة الإخبارية والصحافية السلطة الرابعة ( الصحافة الفنية ) 0 04-09-2013 11:52 AM
Mbc فازت بعشر جوائز في مهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون هيون الرياض الـقاعـة الـكـبرى ( الفن والإعلام ) 0 14-02-2010 09:38 AM
قصة قصيرة و لكن مؤثرة زهراء القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) 1 14-09-2009 04:33 PM
حميركوفون - قصة قصيرة المغربي القاعة الكبرى ( القضايا العامة وملتقى الاعضاء ) 0 08-07-2009 03:15 PM


الساعة الآن 02:51 PM


طلب تنشيط العضوية - هل نسيت كلمة المرور؟
الآراء والمشاركات المدونة بالشبكة تمثل وجهة نظر صاحبها
7 9 244 247 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 289 290 291 292