[بحر الحب]

التمثيل قبل مارلون براندو ليس كالتمثيل بعده! قبل هذا الرجل كان هناك ممثلون عظام أمثال: فريدك مارش، سبنسر تراسي، بينغ كروسبي، هنري فوندا، وغريغوري بيك. وبعده جاء ممثلون عظام أمثال: جاك نيكلسون، آل باتشينو، وروبرت دي نيرو. لكن ليس هناك سوى مارلون براندو واحد هو «الأعظم» في رأي الكثيرين من عشاق السينما تماماً مثلما السير لورانس أوليفييه هو أعظم ممثل مسرحي.

صدق من لخص حياة مارلون براندو بأنها «حياة من الإفراط المضحك، والانتصارات الغريبة، و الأحزان المرعبة». ولا يمكن فهم الكثير من الظواهر الفنية في مشواره وإتقانه الشديد لأدواره، ومواقفه السياسية المعارضة، وكثرة زيجاته وعشيقاته، بمعزل عن الفوضى التي اجتاحت حياته في الصغر، خصوصاً قسوة أبيه معه والتصاقه الزائد بأمه.

لقد عاش متمرداً بصورة مبالغ فيها على الكثير من القيم والأنساق، رافضاً الخضوع لسيطرة أحد إلا ذاته، أحياناً يكون طيباً أكثر مما يجب فيعطي والده كل ما جناه من التمثيل غير مبال بتبديده، وأحياناً يبالغ في العزلة أو في تناول الطعام أو قبول أدوار لا تليق بتاريخه الفني.

ولد مارلون براندو جونيور في 3/4/ 1924 في أوماها بولاية نبراسكا لأبوين من أصول أيرلندية، والده مارلون براندو الأب (توفي عام 1965) أما والدته فهي دورثي بينباكر وكانت ممثلة مغمورة وسكيرة وربما ورث الابن حبه للفن منها، وله أختان جاكلين وفرانسيس، شهدت حياته العائلية الكثير من الاضطراب حيث انفصل والداه وهو في الحادية عشر من عمره، وانتقلت والدته مع أبنائها إلى كاليفورنيا، ثم ما لبث أن تصالح والداه مرة أخرى، فانتقلت العائلة إلى إلينوي.

وكان أبوه التاجر الفاشل وزير النساء يهزأ به قائلاً:» هل هناك أي شيء آخر لا يمكنك الفشل فيه؟» بينما شجعته أستاذته ستيلا أدلَر وأعلنت للجميع أن «هذا الجرو سيكون ممثل أميركا الأعظم.

في عام 1940 التحق براندو بأكاديمية شاتوك العسكرية في ولاية مينيسوتا، إلا انه لم يكمل دراسته بها حيث طرد منها بسبب تمرده. ثم انتقل إلى نيويورك ليبدأ انطلاقته الفنية.

وقد صدرت عنه العديد من المؤلفات أهمها مذكراته هو نفسه التي حملت عنوان «أغاني علمتني إياها أمي» 1994، وقال عن هذا الكتاب:» قررت أن أسرد قصة حياتي بأفضل طريقة أستطيعها لكي يفرق أبنائي بين الحقيقة والأساطير والقصص التي رواها البعض عني».

من الواضح هذا الارتباط الأمومي الجارف بأمه دورثي، فهو رحل معها طفلاً عقب انفصال أبويه واستحضرها في عنوان مذكراته، وعندما أسس شركة إنتاج في إحدى مراحل حياته أطلق عليها «شركة بينباكر للإنتاج» وقد توفيت في مارس 1954 في بداية مجده الفني.

تزوج براندو ثلاث مرات من ممثلات مغمورات وانتهت زيجاته جميعها بالفشل والانفصال، وكانت أولى زيجاته من آنا كاشفي عام 1957، ثم تزوج من موفيتا كاستينادا، ثم تزوج للمرة الثالثة من تاريتا تريبيا التي ظهرت معه في فيلم «تمرد على السفينة بونتي»، وله من زيجاته وعشيقاته (يقال إن ستاً من عشيقاته انتحرن) 11 ابناً وابنة اعترف بهم، وإن زعم البعض أن له 25 ولداً وبنتاً! وثمة تلميحات أخرى عن «مثليته»!

أثناء تصويره لأحد الأفلام اكتشف براندو إحدى الجزر المرجانية في المحيط الهادي اسمها تيتياروا، اشتراها عام 1966، وأصبحت أشبه بمنفى اختياري له خصوصاً بعد أن اعتزل التمثيل قرابة عشر سنوات، وهناك كان يزداد سمنة، رافضاً كل العروض التي انهالت عليه لكي يعود إلى هوليوود.

هذا هو مارلون براندو الذي لا يميل إلى الأضواء والظهور كثيراً يقول عن نفسه: «عانيت التعاسة كثيراً في حياتي بسبب الشهرة والثراء». لكن أسوأ مأساة تعرض لها وقعت عام 1990 عندما قتل ابنه الأكبر كريستيان صديق ابنته الحامل شايان، رداً على إساءة معاملتها وحكم على الابن بالسجن عشر سنوات، قضى منها خمساً ثم أفرج عنه، بينما انتحرت الابنة نفسها عام 1995. وربما لهذا السبب عاد براندو للمشاركة في بعض الأفلام كي ينسى أحزانه، طبعاً إلى جانب إفراطه في الطعام.

بعد ثلاث سنوات على تصوير آخر أفلامه مع روبرت دي نيرو عاني براندو من المرض والشيخوخة والوحدة والسمنة إلى أن فارق الحياة في 1/7/ 2004 بسبب تليف رئوي كامل في مستشفى لوس انجلوس في كاليفورنيا عن ثمانين عاماً، مودعاً الحياة مفلساً وغارقاً في الديون. أما آخر ظهور عام له كان زيارته إلى مايكل جاكسون في مزرعته.

الطريف أنه أبلغ أصدقائه وأسرته قبل عام من وفاته بأنه مستعد للموت وأعد سيناريو جنازته بأن يتقدم النجم جاك نيكلسون المعزين في وفاته وأن يلقي المغني مايكل جاكسون كلمة في تأبينه كما أبدى رغبته في أن يحرق جثمانه و ينثر رماده بين أشجار النخيل في الجزيرة التي عاش بها. أما الأكثر طرافة فإن الجزيرة نفسها التي عاش فيها حياته الأسطورية قرابة نصف قرن واشتراها بحوالي خمسة ملايين دولار باعها ورثته قبل شهر فقط بمبلغ 500 مليون دولار. وهكذا أدر أحد قراراته الطائشة ثروة طائلة على العائلة!

الأب الروحي

وصف برناردو برتولوتشي المخرج الأشهر براندو بأنه «ملاك كرجل، ووحش كممثل». هذا الوحش ذو الأخطاء الكبيرة كادت الأضواء أن تنحسر عنه كلياً أواخر الستينيات وفجأة دب فيه العنفوان واستعاد طاقته السحرية في فيلم «الأب الروحي» أو «العراب» the godfather والغريب أن شركة «بارامونت» اعترضت بشدة على ترشيح كوبولا له للعب دور زعيم المافيا «دون فيتو كوروليوني» لأنه صاحب المزاج الصعب أثناء التصوير ولم يعد يجلب الأرباح و أصرت الشركة أن يخضع لاختبار للدور قبل الموافقة عليه!

ليست الشركة وحدها التي اعترضت، بل براندو نفسه كان معترضاً وقال: إنه فيلم عن المافيا.. لن أمجد المافيا! وغالباً مثل هذه الأفلام التي قدمت قبله وبعده، لا تستهوي كبار الممثلين، لأنها تعالج كأفلام «أكشن» تجارية بلا نص جدير بالاعتبار ولا تتطلب جهداً كبيراً من الممثل في أدائها.

لكن إصرار كوبولا على براندو كان فوق كل اعتبار. وحاول المقربون من براندو إقناعه بالدور وقراءة النص. وقالت مساعدته أليس مارشاك إنها رأته يستخدم قلماً نسائياً في رسم الحواجب والشارب بأشكال مختلفة ثم يسألها عن رأيها، إلى أن تحمس للدور بل ووافق على الخضوع لاختبار وهو من هو في عالم التمثيل.

فاجأ براندو الجميع بوضع كرات قطنية من أجل نفخ الخد والذقن ولم يتوقع أحد أن يكون منظر براندو بهذا الشكل كـرئيس لعائلة إجرامية، يرهب الجميع بأقل إشارة أو بتعبير وجهه فقط، دون أي استعراض للقوة.

بالطبع قصة الفيلم معروفة للجميع، وتكررت على نحو ما في أفلام كثيرة، لكن العبقرية الأساسية التي جعلت «الأب الروحي» واحداً من أعظم خمسة أفلام هوليوود في معظم الاستفتاءات، تكمن في أداء براندو نفسه.

لقد قدم صورة مركبة لزعيم المافيا، فهو ليس السفاح المتعطش للدماء، كما يصور عادة في أعمال سطحية، وكما قدمه قبله ممثلون أمثال جيمس كاغني وهمفرى بوغارت. بل هو أيضاً أب حنون وجد عطوف على أحفاده، يحرص على لم شمل العائلة في كافة المناسبات وفرض هيبتها على الآخرين. ولم يُقتل في تبادل لإطلاق النار أو بطعنة غادرة ـ كما يحدث عادة ـ بل مات في هدوء وسكينة في حديقة منزله في مشهد مؤثر، وليس بالقرب منه سوى أحد أحفاده.

ووضع براندو العائد والمتعطش للتمثيل خلاصة تجاربه كممثل عظيم في هذا الفيلم، فهو لا يمسك روح الشخصية من الداخل فقط بل كان شديد العناية بكل تفاصيلها الإنسانية البسيطة فلا يدعها تفلت منه، بدءاً من طريقته في شم وردة أو ضرب قطة، إضافة إلى طبقة صوته العميقة، الخشنة، والوقور.

ببساطة، لقد خرق الأداء المتوقع لمثل هذا الدور، وسكب عليه من روحه، واعتمد في ترهيبه على قوة ناعمة قد لا تُلحظ للوهلة الأولى مثل إيماءة أو حركة خفيفة بيده. لذلك ليس غريباً أن يقول النقاد إن أداءه في الفيلم أداء «لن يتكرر»!

يبقى أن نشير إلى أن الفيلم من إخراح فرانسيس فورد كوبولا، تأليف ماريو بوزو، وشارك فيه مجموعة من نجوم هوليوود الكبار لذلك وصف فريق العمل بأنه «طاقم خيالي أنتج فيلماً بلا هفوة واحدة» أبرزهم: آل باتشينو في دور «مايكل» نجل «دون فيتو»، روبرت دوفال في دور «توم هاغن» محامي المنظمة وابن زعيمها بالتنبي، جيمس كان «سوني كورليوني»، دايان كيتون في دور « كاي آدامز»

ورشح الفيلم ل 11 أوسكار نال منها ثلاثة كانت من نصيب براندو «أفضل ممثل دور أول»، أفضل سيناريو كوبولا وبوزو، وأفضل تصوير ألبرت رودي، كما رشح أبطال الفيلم الثلاثة آل باتشينو ودو فال وكان لأوسكار أفضل ممثل دور ثان إضافة إلى ترشيحات الصوت والموسيقى والإخراج وغيرها. وحقق عائدات أسطورية في شباك التذاكر تجاوزت 300 مليون دولار وهو مبلغ كبير آنذاك.





http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=165597

[أبو غادة]

بحر الحب لكل كل الحب على هذا الموضوع الجميل