يدخل المسرح المصري في طور ثالث بالانتقال إلى المسرحية الاجتماعية، وقد هييء له المؤلف الجديد، والممثل الممتاز، وذلك حين يأتي الممثل جورج أبيض من باريس سنة 1910 بعد أن درس أصول التمثيل على أساتذة أكفاء، وحين ألف فرح أنطون روايته (مصر الجديدة ومصر القديمة) ومثلها جورج أبيض في سنة 1913، ثم توالت المسرحيات الجيدة التي تتجه صوب المشكلات الاجتماعية.
وقد جرى في مضمار فرح أنطون إبراهيم رمزي حيث ألف مسرحيات (الحاكم بأمر الله) و ( البدوية) و (قلب المرأة) ، كما أتيح للمسرح جمهرة صالحة من الممثلين الذين تخرجوا في معاهد باريس أو تتلمذوا على من تخرجوا فيها أمثال عزيز عيد وعبد الرحمن رشدي وقد ترجمت لهذا المسرح الجديد خير المسرحيات الغربية فترجم الشاعر خليل مطران مسرحيات شكسبير الخالدة: عطيل، وماكبث، وهاملت، وتاجر البندقية ترجمة لا بأس بها تخالف تلك الترجمة التي قام بها من قبل اسكندر قلدس وكامل حنين، وإن كان الأخيران قد نقلا كذلك عن شكسبير (الأمير المنفي) و ( الليلة الثانية عشرة) وغيرهما؛ كما ترجمت مسرحيات موليير ترجمة جيدة. وقد أثار فرح أنطون في مقدمة روايته مصر الجديدة مشكلة اللغة التي ينطق بها شخصيات مسرحيته، أتكون اللغة العربية الفصحى مطردة في كل المسرحية؟ أتكون اللغة العامية؟ أو ليس ذلك إحياء لهذه اللغة الدارجة وإضعافاً للفصحى؟ وخرج من المشكلة بأن اختار حلا وسطا فأنطق المتعلمين بالفصحى والطبقة الدنيا بالعامية.
وفي رأيي أن هؤلاء الذين أثاروا هذا الموضوع، والذين أدخلوا اللغة العامية في التأليف المسرحي لم يدركوا تماما المراد بالواقعية في اللغة، إذ ليس المقصود أن تدع كل شخصية تنطق بلغتها الخاصة، وإلا تكلم النوبي بلهجته النوبية والصعيدي بلهجته الصعيدية وهكذا. وجاءت المسرحية خليطا غريبا من لهجات شتى وتعذر على الجمهور متابعة الرواية، وإنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها لشخصيات الرواية، فهي الواقعية النفسية والفعلية والعاطفية، فلا يتحدث أمي بأفكار الفلاسفة مثلا، وأما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة في التأليف المسرحي أو التأليف الأدبي الذي لا يخرج عن أن يكون فناً، وكل فن صناعة، وليست الواقعية اللفظية بالتي تعطي الحوار قوة مشاكلته للحياة، وإنما تأتي هذه القوة من الواقعية الانسانية قبل كل شيء.
ثم إن اللهجات العامية عديدة، وتتباين في الأقطار العربية، بل في القطر الواحد، ولا يمكن أن يفهم اللهجة العامية الواحدة كل عربي، والعامية بجانب كل هذا لغة ابتذال لا تصلح أبداً لأسمى العواطف وأرقى ألوان التفكير وليس فيها جمال الفصحى ورونقها، ولقد أدرك من سلك هذا السبيل أن أدبهم لن يكتب له الحياة، وأنهم زلوا في طريقهم؛ فلم يفصح محمد عثمان جلال عن اسمه بل رمز إليه، ولما كتب هيكل رواية زينب ونشرها لأول مرة أنكر اسمه ونسبها إلى فلاح مصري، كما أن محمود تيمور عدل عن العامية إلى الفصحى.
وقد انتهي هذا الأمر بأن خرجت مدرسة آثرت العامية كل الإيثار فيما قدمته للمسرح وعلى رأسها محمد تيمور ومن أعلامها أحمد خيري سعيد ومحمود تيمور وحسين فوزي.
وقد افتتح يوسف وهبي مسرح رمسيس في 10 مارس سنة 1923، وكان مدرسة أخرجت كثيراً من أبطال المسرح والخيالة، وقد قامت بتمثيل ما يقرب من مائتي مسرحية مترجمة عن روائع الأدب الغربي، كما أخرجت مسرحيات مصرية صميمة من قلب الحياة في مصر. وقد عانى مسرح رمسيس الصعاب والعقبات في كفاحه المضني. واستصرخ بأولي الأمر كي ينجدوه ويساعدوه على أداء رسالته، ولكنهم صموا آذانهم عنه، وقبضوا أيديهم عن مساعدته فلم يستطع مواصلة الكفاح. ومن المسرحيات المشهورة التي ظهرت على مسرح رمسيس في سنواته الأولى: (كرسي الاعتراف) و (الاستعباد) و (المجنون) و (غادة الكاميليا).
وثمة شخصية أخرى كان لها شأن في المسرحية المصرية المنتزعة من صميم حياة الشعب، تساق في أسلوب تهكمي ساخر لاذع، يظهر عيوب الناس، وأوصاب المجتمع ويضحكهم عليها في مقدرة فنية بارعة، وقدرة فائقة في الإخراج والتمثيل تلك هي شخصية نجيب الريحاني، وكان أبرع من اعتلى منصة المسرح في مصر، وإن كانت لغة مسرحياته عامية، ومعظمها من تأليفه هو وزميله بديع خيري.
وقد أنشأت الحكومة المصرية ما سمي بالفرقة القومية، ودعت أقطاب الأدب ليشرفوا عليها من أمثال: أحمد ماهر ومصطفى عبد الرزاق وطه حسين وتوفيق الحكيم وخليل مطران وكان المنتظر أن ينهض هؤلاء بالمسرح ويغذوه بالأدب الرفيع، وفي أسمائهم ضمان لاجتذاب الطبقة المثقفة للمسرح، ولكن يظهر أن جمهرة الشعب هي التي تغلبت في النهاية وآثرت ألواناً معينة من المسرحيات فيها مرح وفكاهة وكثير من التهريج، ثم إن الخيالة قد اجتذبت إليها كبار الممثلين لما فيها من الربح الوافر. ومع هذا فلا يزال هناك فرقة تمثيلية تكافح في سبيل نهضة المسرح، وهناك منذ سنوات معهد للتمثيل تدرس فيه أصوله وقواعده وكان يشرف عليه الأستاذ زكي ظليمات، وصلته بالمسرح قديمة، وله به خبرة واسعة وقد ألف أخيراً (فرقة المسرح الحديث).
وقبل أن أترك الكلام عن المسرحية النثرية يجدر بي أن أخص أديبا خدم المسرح المصري أجل خدمة، وارتفع بنتاجه الأدبي عن كل من سبقه في التأليف المسرحي المنثور، ذلك هو توفيق الحكيم. وقد أرم بالمسرح وهو طالب في المدارس الثانوية وفي الحقوق، وإن كان قد بدأ محاولاته الأدبية بقرض الشعر. غير أن النهضة المسرحية التي قامت في مصر عقب ثورة سنة 1919 جذبت إليها توفيق الحكيم، وقد ألف للمسرح في سنة 1922 وما بعدها بضع مسرحيات مثلتها فرقة عكاشة هي: المرأة الجديدة والعريس وخاتم سليمان وعلي بابا، بيد أن أصول هذه المسرحيات قد ضاعت فيما بعد ولم يبق في ذاكرة التاريخ سوى أسمائها ويظهر أنه لم يجدها تليق بمستواه بعد أن صار أديبا ذا مكانة مرموقة فلم يطبعها . وقد نضجت ملكته الفنية في باريس حين ذهب إليها ليدرس القانون، ولكنه أحس بأنه خلق لشيء آخر غير القانون ألا وهو الأدب، وشغف بالمسرح والقصص والموسيقى، وعكف على دراسة الفن من ينابيعه في أوربا وعاش عيشة فنان بوهيمي في عاصمة فرنسا وعاد منها سنة 1928، وأحب وهو بباريس فتاة عاملة بمسرح الأوديون تبيع التذاكر لرواد المسرح ولكنه لم يجرؤ على مفاتحتها بحبه طيلة ستة أشهر، وقد أوحت إليه هذه التجربة مسرحية (أمام شباك التذاكر). وأول مسرحية كتبها توفيق الحكيم بعد عودته هي أهل الكهف) سنة 1933 وقد أحدثت ضجة أدبية اشتهر معها أمر توفيق،(وقد سمع توفيق قصة أهل الكهف لأول مرة من المقرئ في المسجد يوم الجمعة، ولما أراد أن يكتبها مسرحية فنية قرأ ما كتب في تاريخ المسيحية، وقرأ الأناجيل الأربعة، والتوراة، وكتاب الموتى، والقرآن الكريم، وقد فكر في هذه القصة منذ حداثته من قوله:" إن أهل الكهف كتبت في اعماق نفسي منذ سمعت سورة الكهف تتلى يوم الجمعة في المسجد وأنا صغير، ولقد كان الفقيه يرتل وأنا ساهم أرى في الهواء الكهف وظلماته وفجواته، وأشاهد أصحاب الكهف جالسين القرفصاء، وكلبهم لا ككل الكلاب على مقربة منهم ياطرهم عين النصيب، كل تلك الصور كانت تنسج خيوطها في نفسي يد مجهولة منذ الطفولة، هذه اليد هي يد الطبيعة الفنية").
وكتب في الفترة التي قضاها في وظيفة وكيل للنائب العام في الأرياف عدة مسرحيات منها: الزمار وحياة تحطمت،ورصاصة في القلب، وشهرزاد، وإن كان قد كتب معظم هذه المسرحيات في فترات مختلفة إلا أنه أتمها وهو في الريف، وظهرت له مسرحية محمد عام 1936 ، كما ظهرت مجموعات أخرى فيما بعد، وفي مسرح توفيق الحكيم يقول الدكتور إسماعيل أدهم: "إن توفيق الحكيم قد نجح في أن يرتفع بفن المسرحية إلى أفق أعلى من المستوى العادي للمسرحية في الآداب الأوربية، إلى مستوى يقف جنبا إلى جنب مع آثار الطبقة الثانية والثالثة من أدباء الغرب فالمسرحيتان (شهرزاد) و( الخروج من الجنة) لا يقلان في مستواهما الفني عن آثار الطبقة الثالثة في الآداب الأوربية، ومن هنا يمكننا أن نقول إن مصر بمحاولات توفيق الحكيم حازت قصب السبق في ميدان الفن المسرحي على بقية بلدان العالم العربي، وارتفعت بالأدب المصري من الحدود المحلية إلى آفاق رحيبة. وليس أمام الأدب المصري إلا بضع خطوات يخطوها إلى الأمام لتجد لأدبها المسرحي مكانة عالمية بين آداب الأمم".
إن ميدان التجربة في التأليف المسرحي في بلادنا ولغتنا وأدبنا ضيق محدود: لأن أدبنا العربي لم يعترف بالأدب المسرحي قالبا أدبيا إلى جانب المقالة والمقامة إلا منذ سنوات قلائل، كما أننا لم ننقل إلى لغتنا من أدب المسرح قديمه وحديثه إلا منذ سنوات قلائل ايضاً.
لقد استطاع توفيق الحكيم بهذا الجهد الكبير أن يرسي قواعد المسرحية النثرية في أدبنا العربي، وأن يسد الفراغ في كل الجهات. ومن ثمّ كان انتقاله إلى موضوعات متنوعة، وهو يعد اليوم الكاتب الأول للمسرحية النثرية في العالم العربي غير مدافع، من حيث خصوبة نتاجه وجودته وتنوعه، وتأثر في مسرحه الذهبي بمسرحيات إبسن النرويجي وبرناردشو الإيرلندي، وفي مسرحه الاجتماعي بالمسرحيات الفرنسية المعاصرة.
ولقد تأثر خطوات توفيق الحكيم أديب ناشئ هو علي أحمد باكثير واتجه بالمسرحية اتجاها قوميا فأخذ من التاريخ القديم وكتب مسرحيات أخناتون ونفرتيتي وقصر الهودج والفرعون الموعود، كما كتب شيلوك الجديد، وسلامة القس وقد كتب بعض هذه المسرحيات بالشعر المرسل، وبعضها بالشعر الموزون، وبقيتها نثرا، وقد توفي في سنة 1969 وترك نتاجا ضخما لا بأس به.
وإذا نظرنا نظره عامة للمسرح في هذه الحقبة التي أرخنا لها وجدنا الأدب المسرحي من حيث الموضوع قد ابتدأ مقتبساً من آداب الغرب، يقتبس كل شيء يصلح للتمثيل لا يهمه مدرسة بعينها، فينقل عن المدرسة التقليدية تارة والإبداعية تارة، والطبيعة ثالثة والواقعية أخرى وهكذا، ولما أخذ الكتاب يتجهون إلى وضع المسرحيات كانت وجهتهم أول الأمر واقعية، مستمدة من روح المجتمع المصري ومشكلاته وأحواله سواء كانت المسرحية مأساة أو ملهاة، ثم عاد المسرح إلى الأخذ عن الأدب الغربي على يد يوسف وهبي، وإن لم يغفل في الوقت نفسه عن وضع مسرحيات لمعالجة المشكلات الاجتماعية تدور بين العاطفة وبين الواقع، وجاء توفيق الحكيم وقد جمع بين المثالية والواقعية والتجريد والتحليل، وإن كانت فلسفته ترتكز: على أن في إمكان الشرق أن ينال من الحضارة الأوربية خير ما فيها من غير أن تضعف روحانيته. بينما نرى الشعر لدى شوقي، وعزيز أباظة، ومحمود غنيم، وباكثير، وعلي عبد العظيم يتجه بالمسرح في الأعم الأغلب وجهة تاريخية؛ ويجدر بنا أن نخص المسرحية الشعرية ولا سيما عند شوقي بكلمة موجزة. __________________ لم يكتشف الطغاة بعد سلاسل تكبل العقول... اللورد توماس
|