عرض مشاركة واحدة
قديم 20-07-2010, 10:41 PM   #3 (permalink)
نوره عبدالرحمن "سما"
خبيرة في التنمية البشرية
 
 العــضوية: 5529
تاريخ التسجيل: 17/09/2009
المشاركات: 3,872
الـجــنــس: أنثى

افتراضي

المسرحية الشعرية في الأدب المصري الحديث:

لقد رأينا فيما سبق أن المحاولة الأولى للمسرحية الشعرية كانت على يد خليل اليازجي في مسرحية المروءة والوفاء التي ظهرت طبعتها الأولى سنة 1876 ومثلت على مسرح بيروت 1888، وتدور حوادثها في زمن النعمان ملك الحيرة، وهي ذات لون عربي واضح وتصور بعض المثل التي ميزت العرب عن سواهم. ورأينا أن محمد عثمان جلال قد عرب بعض المسرحيات الأوربية شعراً. وإن لم يرق إلى مستوى خليل اليازجي من حيث الديباجة وقوة التعبير وسلامته، بل كثيراً ما أدخل فيه الألفاظ الدارجة، كما ترجم بعض المسرحيات زجلا. وإنه لما أتى أبو خليل القباني إلى مصر، واهتم بالتاريخ العربي والإسلامي جعل لغة المسرحيات شعراً أحياناً، وأحياناً أخرى نثراً مسجوعاً يتخلله كثير من الشعر في المواقف الحماسية والعاطفية، وفعل مثل ذلك سليم النقاش في رواية (الظلوم) التي مثلت أيام اسماعيل، وظن أنه يعرض به فأغلق مسرحه.

وتسير المسرحية المصرية على هذا النمط يختلط فيها النثر بالشعر حتى مسرحية مصطفى كامل "فتح الأندلس" وذلك لأن أسلوب المقامة ولا سيما في الأدب كان شائعاً في ذلك الوقت، وبه ظهر حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي، وليالي سطيح لحافظ ابراهيم، وأسلوب المقاومة كما هو معروف فيه نثر مسجوع وشعر مصنوع.

أحمد شوقي

وعلى هذا الأسلوب أنشأ شوقي في أول حياته الأدبية مسرحيتين إحداهما ورقة الآس، وثانيتهما داسياس والأولى عربية تدول حول حب النضيرة ابنه ملك العرب لسابور قائد الفرس، والثانية فرعونية تدور حول حب حماس المصري لداسياس الأميرة اليونانية.

وغرضنا من هذا العرض السريع أن نقرر أن شوقي لم يبتدع المسرحية الشعرية العربية، وليس أول من ذلل الشعر العربي للمسرحية فقد سبقه في ذلك اليازجي، كما أن البستاني. مترجم الإلياذة قد نوع كثيراً في بحور الشعر وقوافيه، وهو يترجم تلك القصة الطويلة التي جاءت في أحد عشر ألف بيت. وقد نشرت لأول مرة سنة 1904. وكذلك حاول بعض كتاب المسرحية على أسلوب المقامة أن يجروا الحوار شعراً أحياناً, وقد أفاد شوقي من كل هذه التجارب.

حاول شوقي وهو بعد طالب في باريس أن ينظم أولى مسرحياته علي بك الكبير أو دولة المماليك، ولكنه لم ينشرها في ذلك الوقت. وانصرف عن المسرح إلى الشعر الغنائي، في مديح عباس، وخدمة القصر، بيد أنه قد تأثر بثقافته الغربية كل التأثر حينما بدأ يكتب للمسرح، وكان من هوايته وهو في باريس، وقد شهد ساره برنارد الممثلة الفرنسية المشهورة تمثل الروايات الخالدة. وكانت النزعة الغالبة على الأدب الفرنسي في الحقبة التي كان فيها شوقي بفرنسا هي النزعة الطبيعية القومية ممثلة في عدد لا يحصى من المسرحيات والروايات القصصية والقصائد. بيد أن شوقي اتخذ القصيدة الغنائية مجالا للتعبير عن آرائه، واتجه في بعض قصائده تلك الوجهة القومية، وأغرم بوصف الطبيعة المصرية، ولم يكتب للمسرح إلا في أخريات حياته، وبعد أن بويع أميراً للشعراء، وكرمه كل الشعراء العربية سنة 1927 ، وأخذ النقاد يحثونه على أن يكمل فنه بالأدب المسرحي، فكتب عدة مسرحيات تاريخية منها: كليوباترة، ومجنون ليلى، وعنترة، وقمبيز، وعلي بك الكبير.

لم يكن من اليسير على شوقي وقد تمرس بالشعر الغنائي طوال حياته أن يبرع في الشعر المسرحي دفعة واحدة، ويجمع بين الصياغة القوية وحسن الأداء وبين مقتضيات الفن المسرحي، وهو لم يعالجه من قبل، ولذلك نرى فنه المسرحي يتطور بالتدريج. كان يكثر من المقطوعات التي هي من صميم الشعر الغنائي في مسرحياته الأولى: كليوباترة، ومجنون ليلى مثلا، ولا سيما في مواقف الغزل، والرثاء، والفخر، وقد ابتدأ فنه المسرحي في أول الأمر اقتباساً ثم سار نحو الابتكار والتجديد، ومن منهج تركيبي إلى منهج تحليلي، ومن منهج وصفي تتحرك فيه الحوادث تحت تأثير الصدف، وتوصف فيه الحوادث والشخصيات وصفاً لا يمثل الحركة على المسرح إلى منهج تحليلي يعمد إلى أن تعبر الشخصيات والحوادث عن نفسها عملياً على المسرح.

لقد كان وراء شوقي في أول الأمر ماضيه في الشعر الغنائي، ووراءه كذلك الجمهور الذي يعجب ويطرب لهذا اللون من الشعر، وقد ألف مسرح الشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش وأضرابهما، وكان يذهب في الغالب إلى المسرح لا ليشهد مأساة حقيقية وإنما ليستمتع بالأغاني التي تجري على ألسنة الممثلات وتخلق لها الحوادث خلقاً، وكلن شوقي بجانب هذا قد قرأ كثيرا من الأدب الفرنسي، قرأ الأدب التقليدي ممثلا في كورني وراسين وموليير، وقرأ الأدب الإبداعي لدى هيجو وشكسبير (مترجماً) ونعلم أن هيجو قد تأثر بشكسبير وأن كلا منهما قد اتجه نحو التاريخ الأوربي الحديث والقديم، فيكتب شكسبير هنري الرابع، وهنري الخامس، وكليوباترة، ويوليوس قيصر، والملك لير، ويخرج لنا هيجو ماري تيودور، وكرومويل من تاريخ انجلترا الحديث، وهزناني من التاريخ الاسباني أثناء محاكم التفتيش وغير ذلك.

وقد تأثر شوقي بكل هذا إذ رأى أعلام الأدب الأوربي يتجهون إلى التاريخ فلجأ إليه يستقي منه موضوعات مسرحياته ورأى النزعة القومية الطبيعية غالبة على المدرسة الفرنسية المعاصرة تسايرها في وجهتها؛ وإحياء التاريخ المصري فرعونيا أو عربيا أو إسلاميا كان بعده شوقي اتجاها قوميا. ورأى أن جمهوره لا يزال ميالا إلى الغناء فأكثر من مقطوعاته الغنائية، فضلا عن أنه لم يستطع هو نفسه التخلص من فنه الغنائي الذي مارسه طول حياته في قصائده، أضف إلى كل هذا أن شوقي كان بعيداً عن حياة الشعب لأنه كان حبيساً في قفص من ذهب، مقيداً بقيود القصر، وغل الحاشية، ولم يكن يدري شيئاً عما يعانيه شعب مصر من مذلة، وهوان وفاقة، وإذا درى فقلما كان يحس بتلك الآلام أو يتذكرها، وليس له لها عهد؛ وهو الذي ولد بباب إسماعيل، وعولج من الحول بالذهب الإبريز، وظل يتقلب في مطارف النعمة، إلى آخر حياته. ولا ريب أن بعده عن الشعب جله لا يتجه أي وجهة واقعية أو اجتماعية في مسرحياته اللهم إلا في روايته الأخير (الست هدى)، ونحن نعلل هذا الاتجاه الأخير بكثرة تردده على المسرح وإدراكه ما يطلبه الجمهور وما يقتضيه التنويع في فنه، ثم لتلك النهضة الاجتماعية الشعبية ممثلة في الصحافة وفي المسرح.

وإذا علمنا كذلك أن شوقي كان يؤمن بالخلافة العثمانية ويدعو لها، وأنه كان يجيد وصف القصور ورجالها لا نعجب أن يتجه أول أمره إلى حياة الملوك، وهو أدرى بها حتى لا يزل قلمه، أو يكبو فنه، فهو يسير على أرض خبرها، ويصف حياة عرفها، وأدرك ما فيها من مؤامرات وملق، ونفاق وجبن واستهتار وبذخ، وفخامة وثراء طائل عريض يتمثل في الحفلات الراقصة والموسيقى الشجية والولائم العامرة.

ولذلك نجد شوقي يجيد حين يبرز شخصيات الملوك والأمراء والملكات، ويقصّر حين يصف الجمهور وعامة الشعب، لأنه كان في عزلة عنه، لم يدرس نفسيته عن كثب، ويتعرف على فضائله الكامنة الطبيعية اللهم إلا في مسرحيته الأخيرة (الست هدى).

ملهاة شوقي
الست هدى

ولأهمية هذه المسرحية في تطور الفن المسرحي لدى شوقي، ولأنها الملهاة الوحيدة التي كتبها، وآثر فيها الشعر على النثر، مع أنه كتب (أميرة الأندلس) نثراً على الرغم من أنها تدور حول شاعر فحل هو (المعتمد بن عباد) ، يجدر بنا أن نلقي نظرة عاجلة على هذه المسرحية ذات الموضوع الاجتماعي.

تعالج هذه الملهاة عيباً أخلاقياً اجتماعياً، لا يزال شائعاً في بلادنا، وهو تزاحم الرجال على النساء ذوات الثراء، فالست هدى امرأة تملك ثلاثين فداناً، ولهذا تزوجت من تسعة من الرجال الواحد بعد الآخر كلهم كان يطمع في ثروتها، ولكن المنية تخطفتهم كذلك الواحد تلو الآخر، وكلما مات واحد تقدم آخر، وبقي الأخير إذ خلفته وراءها وانتقلت إلى الدار الآخرة، وقد ظن أنه قد أصاب الثراء، وأخذ الناس يفدون عليه مهنئين، ولكنه لم يلبث أن اكتشف أن هدى قد أوصت بكل مالها لبعض صديقاتها وبعض جهات البر، وأنه لم يرث شيئاً فجن جنونه، وخرج من المسرح يجر ذيل الإخفاق، وتشيعه الضحكات.

وقد اتخذ شوقي الملهاة والضحك وسيلة لنقد هذا العيب الاجتماعي المتفشي في بيئتنا إلى يومنا هذا.
وكان من الصعب على شوقي أن يستعرض هذه الزيجات التسع على المسرح ولذلك اكتفى بأن يقص خبر الثمانية الأول، ويبرز ما في قصة الزوج الأخير من سخف وضحك.

ولقد أجرى على لسان الست هدى في الفصل الأول وهي تحكي لصديقتها زينب تجاربها مع هؤلاء الأزواج، ورأيها في كل منهم، فأول زوج مصطفى وتقول عنه:

الست هدى:
لست ما عشت ناسية /// لست أسلو حياتيه
أول البخت مصطفى /// مصطفى كان ساريه
حين يمشي تظنه /// نخلة المرج ماشية
مات، فكدت أموت حزنا /// وكان عمري عشرين عاماً
ثم تزوجت بعد خمس /// من ذا يري فعلتي حراما

زينب:
أجل تعيشين وتدفنينا /// حتى تصيبي منهم البنينا
(حلوة هل الدعوة)

وتقول الست هدى عن زوجها الرابع:

الست هدى:
ولست أنسى زوجي الرابعا /// لا نافعا كان ولا شافعاً
قالوا أديب لم يروا مثله /// ولقبوه الكاتب البارعا
قد زينوه لي فاخترته /// ما اخترت إلا عاطلاً ضائعا
رائح أكثر الزما /// ن على الصحف مغتدي
يكتب اليوم في "اللوا" /// وغدا في "المؤيد"
ليله أو نهاره /// فارغ الجيب واليد
ويعجبني عند المباهاة قوله /// بنيت فلانا، أو هدمت فلانا
رحمة الله عليه /// كان لا يحقر مالا
كان إن أفلس لا /// يسألني إلا ريالا
ثم تزوجت بيوزباشي قمر /// نهى كما شاء هواه وأمر
لقد وددت أنه زوج العمر
عشنا ثلاثاً ثم افترقنا /// وكان عمري عشرين عاما
طلقني فالتمست زوجاً /// من ذا يرى فعلتي جرما

زينب:
أجل تعيشين وتدفنينا /// حتى تصيبي منهم البنينا

ومن أزواج الست هدى فقيه البلد، وتقول عنه:

ثم اقترنت بفقيه /// عالم في البلد
كهل أخو خمسين لكن /// في نشاط الأمرد

زينب:
عرفته ذاك الفقيه الشيخ عبد الصمد
قد كان في الخطِّ وجيهاً ومقبَّل اليد
وكل من مر به خاطبه بسيدي

الست هدى:
يرحمه الله أدبني /// حتى عرفت كيف تخضع النسا

زينب: أنت؟
الست هدى:
أجل أدبني بيده /// ورجله وبالعصا

زينب: كيف؟ متى؟
الست هدى:
رأى غباراً عالقاً بجبهتي /// ولم أكن أعلم من أين أتى
فقال: هذا التراب من نافذة /// من كنت تنظرين منها يا ترى؟
وهاج حتى خفت أن يقتلني /// وشمر الذيل وجرد العصا
فقلت: يهواني، وتلك غيرة /// يا حبذا الزوج الغيور حبذا
وقبله لم أر من غار ولا /// ومن ظن في قلبي لغيره هوى
لكنه منذ كنا /// ما حل عقدة كيسه
يفضل الأكل من غير ماله وفلوسه
عشت مع الشيخ نصف عام /// وكان عمري عشرين عاما
ومات فاختارني سواه /// من ذا يرى فعلتي جرما

زينب:
أجل تعيشين وتدفنينا /// حتى تصيبي منهم البنينا


وبحسبنا هذه النماذج من مسرحية الست هدى، فهي تدل على أن شوقي كان يتمتع بروح فكاهية مرحة، ظهرت سماتها في مسرحياته السابقة، وفي قصصه الرمزية على لسان الحيوان، وفي هذه المسرحية قد بلغت غايتها، وتدل كذلك على أن شوقي كان يستطيع أن يتبسط في شعره ويلائم بينه وبين الموضوع، فهو هنا يكاد يقرب من لغة التخاطب، وكأنه غير شوقي صاحب الديباجة الرائعة والشعر الفخم في مآسيه.

ولقد وفق شوقي في هذه المسرحية الفكهة في ظاهرها، وإن تضمنت مأساة أخلاقية اجتماعية في مغزاها، ولقد كان هدف شوقي في معظم مسرحياته إبراز الناحية الأخلاقية والإشادة بالفضائل ولو أن شوقي لم تخترمه المنية، واستمر في تصوير مجتمعنا على هذه الطريقة لأتى بالعجب العجاب، ولأصاب من النجاح أكثر مما أصاب في مآسيه التاريخية، ولخلف لنا أدباً مسرحياً رفيعاً في الملهاة، وما كان أحوجنا إلى هذه النماذج العالية.






يتبع:
ولقد عيب على مسرح شوقي عدة أمور...

 

 

__________________

 


لم يكتشف الطغاة بعد سلاسل تكبل العقول... اللورد توماس

نوره عبدالرحمن "سما" غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 
7 9 244 247 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 289 290 291 292