رد: مذكرات أسير كويتي في المعتقلات العراقيه مذكرات أسير (2) الحمد لله وبعد … من مذكراتي حول خطفي كأسير مع مجموعة كبيرة من الكويتيين وغيرهم ، من قبل القوات العراقية أبان احتلال الكويت ، وصلنا في الحلقة الماضية إلى أن أخي أبو عمر الخليفي طلب مني أن أخطب الجمعة في المسجد المجاور لبيته في منطقة الرابية ، وقد وافقت ، وفي ليلة الجمعة ، وقبل أن أنام قضيت وقتا في قراءة كتاب لأبي الحسن الندوي رحمه الله عن سيرة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقرأت فيه أمر خروج الحسين رضي الله عنه وكيف أن ابن عمر وابن عباس طلبوا منه البقاء وعدم الخروج إلى الكوفة ، ورده عليهم . ، استيقظت في الهزيع الأخير من الليل وصليت ما تيسر لي ، ثم خلدت إلى النوم ، وما هي إلا ساعتين واستيقظت على نداء خالي يوقظني للصلاة ، صلينا الفجر وقرأنا وردنا ومع الشروق باشرنا بحلب البقرة وتنظيف مكانها ، ثم لما انتهينا جلست أعمل الفكر في وضع اللمسات الأخيرة على خطبة الجمعة والتي بعنوان مفاهيم إسلامية ، هي عبارة عن شرح لحديث جبريل ، مع بعض الإضافات. لم يكن يجرؤ أحد على استعمال السيارة في ذلك الوقت لأنهم – أعني الجيش العراقي – قد فرضوا حظرا للتجول وبدءوا يعتقلون صاحب كل سيارة لم يغير أرقامه إلى الأرقام العراقية ، عندما هممت بالمغادرة إلى المسجد في المنطقة المجاورة مشيا على الأقدام ، تصدّى لي خالي وحاول جاهدا أن يثنيني عن الذهاب ، وذهبَت محاولتُه أدراج الرياح ، حاول خالي الثاني وذكرني بإلقائهم القبض عليه قبل يومين دون سببٍ يُذكر ولم يتركوه إلا لأن أمه كبيرة السن رحمها الله كانت معه ، وكذا حاول أبو يوسف ، لكن باءت جميع المحاولات بالفشل وكأنني أساق إلى قدر الله سوقا فيما قَدّر ، وإنه لقدَرُ الله وما شاء فعل ، وذكرتُ لهم قول ابن عباس رضي الله عنهما : إذا وقع القدر ذهب الحذر وعمي البصر وذكرت لهم ما قاله الإمام البنا رحمه الله لحرمه عندما حاولت ثنيه عن الخروج يوم مقتله متوجّسة خيفة بأن أمرا ما سيحدث فتلا عليها قول الله تعالى : " قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " ، وهممت بالخروج متوكلا على الله تاليا قوله تعالى : " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " . قال لي خالي الأصغر ، إن كنت لابد فاعلا فلا تمر بجانب المخفر الذي هو في طريقي أصلا ، لكن استدر عنه ، فإنهم بدأوا يعتقلون كل شابٍ تقع أعينهم عليه كما تعلم ، قلت إن شاء الله سوف أفعل . مضيتُ في طريقي إلى المسجد وأنا أتحرّى الطريق فلا أخرج من طريقٍ إلى آخر حتى أنظر وأتحسس عدم وجود جنود أو سيارة عسكرية ، حتى مررت بمحاذاة مسجد جمعية الرابية ، وأكملت طريقي مقررا الإلتفاف حول المخفر ، ولكن ………… !!!! لمحني من بعيد جنديان مسلحان بملابس الخاكي ، وهي ملابس اشتهر بها أفراد الاستخبارات ، اتجها على التو نحوي ، وهنا اختمرت الأفكار ودارت الخطط وتمخضت عن رأي – إذا خفت من شيء فاذهب إليه – وكنت قد قرأت في كتاب لمؤلف بعثي من مصر اسمه اسكندر عن قصة حياة صدام ، وفيه أنه لما كان هاربا ومتخفيا بزي بدوي مر بجانب المخفر في وقت حظر التجول ، وقال إن هربت شَكّوا بي ، فمَرّ بجانب المخفر تماما وسلّم على شرطة البوابة فقالوا لو كان عنده شيء لما تجرأ بالاقتراب من المخفر ، فقلت في نفسي : لم لا آخذ الحكمة من أفواه المجانين ، ففعلت لكن تبين لي بعدها أنه : إذا كان الغراب دليل قوم ٍ – سيهديهم إلى دار الخرابِ ظللنا نمشي باتجاه بعض وهم يتظاهرون أنهم غير ءابهين بي لكن ما إن مروا بجانبي إلا والتفوا عليّ فجأةً ورفعوا السلاح في وجهي وصاح أحدُهم : " هلا هلا … هلا عيني وجاينا بَعَد ، قابل تلقي بنَفسَك للتهلكة ، احنا ده نبعث دوريات تجيب الكويتيين ، إنتَ جاينا برجلَك ، والله زِيَن " ، ثم سألوا سؤالهم المعتاد لاختبار الكويتيين ، ما هي جنسيتك ؟ فوقَعتُ بين النارين ، إن قلت كويتي فكأنما شَتَمتُهم ، وتعرّضتُ لما تعرّضت له في بغداد عندما أجبتُ صاحبَ التاكسي هذا الجواب فتبين أنه مخبر ، فأسمَعَنِي من سمج وسقَط الكلام ما أستحي أن أتذكّرَه فضلا عن أن أرويه ، وما سلّمني من شره إلا الله ثم ما أعطيتُه من مال مقابل تركي وشأني ، وإن قلتُ عراقي لا أدري ما سيفعلون ، فقلت وما حيلة المضطر إلا رُكوبُها ، فأجبتُهم : عراقي ، طلبوا الهوية && نظروا فإذا البطاقة المدنية تشير إلى أنني كويتي ، فأخذوا يزبدون ويرعدون وتحادثوا فيما بينهم بكلامٍ فهمتُ منه أنهم يعتقدون أنني أسخرُ من لهجتهم ، وطلبوا مني مرافقتهم إلى المخفر تحت تهديد السلاح ، فقلت لماذا ؟ وهل فعلتُ شيئاً ؟ فأصابوني بالغثيان من نكتتهم السمجة " فد خَمِس دَقايق " وأثناء سيرنا أخذوا يعيدون كلامهم المتضمن غضبهم واستياءهم الشديد عليّ وعلى سخريتي منهم – زعموا – وسأل أحدُهُم صاحبَه قائلا : " هذا ده يتمسخر بالشعب العراقي العظيم ، هسّه- يعني الان – شنسوّي بيه ؟ فرد الآخر : " هذا ما نذبّه – يعني نرميه – بالحجِز ، هذا نودّيه – يعني نذهب به – للمفوّض ، وما إن التقطَت أذناي كلمة المفوّض حتى ظننتُ أنه ما بيني وبين الموت إلا دقائق معدودة ، وظننت أن المفوّض معناها المفوّض بالإعدام ، وخلال ثوانٍ – هي فترةُ المشيِ فيما تبقّى بيننا وبين ذلك المفوّض – أخذتُ أستعرض شريط حياتي ، وذكرتُ أشياء كثيرة ، وكثيرة .وأحداث سريعة مرت كلقطات خاطفة .. .. … ودخلنا المخفر ، ثم ما إن خرجنا من الباب الثاني للمخفر إلا وأخذ الإثنان الأشاوس !! يصرخون ويولولون ويستصرخون ضمير قائدهم المفوّض ويطالبونه بأن يؤدبني ويجعلني عبرةً للمعتبرين ، وتساءلتُ في نفسي : ما الجرمُ الذي ارتكبتُه حتى أستحق كل هذا . وعلى كل حال فإنني دعوت بدعاء الحسن البصري وأخذتُ أشيرُ من بعيد مبدياً استغرابي من كلامهما لكن دون أن أنبس ببنت شفه ، فبادرني سائلا : هل أنت أطرم ؟ قلت : لا أستغفر الله لم أقل إني أطرم ، ولما وصلت عنده أخذ ينظر إلي بشزر متأمّلا وقد ملأ عينه مني ينتظر مني ارتباكا أو تأثرا ، وخيّم صمتٌ طويل ثم سألني : هل تستطيع أن تحارب ؟ فقلت : وكيف لي أن أحارب وأنا مدني ولست عسكريا ، قال : ارموه بالحجز ، قلت : لماذا ما هي تهمتي ؟ سألته….. لكن لم يرد ، وأخذني الجنود إلى الحجز ، وفي الطريق ظللت أسأل الجندي الذي بجانبي عن تهمتي لكن دون طائل وعند باب الزنزانة ألححت عليه فقال : أوامر . دخلت الحجز في مخفر الرابية فإذا هو غرفة 4 أمتارفي متر ونصف تقريبا ، وما جاء العصر حتى أصبح إجمالي العدد اثني عشر سجينا أو قل أسيرا ، وبعد وجوم وهدوء ، بدأت الحديث معهم مطَمئِنا بذكر بعض الآيات والأحاديث ، فشكروني وأطروا على اثنين من النزلاء ممن سبقوني حيث كانوا قد حدثوهم بحديث مشابه ، تعرّفت إليهم وتحدثت إلى أحدهم واسمه طارق ، فعلمتُ انه وزميله من جماعة التبليغ من منطقة الفنطاس ، وقد خرجوا في سبيل الله في هذا الوقت العصيب ، للدعوة وبقوا في المسجد يومين ، وقد أتى الجيش العراقي وأخذهم من المسجد ، ثم انبرى أحد المساجين معنا قائلا : صدقوا بالله يا جماعة الخير ، أنا منذ سبعة أشهر لم أر الشارع ، حيث أنني كنت مطلوبا ، وبقيت طوال هذه المدة في البيت أو في فناء المنزل وهو من سكان قطعة 4 في الرابية وهي بيوت واسعة تبلغ مساحتها حوالي 1000متر مربع وعادة ما يكون فيها فناء ( نحن نسميه في الكويت حوش ) كبير ، أسأل الله أن يبارك لهم فيما أعطى ، قال: وفي هذا اليوم خرجت البنت الصغيرة من باب المنزل إلى الخارج فخرجتُ خلفها لأرجعها قال : فرأيت الحي وأخذني الشوق إلى الجلوس خارج المنزل فجلست هنيهة إذا بي أفاجأ بسيارة مليئة بالجنود فقالوا : تعال معنا وأخذوني إلى هنا ، قلت حقا : إذا وقع القدر ذهب الحذر وعمي البصر ، وأخذ كل منا يتحدث عن كيفية اعتقاله فقال إبراهيم الخليفة بسكون الياء : أما أنا فطرقوا علي الباب فخرجتُ لهم فقالوا : تعال معنا " فد خمس دقايق " وجاءوا بي إلى هنا وقال عادل عافت : أخذوني من الشارع وآخرون قالوا : أنهم أخذوا من المسجد ذلك بينما كان أحدنا منزويا لا يطيق الكلام إلى أحد ، حاولتُ أن أكلّمه لكنه من شدة الذهول كان ينظر إلي وقد ملأ الشرود أركان مظهره ، فكل شيء فيه كان يدل على مصيبةٍ خبيئة تحت ثوبٍ من الحزن والصدمة ، ألححتُ عليه أن يرد علي وشارك الآخرون وأنا خلال ذلك أحاول طمأنته ، إذا به فجأةً ينتفض كالأسد يزأر في وجوهنا قائلاً : " يا جماعة الخييييييير أنتو ما تدرون اللي فيني كافيني ، آنا خذوني من السيارة في الشارع عند الإشارة وزوجتي تطلق وآنا موديها مستشفى الولادة ، خذوني وهي بالسيارة بروحها ما أدري ألحين شنو مصيرها ، واعيالي بروحهم بالبيت قافلين عليهم ، زين لحّد يكلمني ألحين " . وأحسسنا أنه فض ما في قلبه ولربما ارتاح ، وبعد قليل جلست بجانبه وأمسكت بكفّه وشددتُ عليه قائلاً :الله موجود فقال : ونعم بالله . أملي بالله أرجوك ادع معي وبعد برهة فتح محفظته وفيها صور أولاده الصغار وعرّفني عليهم . علمت بعد حين بعد عودتي من الأسر (أخبرني بذلك جاره الأخ العزيز عدنان عثمان الأنصاري) أن أسرة فلسطينية وجدت زوجته وحدها في السيارة تعاني فنقلوها إلى المستشفى ، وأن جارتهم العراقية فطنت لتأخرهم فقامت بمساعدة زوجها بكسر باب منزل جارهم وإخراج الأطفال وإيوائهم عندها بالمنزل ، ثم جاءت تسأل عنه بالمخفر فأخرجوه هو وصاحبنا الذي لم يخرج من بيته سبعة أشهر حيث جاءت إحدى قريباته وهي من أصل عراقي وطلبت من المخفر أن يخرجوه ففعلوا ، وكانت قد أحضرت له غداءً أشركنا فيه جزاه الله خيرا ، وهذا يفسّر سبب عدم أخذهم معنا إلى سجن الأحداث بمنطقة الفردوس ، أثناء تواجدنا بمخفر الرابية أطل علينا أحد الجنود وأعطانا بعض الخبز والماء وقال : شباب ما عليه ، شدة وتزول . وحدث أن حاول الجنود عمل تمثيلية لإرهابنا ، حيث أحضروا أحدهم بزي كويتي وكانوا يمثّلون أنهم يضربونه قائلين : الأخ طلع مقاومة ، ونحن لا نرى من داخل الزنزانة إلا الأقدام ، لكنه أثناء ضربه ضحك فقالوا : لعنة عليك خرّبتها وفي مخفر الدسمة أو بنيد القار فعلوا تمثيلية مشابهة لإرهاب المساجين إذ أخذوا أحدهم وقالوا أنهم سيقتلونه ، وأخذوه فعلا وأطلقوا رصاصة بجانب رأسه ، فظن أصحابُه الذين كانوا معه في الزنزانة أنه قد قُتِل لكنهم تفاجئوا به أمامهم في سجن الفردوس . وبمناسبة الحديث عن كيفية الإعتقال دعني أذكر بعض ما سمعته من هذا ، عزام من شباب الجهراء قال : فتحت باب البيت لأطل برأسي أنظر البقالة هل هي مفتوحة ، فشاهدني جندي عراقي كان مارا بالشارع وخلفة سيارة تمشي فناداني وخرج خلفي ابن خالتي فأخذونا ، الشيخ خالد القصار كان يوصي أخاه التوأم فوزي ألا يخرج لأن العراقيين بدءوا يأخذون كل من يجدونه في الخارج ، ورد عليه فوزي بمثل التحذير نفسه ، لكن قدر الله جعل أحد أقربائهم وهو فار من الجنود العراقيين يدخل في بيتهم إذا بالجنود يدخلون ويجدون خالد وفوزي في وجوههم فيأخذونهم ، آخر كان نائما ملتحفا في بيته فاستيقظ على ضربة بسطار ( حذاء ) جندي عراقي يوقظه وهو في قعر غرفته في بيته ، فظن أن الأمر لا يعدو كونه حُلما مزعجا ، فعاد والتحف لينام ليستيقظ على الأخت الكبرى للضربة الأولى "فنقر يفزز فيل " . وهكذا إذا وقع القدر ذهب الحذر وعمي البصر . كيف انتقلنا إلى سجن الأحداث وماذا حدث هناك ، هذا ما سنعرفه في المرة القادمة .
|