رد: مذكرات أسير كويتي في المعتقلات العراقيه في سجن الأحداث بمنطقة الفردوس
الحمد لله وبعد …
جاءوا بشخص ٍ كانوا قد ألقوا القبض عليه ، لكن ظهرت في
وجهه الكدمات ، حيث أنهم أوسعوه ضربا وركلا لأنه حاول الهرب
وقاومهم ، أدخله الجندي بالركل والرفس وهو يسأله عن جنسيته
فكان يرد عليه " اللي تبي هندي مصري " بعد أن هدأ الوضع قال لنا : السلام عليكم ، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . ارتحت له وسألته : ما اسمك قال : طه ، وقلت له : سلامات ما تشوف شر ، فقال : نعم عندما رأيتهم حاولت الهرب لكن لم أنجح ، والحمد لله
على كل حال .
سألتُه فيما بعد في سجن الفردوس وفي الموصل عن حكايته فكان يقول متنهدا : قصتي قصة حزينة لا أريد أن أوجع دماغك
بها . وأنت يكفيك ما فيك .
عرفتُ فيما بعد بعد أن خرجتُ من الأسر ، من هو طه وما قصته ،
أخبرني بها الشاب الصالح عبدالعزيز الحربي رحمه الله الذي
حضر يوما خطبة الشيخ احمد القطان عن الجهاد في أفغانستان ،
وتصوروا معي كيف كانت مسارعته وإقباله على الجهاد ، انطلق
الرجل من فوره بعد صلاة الجمعة مباشرة إلى المطار وهناك سحب
من رصيده وحجز إلى باكستان ، ووجد الحجز بعد ساعات ، انتظر
إلى ما قبل دخوله الطائرة واتصل بأهله هاتفيا وأخبرهم بخبره من
العزم على الجهاد في أفغانستان ، وبقي في أفغانستان مدة وبعد
تحريرها مباشرة رجع ، فكان زميلي في العمل رحمه الله رحمة
واسعة .
عبدالعزيز هذا رحمه الله هو الذي أخبرني بقصة طه ، إن طه هو
شاب من شباب العراق الصالح السائر على المنهج السني السلفي
، وقد أُحضر إلى الكويت رغماً عنه ضمن قوات الجيش الشعبي ،
ولما رأى الظلم بعينه قرر الهرب من الجيش ، وعاش في مساجد
الرابية هو ومعه إثنان من العسكر الهاربين من الجيش ، من
الشباب الطيب أحدهما ضابط والآخر جندي ، يبيتون في مسجد
الظبيان يوما وفي مسجد النجدي يوما آخر وأحيانا في ديوان
الشباب الكويتي من رواد المساجد الذين تعاطفوا معهم ومنهم
عبدالعزيز ، قال عبدالعزيز : ودرسنا كتاب التوحيد للامام محمد بن عبدالوهاب
رحمه الله على يد الأخ طه ، ودرّسنا علم تجويد قراءة القرآن
الكريم وتطبيقه ، وكان يُلقي لنا الدروس ولذلك أحببناه وأصبح
واحدا منا ، وبعد عملية تبادل الأسرى في نهاية مطاف الأسر ،
طلب اللجوء لدى المملكةالعربية السعودية فوضعوه ضمن
العراقيين اللاجئين والعسكر الذين رفضوا العودة إلى العراق ،
وضعوهم في مخيمات خاصة قرب تبوك على ما أذكر . بقي أن
تعرف أن عبدالعزيز رحمه الله كان يزور طه هناك بين حين وآخر
، وفي أحد زياراته تعرض لحادث في الطريق ومات رحمه الله ،
وتذكرت الحديث النبوي في صحيح الجامع " من خرج في سبيل
الله فوقصته دابته فهو شهيد " وقلتُ إن عبدالعزيز رحمه الله طلب
منزلة الشهادة في أفغانستان ولعل الله أن يجعل له هذه المنزلة
حيث طلبها بصدق ، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا . أسأل
الله أن يحفظ أخانا طه ويوفقه حيث كان . في سجن مخفر الرابية : في سجن مخفر الرابية جاءنا ضابط برتبة نقيب ، وعرف بعض
المساجين معنا من الشباب الكويتي الذي كان يعمل في الجمعية
التعاونية ، فأخذ يعاتبهم على الخروج في هذا الوقت الذي عرفوا
فيه أن كل من يخرج يتم إلقاء القبض عليه ، وأشعرنا بتعاطفه
وأنه يريد إخراجنا ، وقام بخطوة تؤكد ذلك ، حيث طلب جميع
هوياتنا وسلمنا إياها عدا أربعة أبقاهم ولم يسلمهم هوياتهم علمت
فيما بعد أنه أطلق سراحهم ، وقال : تعالوا اخرجوا ،
فخرجنا ونحن تسعة أشخاص هو أمامنا ومعه جندي مسلح وكذا
كان من ورائنا جندي آخر ، ولكن ما إن أصبحنا خارج المخفر
وأراد كل منا أن يذهب في حال سبيله إلا وقال هذا الهابط – أعني الضابط – " : وين وين تعال انت وياه
" ، وأخذونا بسيارة جمس مسروقة وذهبوا بنا إلى سجن الأحداث
بمنطقة الفردوس – وعلى ذكر اسم هذه المنطقة فقد طالب بعض
أعضاء مجلس الأمة الكويتي بتغيير اسم هذه المنطقة – وصلنا
وهناك في سجن الأحداث بمنطقة الفردوس ، وجدت الكويت كلها
– صيغة مبالغة – أعني وجدت شبابا بالمئات من مختلف مناطق
الكويت هذا تسأله عن منطقته يقول الأحمدي وذاك من
الصليبيخات وهذا من الشِّعب وذاك من كذا ، فقلتُ في نفسي رحم
الله الخنساء القائلة :
ولولا كثرة الباكين حولي -على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكين مثل أخي ولكن – أسلي النفس عنه بالتأسي
وتذكرت قول ابن القيم رحمه الله : وفي كل وادٍ بنو سعد .
يعني في كل مكان مصابون ، سمعت هذه الأبيات عبر الإذاعة في
محاضرة الشيخ الجليل عائض القرني حفظه الله أثناء الاحتلال
الغاشم وحفظتها منه حيث سجلتها في حينها.
في سجن الأحداث كانت الفوضى ، وبقينا هناك يومين لم يبقونا في
عنبر واحدٍ لمدة تزيد عن ساعتين طوال اليومين فكانوا يتنقلون بنا
بين العنابر ينادون أسماءنا بشكل عشوائي مرة بعد مرة ، ويا ويل
من لا يستجيب ، وعليه كان النوم متعذرا وفي أحسن الأحوال
متقطعا ،
هذا إذا استطاع أحد أن ينام على الكاشي في البرد القارس
ثم لما تكرر هذا بشكل سمج أصبح بعضنا وهو أقل القليل لا يرد
عليهم وأحيانا تفوت عليهم ولا يميزون من كثرة الأعداد ، هذا
ونحن نسمع ونشاهد أحيانا القصف الجوي على أشده وكان ذلك
قبل التحرير بيوم ، مر علينا ونحن جلوس حسين المفيدي ، وكنا
وقتها صامتين ، فقال لنا بدلا من سكوتكم العنوا صدام ، فقلت ،
نحن في بلاء ونحن أحوج إلى التسبيح والإستغفار .
كانت معاملة العراقيين قاسية جدا وشرسة ، وكانوا يقولون
استعدوا بأي لحظة سننقلكم إلى العراق ، وقد أصابنا الإرهاق
والتعب من كثرة التنقل ، وكنا نخشى أن نتفرّق بعد أن كونا
مجموعة لازمنا بعضنا بعضا الشيخ ناصر الطليحي والأخوة
الأفاضل فوزي المانع من شباب الشعب ونسيبه أبومصعب من
سكان الخالدية وأبو حمد العطار من سكان بيان ويحيى الحمادي
وعلي الراشد من شباب العديلية ، وكلهم من الشباب الملتزم بحمد
الله ،
وكنت قبل هذه المجموعة قد اتفقنا ونحن مجموعة من خمسة
شباب أن نكون سويةً ولا نفترق ، أذكر منهم شاب اسمه عادل
عافت والأخ طارق التبليغي وآخر معه وإثنان نسيتهم ، ثم قرر
عادل مفارقتنا عندما لقي بعض أصدقائه في سجن الفردوس
ووافقه آخرون فقلتُ لنجمع جميع ما لدينا من مال ثم نقسّمه
سويّةً ،
وكنت قد أسررتُ إلى كل واحدٍ منهم من قبل سائلاً عما يملكه ،
وعلمتُ أنّي وقتها أكثرهم مالاً ، فقد كان بجيبي 500 دينار عراقي
، كنت أحملها دائما تحسّبا لمثل هذه الظروف ،
وافترقنا وعوضني الله خيرا بلقياي للشيخ ناصر الطليحي حفظه
الله وهو من خريجي كلية الشريعة بالرياض ، ثم التقينا بباقي
الإخوة المحترمين الذين ذكرتُهم أثناء ندائهم حان أذان المغرب ،
فكلمني أحد الأسرى ممن بدا عليه سيما الصلاح وهو من أسرة آل
الأذينة الكرام من سكان السالمية ، قال : متى الأذان ؟ قلت : حان الأذان ، فاستقبل القبلة وأذّن وأثناء أذانه اجتمع
الأسرى حوله للصلاة فأقام الصلاة مباشرة فقدمني للصلاة ،
وتيممنا حيث لا ماء عندنا واصطف الأسرى وشرعنا في الصلاة
والجنود ينادون في الأسماء مما أثار هياجهم وغضبهم وظلوا
ينادون الأسماء ، وقد قرأت في هذه الصلاة قوله تعالى : " أليس
الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له
من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام "
وقرأت في الركعة الثانية قوله تعالى : " وما لنا ألا نتوكل على الله
وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما ءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل
المؤمنون "
ويبدو أن هذه الآيات أثارت حفيظة الجنود فبعد الصلاة مباشرة
جاء الجنود من الخلف يريدون ضربي لكن الأسرى جزاهم الله
خيرا أحاطوا بي وضعت من بينهم فأمسى الجنود يضربون
عشوائيا كل من تطاله عصيهم وآخرون بيدهم السلاح خلف من
يضربون ، واستمر الوضع على هذا الحال حتى توقفوا وذهبوا ،
وعاد بعد قليل أحد الجنود وبيده عصا غليظة يضرب بها هذا وذاك
ويلوّح بوجه هذا حتى وصل إلى أحد الأشاوس ممن يصح أن يقال
عنه " زِلِم أو ذيب " بمعنى أنه شجاع شجاعة ً جنونية ، كان
الجندي يمشي ويضرب وترى الأفواج أمامه تتفتح كما تتفتح
الأمواج أمام القارب السائر في البحر لكن صاحبنا لم يتحرك
فحاول الجندي ان يستفزه بتحريك العصا أمام وجهه فلما لامسته
أمسك بها ودفع بها في وجه الجندي فثار الجندي وأخذ يزعد
ويربد ويصرخ ويثير الزوابع الكلامية ويولول بالويل والثبور ،
كل هذا وصاحبنا لم تتحرك رجليه عن مكانه ، وهو ينظر إليه
بشزر وكأن شيئا لا يحدث ،
ويقول له : اسمع يا الرخلة ما يطيّر الراس إلا اللي ركّبه " وهو
يضرب على رقبته
بكل ثبات ، ووالله ذكرني هدوءه المثير للإستغراب مع ثباته وقوة
منطقه بموقف العز بن عبدالسلام رحمه الله أمام الملك في مصر ،
اشتاط الجندي غضبا ولم يكن مسلّحا حينها وقال له : هسه أجيب الكلاش وأفرّغ مخزنين بكرشتك يا ... .. "
وذهب الجندي مسرعا ، وحاولنا حينها جاهدين أن نبتعد بصاحبنا
عن هذا المكان ونذهب به بعيدا وسط جموع الأسرى ، وكان
المكان يعج بالأسرى ويضيق بهم وكانت غرفا كثيرة وزنازين
مفتوحة ، لكنه رفض بشدة أن يتحرك من مكانه ، وحاولنا إبعاده
بالقوة فلم نستطع حيث كان عظيم البنية متوسط الطول يلبس
طاقيته واضعا غترته على كتفه ، حاول البعض استثارته ليبتعد فلم
يفلح، قال له البعض : لا تعم على غيرك ، قال : محّد له شغل ، يعني لا شأن لأحدٍ بي .
وما هي إلا دقائق قليلة إلا والجندي قادمٌ يتطاير الشرر من عينيه
وينادي بأعلى صوته من بعيد وين هذا الفتوة الـ شايف نفسه ،
فلما وصل إليه رفع في وجهه السلاح فلم يهتم ، فسحب الأقسام ،
ولم يهتم ، لكن شعرتُ بشيءٍ من الارتباك بدا في وجهه مع شيء
من التمتمات رأيت شفتيه يتحركان بها ، وقلت في نفسي إنه ينطق
بالشهادتين ، لكن الجندي اكتفى بالصراخ وضربه بالسلاح على
كتفه فلم يرد عليه وانصرف الجندي ، وكأنه اكتفى بضربة الكتف
هذه ، لكنني أوقن أن الله سبحانه كان مع هذا الأسير الذي رفض
أن يذكر لنا اسمه بعد الحادثة ، ولم يعرفه أحد منا .
قررنا أن نذهب مع كل نداء سويةً حتى لا نفترق ، حيث تبين لنا
أنهم لا يدققون في الأسماء المنتقلة من هذا العنبر أو ذاك وإنما كل
همهم إزعاجنا وإتعابنا لئلا نرتاح ويفكر أحدنا بالهرب أو التمرد ،
وفي هزيع الليل الأخير وفي إحدى المرات التي كانوا ينادون
بأسمائنا فيها رمقت من بعيد الأخوين أبو يوسف يعقوب يوسف
الأنصاري والأخ أبوحمود عبدالعزيز الجيران ، وهم من من
المجموعة التي أطلقت سراحهم المعارضة الشعبية في البصرة
وأوصلتهم إلى الحدود الكويتية وعادوا مشيا على الأقدام .
أخذونا في باصات حوالي تسعة باصات كبيرة تمشي الهوينى
مطفأة أنوارها لئلا نتعرض للقصف حيث كانت الحرب والقصف
الجوي في أوجه ، يتقدمنا ضابط برتبة مقدّم يقود سيارة
متسوبيشي جالانت بيضاء ، وكان الوحيد الذي يشعل أنوار
سيارته ، أما الباصات فممنوع حتى على الركاب إشعال أي ضوء ،
كل هذا خوفا من قصف الطائرات إذ لا زالت حرب التحرير
مستعرة والقصف والنار والشرر يتطاير في أرجاء الكويت .
وأذكر أن أحد الأسرى في الطريق أشعل سيجارة ً فلقي من السب
ما يستحي الإنسان لو سمعه وهو لوحده ، وبالطبع أطفأ السيجارة
رغما عنه ، كان ترتيب باصنا هو الثاني في المسيرة ، وكانت
الباصات تسير ببطء خلف بعضها البعض .
متى وصلنا البصرة وكم بقينا هناك وماذا حدث وكيف ذهبنا إلى
بغداد هذا ما سأتحدث عنه في الحلقة القادمة .
|