بروفايل / «الرسالة» لمصطفى العقاد شكّل نقطة مهمة في مسيرته أنطوني كوين... «أسد الصحراء» زأر في هوليوود كوين في مشهد من فيلم «الرسالة» بنسخته الأجنبية
| إعداد رشا فكري |
حفل الزمان الجميل بابدعات عمالقة الفن والغناء في عالمنا العربي الى جانب نجوم العالم الغربي فقدموا الكثير خلال مسيرتهم التي كانت في بعض الأحيان مليئة بالمطبات والعثرات. منهم من رحل عن هذه الدنيا مخلفاً وراءه فنّه فقط، وآخرون ما زالوا ينبضون عطاء الى يومنا الحالي.
البعض من جيل اليوم نسي ابداعات هؤلاء العمالقة وتجاهلوا مسيرة حافلة من أعمال تركتها بصمة قوية، وفي المقابل يستذكر آخرون عطاءات نجوم الأمس من خلال الاستمتاع بأعمالهم الغنائية أو التمثيلية، وقراءة كل ما يخصّ حياتهم الفنية أو الشخصية.
وفي زاوية «بروفايل» نبحر في بحار هؤلاء النجوم ونتوقف معهم ابتداء من بداياتهم الى آخر مرحلة وصلوا اليها، متدرجين في أهم ما قدّموه من أعمال مازالت راسخة في مسيرة الفن... وفي بروفايل اليوم نستذكر أهم محطات الممثل العالمي الراحل انطوني كوين:
كانت لأصول الممثل أنطوني كوين - الذي ولد في 21 أبريل 1915 في شيواوا المكسيكية من أب إيرلندي وأم مكسيكية، دور كبير في أدائه للكثير من الشخصيات المكسيكية والإيرلندية وغيرها، فقد كان يتقن لغات عدة وشارك طوال مسيرته السينمائية في بطولة الكثير من الأفلام من أشهرها فيلم «الرسالة» وفيلم «أسد الصحراء» وفيلم «لورنس العرب»، وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد مرتين العام 1952 عن دوره في فيلم «فيفا زاباتا!» وعام 1956 عن دوره في فيلم «Lust for Life».
وقدم العديد من الأفلام المميزة التي شكلت علامة فارقة في السينما العالمية، وبرز أداؤه في تجسيد الشخصيات التاريخية من خلال أدائه التمثيلي المتمكن وملامح وجهه الصارمة الواثقة، فكان يؤدي الشخصيات بثبات ومهارة وأداء تمثيلي متقن، وكانت بداياته من خلال أدوار بسيطة في عدد من الأفلام، ولكن بالتأكيد كانت النهاية مختلفة بهذا الرصيد الهائل الذي تركه من الأفلام والأعمال المميزة والمتنوعة ما بين تاريخية واجتماعية، حربية، كوميدية والتي يقل أن تجد لدى ممثل واحد هذا الكم الهائل من التنوع والعطاء الفني.
وشهدت فترة الخمسينيات الانطلاقة الحقيقية لكوين في هوليوود، ففي العام 1951 مثل في الفيلم الدرامي «The Brave Bulls»، وفي العام 1952 كانت الفرصة التي انتظرها، عندما شارك في «فيفا زاباتا!» ولعب دور أوفيميو زاباتا شقيق الرجل الثوري المكسيكي الشهير اميليانو الذي أدى دوره مارلون براندو، لينال اعتراف الجمهور بقدرته وموهبته الفنية ويحصل على جائزة أوسكار عن أفضل دور ثانوي وترشح الفيلم لخمس جوائز أوسكار، ليحقق كوين بعد ذلك سلسلة طويلة من النجاحات، لا سيما مع فيلم «لا سترادا» لفيديريكو فليني. وفي السنة نفسها لعب دور كازيمودو في «نوتردام دو باري» المقتبس عن رواية فيكتور هوجو «أحدب نوتردام» ثم «لورنس العرب» و«زوربا اليوناني» و«إعصار في جامايكا» و«الساعة الخامسة والعشرون». ولم يخف كوين بأن الجودة ليست دائماً معيار خياراته. وكان يردد أنه يلعب أحياناً أدواراً لكسب المال من أجل عائلته، لأنهم يحبون الراحة وذلك يكلف غالياً. أما هو فيمكنه العيش ببنطالين فقط.
ومرّ العام 1953 بأفلام مغامرات عادية جداً حتى أخذ بطولة أول فيلم له في العام 1954 في الدراما الإيطالية «La Strada»، وفي العام 1955 مثل ثلاثة أفلام، أولها كان الجريمة «The Naked Street» و«Seven Cities of Gold» مع Richard Egan، وآخرها كان «The Magnificent Matador».
وكان الموعد الثاني لأنطوني كوين مع الأوسكار في العام 1956 في فيلم حياة الرسام الفرنسي فينسنت فان غوخ «Lust for Life» الذي مثل دوره الممثل المعتزل كيرك دوغلاس، أما دور كوين في الفيلم فكان صديق فينسنيت الرسام بول غوغين صاحب المواقف الحازمة والذي أثر في مشاعر صديقه جداً، وترشح الفيلم لأربع جوائز أوسكار وفاز كوين بجائزته كما كان متوقعاً، وأخذ بطولة الفيلم الغربي «Man from Del Rio» مع المخرج التشيكي «Harry Horner»، ولعب دور رجل مكسيكي يحمي بلدته من قطاع الطرق، ورشح العام 1957 لأوسكار أفضل ممثل في فيلم الدراما «Wild is the Wind» حيث لعب كوين دور رجل يتزوج أخت زوجته بعد وفاة هذه الأخيرة، لكنها تقع في حب أخيه، دراما غريبة قوية، وترشح لثلاثة أوسكارات منها أفضل ممثل لأنطوني كوين.
وتبيّن للكثيرين أن أنطوني كوين يتقن أدوار الأفلام الغربية كثيراً لهذا لم يتركها، فمثل في العام نفسه فيلم «The Ride Back». وفي العام 1958 أخرج كوين فيلمه الوحيد وكان حربياً تاريخياً بعنوانThe» Buccaneer». وفي العام 1959 مثل ثلاثة أفلام «Warlock» وبعده فيلم «Savage Innocents» وأخيراً في «Last Train from Gun Hill» وفي العام 1960 فيلم «Heller in Pink Tights» والثاني «Portrait in Black». وفي العام 1961 شارك كوين في أحد أفضل الأفلام الحربية في تلك الفترة وهو «The Guns of Navarone» ولعب دور الكولونيل أندري ستافورس وترشح الفيلم لسبعة أوسكارات.
في العام 1962 شارك كوين في بطولة فيلم «لورنس العرب» الذي أخرجة ديفيد لين، والذي يعتبره الكثير من النقاد أحد أفضل أفلام الحروب والسير الشخصية، وهو مقتبس من كتابات بطل القصة الحقيقية توماس إدوارد لورنس واتفق الجميع على أن العمل جاء ساحراً في تفاصيل مذهلة ولمسات دقيقة صعبة. ولعب كوين دور عودة أبوتايه فيه. وترشح الفيلم لعشر جوائز أوسكار وفاز بسبع جوائز منها، ولم ينته كوين من هذا العام إلا بعد أن قدم الفيلم الديني «Barabbas» والرياضي «Requiem for a Heavyweight» في العام 1964 وشارك في بطولة فيلم «Behold a Pal Horse»، ومن ثم الفيلم الدرامي الأوروبي الذي أنتجه أيضاً «The Visit» مع إنغريد بيرغمان. وأخذ كوين دور اليوناني أليكسس زوربا في رائعته «زوربا اليوناني» وترشح الفيلم لسبع جوائز أوسكار. وكانت المفاجأة المذهلة هي عدم ترشح كوين للأوسكار.
وفي 1965 مثل كوين في فيلمي المغامرة «A High Wind in Jamaica» و«Marco the Magnificent». ولم يقدم في العام 1966 إلا «Lost Command». وفي العام 1967 صوّر في فرنسا وإيطاليا الفيلم الدرامي الكوميدي» The 25th Hour». ثم عاد إلى أميركا ليقدم الجريمة الكوميدية «The Happening». وأنهى العام في «The Rover». وقدم «The Shoes of the Fisherman» في 1968 وترشح الفيلم لأوسكارين.
رأي النقاد
أحب أنطوني كوين التنوع البيئي والعرقي في أداء واختيار شخصياته على الدوام، فمن دور قرصان كاريبي في فيلم «ريح في جامايكا» وضابط فرنسي في «الوصية الضائعة» إلى فلاح روماني في «الساعة الخامسة والعشرون»، وصولاً إلى الشخصيات العربية التي حققت له نجاحاً منقطع النظير في العالم والعربي بشكل خاص.
لعب أنطوني كوين دور العربي في فيلم «الطريق إلى مراكش» وفيلم «سندباد»، ولكن هذين الفيلمين قدما صورة سيئة عن العربي والعرب على أنه جاهل ومتخلّف ويثير الضحك. ولكن أنطوني كوين انتقد الصورة التي قدمتها السينما الأميركية للعرب، واعترف بأنه تورط في أداء شخصيات عربية عبر أفلام سيئة حتى جاءت تجربته في «لورنس العرب».
وبعيداً عن تجربته في فيلمي «الطريق إلى مراكش» و«سندباد»، يمكن القول إن أول لقاء جدي لأنطوني كوين مع شخصية عربية كان في العام 1962 حين قدم شخصية شيخ قبيلة الحويطات «عودة أبو تايه» الذي شارك بقواته مع لورنس العرب في احتلال ميناء العقبة في فيلم «لورنس العرب» الذي لعب بطولته الممثل عمر الشريف وأخرجه البريطاني ديفيد لين. ويسعى عبر مشاهد معدودة إلى اختزال ملامح الشخصية مركزاً على إيماءات الوجه وتوقد العينين ولحظات الصمت المعبأة بحدة النظرات في تصوير اندفاعه للتمرد على العثمانيين من جهة وفي تصوير حبه للمال والذهب من جهة أخرى، غير أن أنطوني لم يركز على حب المال والذهب لهذه الشخصية بطريقة سطحية، ولكنه أضفى في أدائه مسحة انفعالية حارة، جعلت الشخصية في حركتها وحيويتها وجنوحها، تعبر عن ملحمية عالم ينهار.
«الرسالة»... قيم مثيرة للإعجاب
ما إن عرض المخرج السوري مصطفى العقاد على أنطوني كوين فيلم «الرسالة» مع كاتب السيناريو الإيرلندي هاري كريغ وأمعن في الشخصية بتقاطيعها الدرامية التي تشكل محوراً رئيساً في نسيج الفيلم، حتى كان كوين يبحر في عوالم تلك الشخصية القوية المثيرة للإعجاب.
إن أداء أنطوني كوين في فيلم «الرسالة» فيه الكثير من الإيمان بقيم الشخصية والسعي الحثيث لفهم دوافع ومرجعيات سلوكها، بيئياً واجتماعياً ودينياً فالشخصية تحمل الكثير من صفات القداسة، ومن الضروري معرفة مرجعيات تلك القداسة، ولعل كل هذه المعطيات راحت تتجلى بوضوح في أداء كوين المرتكز على عنفوان انفعالي متدفق في رسم التكوين الكلي للشخصية لكنه منضبط في إيصال الحالة التعبيرية لكل مشهد بحذر شديد وصدق شديد أيضاً. ولهذا يمكن أن نفهم سر التأثر الذي عبّر عنه كوين تجاه ثقافة شخصية حمزة المتمثلة بالإسلام والذي بدا تأثراً درامياً مشبعاً وقائماً على قدر كبير من الاحترام.
عمر المختار... دور مثالي
كان فيلم «أسد الصحراء» - الذي أنتج العام 1980 عن شخصية الثائر الشهيد عمر المختار الذي قاوم الاحتلال الإيطالي وحكم عليه بالإعدام - عملاً ضخماً بكل المقاييس والذي شارك في بطولته نخبة من النجوم العالميين أمثال ايرين باباس، وأوليفر ريد، وجون غيلغويد بالإضافة إلى الأسطورة أنطوني كوين الذي جسد شخصية عمر المختار.
وقال كوين عن أول لقاء له مع اسم عمر المختار: «كنا نصور فيلم الرسالة في ليبيا وأخرجت بالصدفة عملة ليبية من فئة العشرة دنانير ووجدت عليها صورة المختار التي لم أكن قد تأملتها من قبل، وصرخت: إنني أشبه هذا الرجل حقاً».
وعن أدائه لهذه الشخصية العربية، قال «بالنسبة إليّ كان الدور مثالياً»، وفي تحليل أداء أنطوني كوين لشخصية عمر المختار حفل الفيلم بمباراة رائعة في الأداء وصراعاً متكافئاً بين قمم قدم كل منها أقصى طاقاته الإبداعية، خصوصاً العملاق أنطوني كوين الذي جسد شخصية المختار، فوعاها ودرس خصائصها وعبّر عنها في إيجاز واقتصاد وبلاغة وحنكة. كان فيلم «أسد الصحراء» من إنتاج وإخراج مصطفى العقاد أحد أشهر أفلام أنطوني كوين في مسيرته الفنية ذات الصبغة والنجومية العالمية والأسطورية في عالم هوليوود.
وفاته
توفي في أحد مستشفيات بوسطن بالولايات المتحدة في الثالث من يونيو 2001 عن عمر 86 عاماً وترك وراءه أكثر من 140 فيلماً، ومن أشهر ما قاله «التمثيل بالنسبة إليّ هو الحياة، فأنا أعشق الحياة، لذا أعيش، وأعشق التمثيل، لذا أمثل، ولا بد أن أتدفق بالحيوية».