إنتحارٌ دافــــعه الغرامــ
مع حادثة انتحار أخرى تتمـ في الغابة بدافع من الغرامـ ..
بطلاها هذه المرة الكاتب الياباني (أريسيما تاكيو)-1878-1923 وصديقته (أتانا أكيكو) .
.حيث كان الأديب عَلَمَاً محترما في الوسط الأدبــي ، ورفيق دراسة للإمبراطور الياباني وقتذاك (تايسو) ،
إلا أن الأقدار شاءت له الوقوع في حب الصحفية الشابة ذات الستة والعشرين ربيعا ، والتي بدورها كانت تعاني من حالة وسواس قهري ذي صلة بالإنتحار، بلغت ذروتها عندما قامــ زوجها برفع دعوى قضائية على صديقها (أريسيما تايكو) لمقاضاته للتعدي على حقوقه الأخلاقية.
.فكان أن انتحرا العاشقان معا في الغابة.
ستيفان تسفايغ (1881-1942) كان بارزا مقتدِرا حتى في أوار الحرب ،
حيث كان يعيش في ضاحية من ضواحي (ريو دي جانيرو) مع الفتاة الشابة سكرتيرته السابقة وزوجته اللاحقة (لوتي)،
وفي واقع الحال لمـ يملك الكاتب اللامع أي سبب للإنتحار ، إلا أن سقوط (سنغافورة) في الحرب أوحى إليه أن العالمـ قد سقط نهائيا في أيدي القوى الشريرة ،
فأضحى يائسا وقرر أن يموت..
وكانت زوجته المحبة على استعداد لتقاسمـ التجربة معه ،
فتركا 13 رسالة قبل موتهما مبررين خطوتهما ،
أما لوتي فكتبت -ولمـ يكن في سطورها جلية قوة الإيمان بما تكتب- من أن الموت سيخلص ستيفان ويخلصها هي أيضا لأنها كانت تعاني من (الربو) ..
.وبعدذاك تناول الزوجان كمية من الحبوب المنومة لتنشر لاحقا صورة جسديهما المتعانقين الميتين في كافة الصحف.
حادثة مشابهة جرت أحداثها أربعين عاما بعدذلك في لندن حيث وضعت الحبوب المنومة حدا لحياة الأديب آرثر كوستلر (1906-1983) وزوجته التي كانت في ريعان الصبا (سينثيا) ،
حين وجد الكاتب متكأً على الأريكة وبيده كأس كونياك ، فيما اضطجعت زوجته على الكنبة وإلى جانب منها على المنضدة كأس من الويسكي .
.ومن شق الآلة الكاتبة تدلت ورقة تحوي ملاحظات مكتوبة للخادمة لاستدعاء الشرطة ..أما الكاتب فكان طاعنا في السن ومريضا دون أمل بالشفاء حيث عانى من مرض الرعشان (باركينسون) ..، ومن سرطان الدم (لوكيميا) ومن تأتأة الحديث ، والهلوسة ، والطريف أن التشريح الطبي لجثته قد كشف عن ورمـ خبيث في معدته.
أما (سينتيا) فكانت في ريعان الصبا كما ذكرنا ، تناولت حبوب (الباربيتورات ) المنومة عندما بدأ زوجها يفارق الوعي ، وفي ذلك رد على اتهــامات الصحافة من أن الكاتب الشيخ قد أجبر زوجته على الإنتحار معهـ.
وقد ترك الكاتب وصيةً كتبت قبل وفاته بشهورٍ تسعة تدل على معايشتها لحالة روحانية خاصة حيث كتب فيها :
(أريد أن يعلمـ أصدقائي أنني أتركهمـ في سلامـ ودعة ، ليس بدون أمل ضئيل بحياة أخرى بعد الموت ..حياة أخرى دون حدود للزمان والمكان والمادة خارج أطر مفاهيمنا ..هذا الشعور الذي لا ساحل له هو ما حافظ على تماسكي في اللحظات العسيرة كما يحافظ على تماسكي الآن عند كتابة هذه السطور)
الديناميكية العمرية لانتحار الأدباء الشباب
للإنتحار فــي أوساط المبدعين ديناميكيته العمرية لا تنسجمـ وتلك الديناميكية الكلاسيكية للإنتحار في أوساط العامة من غير المبدعين ،
والتي تسجل ميلا عاليا إليه في ثلاث مراحل حرجة، حيث يصعد الرسم البياني للإنتحار ما بين (15-24) سنة من العمر ثمـ يهبط ليرتفع ثانية عند دنوه من عقد الخمسينيات ، لينخفض من جديد ، وأخيرا يعاود الصعود عند الإقتراب من السبعينيات وبعد ذلك يختفـــي بشكلٍ تامــ.
أما في أوساط الكتاب فهنالك أيضا ثلاث مراحل حـــرجة ، يصعد الخط البياني في مرحلتها الثانية عند الإقتراب من عقد الأربعينيــات .
هنالك مصطلح شائع فـــي الطب النفساني يعرف بـــ( التسممـ الميتافيزيقي) ،
والذي يعني تسميمـ الوعي الشبابي بالتساؤلات الخالدة حول الوجود، بحيث يصبح كل شاب في مقتبل العمــر ونمو العقل والمشاعر فيلسوفا.حيث يشكل التطرف ، والسعي نحو مطلق الكمال ، والخبرة الحياتية غير الناضجة بعد أهمــ الأسباب للإنتحار المبكر في أوساط الشباب.
ولربما يتشكل (التسممـ الميتافيزيقي) بهدف تحديد أعداد المبدعين كنــوعٍ من الفلترة الحمائية الطبيعية تحمي جنسنا البيولوجـــي المعروف ببراغماتيته من الإنطواء والسلبية غير الضرورين.
ويعلمـ الله كمـ بلـــــغ عدد من خسرهمــ الجنس البشري سنويا بسبب الإنتحار في أوساط الجيل الشاب، إذ يكتشف أهل الأدب من فترة لفترة مصطلحا جديدا لأولئك الذين قدمــوا حياتهم قربانا علـــى عتبة الدخـــــول لعالمــ الأدب.
فهذا ما حدث مثلا مـــع:
الكاتب السويسرية (لورا بيرغر)-1921-1943- والتي كتبت عددا من القصص وحكايات الأطفال في حياتها القصيرة ، بيد أنها –وبعد الإنتحار غرقا من أجلِ حبٍّ تعِس- خرجت إلى النور روايتــها (برج التل) ، والذي قدره عاليا (هيرمن هيسة) ليحظى بتزكية النقاد ويحــتل الموقع الذهبي في الأدب السويسري.
سنوات طويلة كذلك مرت بعد موت الشاعرة النمساوية (جيرتا كريفتنر) -1928-1951-ليتم تقديرها كما يليق .
حيث تعتبر أشعارها صرخة في عالمـ الأدب بعد عقودٍ من انتحارها بالسمـ ،
كما ويعد اسمـ (كريفتنير) أحد ألمع الأسماء في الأدب النمساوي في حقبة ما بعد الحرب.
وكذلك نال المجد بعد موته الفيلسوف اليهودي الشاب (أوتو فاينغير) -1880-1903- والذي عانى من عقيدة وسواسية تنص على أن لا عيش لليهود في هذا العالمـ فأفضت به للإنتــحار.
ولكن نبل المجد في الحياة لمـ يكن بالمرساة التي تحمي الأديب من عواصف الفكر في السن الحرجة..
فكاتبا الدراما الفرنسيان ( فيكتور إيسكوس) و(إيغيوست ليبرا) قد استيقظا عَلَمين ذات صباح بعد نجاح مسرحيتهما المشتركة الشهيرة ( مستنقع فاروك) مع أن الأول لمـ يتجاوز الثامنة عشرة أما الثاني فكان في عامه الخامس عشر.
بيد أن مرحيتيهما التاليتين قوبلا ببرود الأمر الذي شكل لهما ما يشبه الإهانة ، إحساس بالإهانة أفضى إلى انتحار بطريقة تتلاءم مع روحيهما الشابتين الحالمتين حيث تسمما بأوكسيد الكربون متماسكي الأيدي،
وتركا خلفهما رسائل كتب في إحداها (إيسكوس) -1813-1832 أتـمنى تمن الصحف التي ستنقل خبر موتي للجمهور أن تكتب: لقد انتحر لأنه لم يملك مكانا هنا ، ولم يمتلك القوة الكافية للمضي قدما أو التقهقر للخلف، ولئن روحه –ولدرجة لامحدودة- قد طغى عليها التعطش للمجد، هذا إذا وُجِدت الروح أصلا).
أما ليبرا(1816-1832) فكتب في رسالته التي خطها قبل الموت بأسلوب أكثراقتضابا:
( أموت..فلا تأسوا علي لأن قدري يستتدعي الغبطة لا الأسف)
هنالك سبب آخر للسهولة التي يقدمـ بها الشباب على الإنتحار ، فطبيعة الإنسان الشاب المشحون بالحيوية لا تؤمن ببساطة أنها قابلة للموت..
فالشاعر الياباني والطــفل المعجزة (سيندزي أوكا)-1962-1975- قد ألقى بنفسه من على السطح ليعرفــ ماذا سيحدث له!!!! وكان آنذاك في ربيعه الثاني عشــر.
وكتب قبل موته
أحقا سأموت؟
وكيف لي أن أموت؟
وفي واقع الأمر فإن العديد منهمـ لمـ يشأ الموت بقدر اللهو بمقارفة الموت ، بل همـ ودوا أن يحضروا جنازاتهمـ بأنفسهمـ ، وقد ودوا لو استمعوا لأقربائهم كيف يناقشون خطوتهم اليائسة!!
وبعد ذلك ودوا لو يرجعون للحياة.لهؤلاء الشباب المبدعين كان الإنتحار نوعا من التنويم المغناطيسي أو العمل الإبداعي ، وهذا ما يلمس جليا في رسائلهمـ التي كتبوها قبل موتهمـ
وهنالك حالة أخرى : فعندما يكتشف الكاتب أن الموهبة الإبداعية تشكل عبءا ثقيلا عليه ، يلجأ للخلاصـ بقتل الكاتب في نفسه ليحفظ حياته كإنسان ..
ومن أبرز الأمثلة على هذه الحالة هو (آرثر ريمبو) الذي توقــف عن الكتابة في التاســعة عشرة من عمره
|