بعد فوات الأوان
في عالمنا لا يتذكر الناسُ المبدعين إلا بعد موتهم فتقام حفلات التأبين وتوزَّع الشهادات والجوائز المادية للميت ليتمتع بها غيره (الورثة).
منذ أيام أُقيم احتفال كبير تم فيه توزيع مكافآت مالية لثلاثة أدباء رحلوا، تحضرني صورة الفردوسي الشاعر الذي أراد أن يحارب الفقر بقلمه، قضى خمسة وثلاثين عاما يكتب رائعة الفرس الشهنامة، آملا في مكافأة السلطان محمود الغزنوي فإذا بالسلطان يجحده ويطيع الحاسدين. فقد أمر له بعد انتهائه من الملحمة بحمل فيل من الذهب الخالص. لكن وزيره الميمندي قال له لا تفعل فقد يقتله الفرح. واقترح أن يرسل إليه الفضة بدلا من الذهب، وغضب الكاتب حين سمع بما حدث وثارت كرامته فوزع الهدية على ثلاثة من أصدقائه، واستغل الوزير الحاقد ما حدث وأجج قلب السلطان عليه أكثر قائلا: إن هدية الملوك تشريف كثرت أم قلت. ولو أرسلت إليه قبضة من تراب لوجب أن يقبلها ويكتحل بها. فثارت ثورة السلطان وقال: لأرمينّ هذا القرمطي تحت أرجل الفيلة غدا. وأجعله عظة لسيئ الأدب. واضطر الشاعر أن يفر خوفا من هذا التهديد، وبعد فترة ندم السلطان على ما بدر منه وأرسل إليه العطايا الكثيرة. وحين دخلت القافلة المحملة بالذهب والهدايا قابلتها جثة محمولة إلى القبر. هي جثة الرجل الذي لم ينل حظه من التقدير لا ماديا ولا معنويا. وأمر السلطان أن تحمل العطايا لابنته لكنها ردتها بأنفة، فما كان منه إلا أن بنى له قبرا فخما ودفنه فيه. هذه هي مكافأته.. قبر أصبح مزارا لمحبيه. أعود للشهنامة التي بدأها شاعر آخر هو الدقيقي وألف منها ألف بيت ثم أكملها الفردوسي بخمسين ألف بيت وتضمنت أخبار الملوك وتاريخ الحضارة الفارسية والحوادث التي وقعت بينهم وبين العرب والروم والهند، وتلخص قصة قرون وأمم كثيرة بأسلوب شعري وموسيقي جميل. ومن الطبيعي أن تحظى هذه الملحمة باهتمام المترجمين، حيث تُرجمت إلى أغلب لغات العالم. كما أن الكثيرين حاولوا محاكاتها، وإن لاحقهم سوء الحظ كما لاحق مؤلفها الأصلي. فعلى سبيل المثال كتب شاعر تركي أطلق على نفسه الفردوسي الطويل ملحمة طويلة من 380 جزءا وأهداها للسلطان بايزيد الثاني الذي رضي عن ثمانين بيتا وأمر بإحراق الباقي. فغضب الشاعر وهجا السلطان وهاجر إلى بلاد الروم حيث مات غما. والشهنامة تعني كتاب الملوك، وأُطلق على مؤلفها ألقاب كثيرة مثل هوميروس الفرس وأبو الشعر الفارسي ويتم الاحتفال به كل عام في شتى بقاع العالم ولكن كل هذا الاحتفاء والتكريم جاء بعد الرحيل.
|