طارق الشناوي
هل يقبل الجمهور أن يرى دراما تليفزيونية تتناول السيرة الذاتية لزعيم أو فنان منزوعة الإحساس البشري بعد أن وضعوا عليها أوراق السوليفان أم أنه يريد أن يرى بشر من لحم ودم لهم أخطاءهم مثلما لهم أيضاً حسناتهم.. أكثر من مسلسل يجري حالياً إعداده متناولاً بطلاً أو فناناً أو زعيماً مثل "أنور السادات" ، "ناصر و عامر" ، "يوسف السباعي" ، "صباح" ، "د. مصطفى مشرفة" ، " إحسان عبد القدوس" ، "محمد عبد الوهاب" ، "بليغ حمدي" وغيرهم.. المؤكد أن صناع هذه المسلسلات يتنازعهم هذا السؤال هل هم ملائكة أم شياطين وإلى أي مدى تتقبل الجماهير ذلك؟ أتصور أن مسلسل "أسمهان" أسفر عن وضع خطاً حاداً بين السيرة الذاتية قبل "أسمهان" وبعد "اسمهان"..
نزع المسلسل حالة المثالية التي تصل إلى حدود التأليه وأسقط تماماً فكرة الدراما المعقمة التي نرى فيها الشخصية العامة زعيم أو فنان لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. رغم أننا بشر لا شياطين ولا ملائكة.. مسلسل "اسمهان" عرض في رمضان قبل الماضي وكلما أعيد عرضه حقق نجاحاً ضخماً.. أعاد المسلسل الاعتبار لرؤية المبدع حيث أصبح التقييم الفني يرتبط بمدى المصداقية التي يتحلى بها العمل الفني لا يعنيه قيمة الشخصية التي يتناولها بقدر ما تستوقفه القيمة الدرامية والفكرية.. لا تتناقض قيمة الشخصية التي يتناولها المسلسل بحجم الأخطاء البشرية التي تتورط فيها مثلاً "أسمهان" شاهدناها تشرب الخمر وتلعب القمار وتصاحب الرجال رأيناها تمارس أ خطاء البشر ثم وجدناها في نفس الوقت وهي تغني فتعانق السماء وكأنها ملاك..
هل غضب الجمهور من صورة "أسمهان" التي أدت دورها "سلاف فواخرجي" وكتبها السوري "نبيل المالح" وأخرجها التونسي "شوقي الماجري" الحقيقة هي أن الذين غضبوا فقط هم بعض أهل عشيرتها في جبل "الدروز" وصل الأمر إلى التهديد بإسالة الدماء من عدد من الورثة كما أن بعض ممن ادعوا الغضب كانت لديهم أغراضاً أخرى مثل طلب الحصول على أموال مقابل السكوت لكن كل هذه العراقيل تلاشت والجمهور استمتع بدليل أن الاستفتاءات التي صاحبت المسلسل في العديد من الصحف والمحطات الفضائية ووضعته في مصاف أكثر المسلسلات التي تناولت السيرة الذاتية شعبية كما أن حجم التغطية الإعلامية أوضحت على أنه تلامس مع الجمهور حيث استحوذ على النصيب الأكبر من الاهتمام الإعلامي..
كلنا نتذكر مثلاً أنه في نفس توقيت عرض "أسمهان" كان يعرض مسلسل "ناصر" والذي كتبه "يسري الجندي" وأخرجه الفلسطيني "باسل الخطيب".. المسلسل بإشراف ابنة الرئيس "د. هدى عبد الناصر" كان كل شيء منسوج بدقة بحيث تصب كل الأحداث فقط في صالح الرئيس.. موقفه من "محمد نجيب" أول رئيس للجمهورية المصرية والذي تم إقصاؤه بمكيدة قفز فوقه.. موقفه المعادي للديمقراطية لم نر منه شيء.. المعتقلات التي كانت عنوان مصر منذ منتصف الخمسينيات بعد أن أصبحت مصر كلها في يد الزعيم الواحد.. الصراع بينه وبين "عبد الحكيم عامر".. حتى الهزيمة في 67 كل هذه المواقف خرج منها "عبد الناصر" منتصراً.. لا أريد بالطبع أن نغفل إيجابيات "جمال عبد الناصر" وهي بالمناسبة كثيرة جداً ولكني أرى أن المسلسل كان ينطبق عليه مقال شهير كتبه الكاتب الكبير الراحل "صلاح حافظ" عن الرئيس "أنور السادات" وهو "سادات موسى وسادات هيكل" تناول الفارق بين الكاتبين الكبيرين في رؤيتهما لنفس الزعيم.. "موسى صبري" يراه ملاكاً و "حسنين هيكل" يراه شيطاناً.. مسلسل "ناصر" كان يقدم فقط الجانب الإيجابي "ناصر الملاك" فهو عبر عن "ناصر" كما يراه "يسري الجندي" و "باسل الخطيب" ولو رجعت لأغلب مسلسلات السيرة الذاتية سوف تجدها لا تملك سوى وجهاً واحداً مثالياً غالباً مثل "أم كلثوم" ، "عبد الحليم" ، "سعاد حسني" ، "قاسم أمين" ، "نزار قباني" وغيرها.. ومن هنا تأتي أهمية مسلسل "أسمهان"!!
نجح المسلسل في أن يحدد الخط الفاصل وبدقة بين ما يجب أن نراه بعد الآن في السيرة الذاتية.. وهو ما لا يمكن أن يتنازل عنه الجمهور في مسلسلات قادمة عن حياة "محمد عبد الوهاب" ، "بليغ حمدي" ، "رشدي أباظه" ، "مصطفى مشرفة" ، "إحسان عبد القدوس" ، "يوسف السباعي" ، "تحية كاريوكا" ، "صباح" ، "ناصر وعامر" ، "السادات" ، "بليغ حمدي" وغيرهم ينبغي أن نراهم كبشر.. لا ملائكة ولا شياطين!!