إنتخبوا أم علي ( 1993 )
حالة خاصة بين أعمالي .. هكذا يصفها كاتبها ومنتجها محمد الرشود في أغلب لقاءاته وظهوره الاعلامي , في مسرحية من أروع ما كتبه قلمه ومن أروع ما خطته يداه ومن أروع ما تخيله , مسرحية من أواخر المسرحيات الكويتية الهادفة في العشرين سنة الأخيرة , ذات شأن عالي ومهم وراسخ في تاريخ المسرح الكوميدي الساخر , علامة بارزة في تاريخ ومشوار كل أبطالها وكل من شارك فيها , تميز ليس بعده تميز من الألف الى الياء في القصة والقضايا المطروحة واداء الممثلين والاخراج , مباراة في الاداء المسرحي والكوميدي بين الفنانين , ومع تقدم الزمن وكثرة القنوات والمواقع ووسائل التكنلوجيا .. تثبت ( ام علي ) بأنها مثل الذهب المحافظ على بريقه والذي يزداد قيمة وتألق ولمعان مع مرور الزمن .
لنخرج ولفترة مؤقته من أجواء رمضان ومسلسلاته واعماله وتغطياته ونقاشاته رغم انه لم يبدأ بعد , ونبحر في رحلة تذكارية مع هذا العمل المسرحي الجميل ,, جاءت ( انتخبوا ام علي ) كمسرحية من أوائل المسرحيات التي عرضت بعد التحرير ولكنها لم تمر مرور الكرام , ولم تشأ ان تعرض وتنتهي الا وان تترك بصمة راسخة لا تمحى أبدا , حملت أجواء قريبة من مسرحيات الثمانينات الخالدة , حيث مناقشة كل ما يستجد على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الفنية , والكوميديا الراقية والعالية , والنظرة المستقبلية قياسا بأوضاع الوقت الحالي , ورغم هذا التقارب في الأجواء .. الا ان ( ام علي ) حافظت على الروح التي تزامنت مع وقت عرضها وهي روح التسعينات وما ميزها مسرحيا وفنيا وكوميديا , فلذلك صمدت مع مرور الازمنة وتكاثر الاعمال , وأؤمن .. بأن أي عمل فني يجاري الزمن الذي عرض فيه من كل جوانبه نصاً وفكراً وأداءً وإخراجاً ويعتمد على معطيات زمنه .. هو العمل الذي يبقى ويرسخ في العقول والأذهان ويظل خالدا .. وهذا ما أؤمن به .
ولكن .. كيف كانت الرؤيا المستقبيلة للكاتب في هذا العمل ؟! وكيف تحققت ؟!
تبدأ المسرحية بعد انتهاء الاحتلال العراقي الغاسم وبعد التحرير وعودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في دولة الكويت الى وضعها الطبيعي وأيضا غير الطبيعي , واستعداد الكثيرين للترشيح لعضوية مجلس الامة الذي عاد الى البلاد بعد ان توقف لما يزيد عن ست سنوات , تكون البداية في احدى الجمعيات التعاونية .. حيث يهيم الناس والمواطنين على شراء احتياجتهم هناك , وتشاء الاقدار أن تجتمع العائلة التي اختارها المؤلف لبطولة العمل صدفة في هذه الجمعية , فـ "أم علي" الشخصية الرئيسية في العمل هي امرأة حقانية لاتخشى في الحق لومة لائم وتنتزع حقها من أكبر رجل وأكبر شأن , ولذلك .. اتت الى هنا لخلاف مادي مع مدير الجمعية الذي نصب عليها , يتبعها زوجها "بوعلي" ضعيف الشخصية امامها والذي لا يتحدث أكثر منها , والصدفة تجمهم مع ابنهم الاكبر "علي" الشاب الاتكالي و(المغازلجي) , ثم مع ابنهم الاصغر "جمال" الشاب الجامعي والعصامي , اذن فالعائلة اكتملت .. لكن لا ينتهي هذا المشهد الا بعد طرح محورين أساسين , الأول هو وضع فئة البدون ومن ارتبط بهم بعد التحرير , فهم قبل الاحتلال كانوا في أفضل حال وكالمواطنين بالضبط , ولكن ما حدث بعد ذلك وما ترتب عليه كان له الاثر السلبي عليهم , اذ تم فصل اغلبيتهم ان لم يكن جميعهم من وظائفهم ومعاناتهم بعد ذلك , وكل هذا الكلام كان من منطلق الشخصية التي جسدتها الفنانة منى عبدالمجيد حيث قامت بدور المرأة الكويتية المتزوجة من أحد البدون , المحور الثاني كان مترتبا على المحور الاول وأكثر تشعبا منه , حول معاناة هذه الفئة منذ الستينات وحول تقصير مجلس الامة والحكومة بحل هذه القضية , ويكون القرار المفاجيء من "أم علي" .. هو عزمها على دخول مجلس الامة من أوسع أبوابه خاصة بعد منح المرأة الكويتية حقوقها السياسية في الترشيح والانتخاب .
يترتب هذا المشهد على المشهد الذي سبقه , اذ أننا في منزل ام علي واستعداداتها مع زوجها وابنائها في التحضير لحملتها الانتخابية الكبيرة وعن برنامجها الانتخابي وخططها المستقبلية وكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالفترة القادمة وهي الانتخابات , حيث المناقشات الطويلة والعريضة على اللوحة التي ستعلن فيها ام علي عن نفسها في كل شوارع دائرتها , وعن شكل هذه اللوحة ولونها ومكوناتها وكل ما سيكتب فيها و...الخ , نتعرف في هذا المشهد على شخصيتين جديدتين في العمل , الشخصية الأولى هي شخصية الاستاذ "سنبل" أحد مندوبي الاعلانات في الحملات الانتخابية , والذي يشارك ام علي وابنائها النقاش الطويل والعريض عن الاعلان الانتخابي , الشخصية الثانية وهي من أهم الشخصيات في العمل هي شخصية "بوحمد" الأخ غير الشقيق لـ "بوعلي" , وهو فارسي الأصل كويتي الجنسية , والذي يعارض أشد اعتراض على نزول "ام علي" معه انتخابيا في نفس الدائرة خوفا من تشتت الاصوات وغيرها من الامور وينضم الى جانبه ويسانده في حملته "علي" الذي انسحب من الوقوف بجانب والدته في حملتها الانتخابية , وأهم محور تم التطرق إليه في هذا المشهد كان الفساد الانتخابي , و ( اللعبة الوصخة ) كما اطلق عليها علي , لعبة شراء الاصوات وصفقات من تحت الطاولة وامور ذمم مالية مشبوهة , وهو بوجهة نظره يرى بأن من لا (يتوصخ) بهذه اللعبة فعليه ان يجلس في بيته ولا يرشح نفسه للمجلس من أساسه , فلذلك انسحب من حملة والدته وانضم الى حملة عمه .
نذهب الى الآن الى مشهد من أفضل وأشهر مشاهد المسرحية , وهو مشهد الحملات الدعائية والاعلانية للمرشحين وبرامجهم الانتخابية وخططهم المستقبلية في مجلس الامة , حيث اننا الآن امام ثلاث مقرات انتخابية متجاورة , المقر الأول كان للمرشح البدوي "أبو فواز" ومن معه , المٌلقب بـ ( نصير الشباب ) والذي يركز دائما في برنامجه على الشباب وحقوقهم الاجتماعية وحقوقهم في السكن وغيرها من الامور المتعلقة فيهم وغير المتعلقة , والمقر الثاني كان للمرشح "بوحمد" وبجانبه ابن اخيه "علي" المساند القوي له في حملته الانتخابية , وهو الآخر كان له برنامجه الخاص وقضاياه الواضحة في جملته الانتخابية , أما المقر الثالث والأخير فكان للمرشحة "أم علي" المُساندة من قبل زوجها "بوعلي" وابنهم "جمال" , وكان برنامجها الانتخابي هو الأكثر صدقا وموضوعية ونقدا للجهات الحكومية في الدولة , وكان هذا المشهد متسلسلا ما بين المرشحين الثلاثة اذ ينتهي احدهم من طرح احدى قضاياه فيبدأ التالي في الحديث وهكذا , وتميز هذا المشهد بوجود كمية غير عادية من الكوميديا في احداثه خاصة في الثنائي الاقوى في هذه المسرحية عبدالرحمن العقل وداوود حسين , ومحاور هذا المشهد كثيرة وكثيرة جدا , عدة محاور وعدة قضايا وأمور يفجرها هذ المشهد من خلال حديث المرشحين , تطرقوا الى المشاكل السكنية وعدم حصول المتزوج على بيت , والى المشاكل الصحية والاهمال الوظيفي في المستشفيات وترديها , والى ضعف رواتب المواطنين وقلتها , وغيرها من الامور , ولاتزال هذه القضايا مستمرة على السطح وتؤرق الكثيرين , ولكن كنجاح للدور المسرحي التوعوي والارشادي في المجتمع , تم من بعد هذه المسرحية تغيير قانون يتعلق بعلاج المواطنين في أي محافظة , وهذا من خلال الجزئية التي تحدث عنها الفنان عبدالرحمن العقل بالتفصيل عن ابن صديقه الذي مات بسبب هذا القانون .
تنتهي الانتخابات ويفوز بوحمد بالمركز الأول في دائرته وتفوز ام علي بالمركز الثاني , وفي بيت ( ام علي ) يتغير كل شيء .. فالبيت الهاديء تحول الى بيت مفتوحة أبوابه للقاصي والداني نظرا لمكانة ام علي الحالية ولما اصبحت اليه , فالجميع يطلبها الآن لتخليص معاملاتهم واحتياجاتهم ومطالبهم المشروعة وغير المشروعة , الهاتف لا يهدأ في منزلها والباب لا يغلق , وفي الطرف الآخر يقف بوعلي حزينا على ما وصلت اليه الامور , فـ ام علي لم تعد زوجته وحده فقط , بل مجلس الامة والناخبين اصبحوا يشاركوه فيها , بل وتراهم ويرونها أكثر منه , ينام هو وتصحو هي , يصحو هو وتنام هي .. وتتغير حياة هذا البيت بعد دخولها الى المجلس
المشهد الختامي الطويل من المسرحية , في مجلس الأمة .. حيث الوزراء النواب والنائبات مستجدات الدخول في هذا المجلس , مختلفين التوجهات والرؤى والخطط كل منهم يطرح ما يراه مناسبا من قضايا ومشاكل , نائب يساءل وزير ونائب آخر يتحدث بتفاصيل احدى القضايا وآخر يذهب الى موضوع اهم منهم , وكان لكاتب المسرحية محمد الرشود وجهة نظره وطرحها بهذا المشهد , وجسد ذلك من خلال الاداء السياسي للوزراء داخل مجلس الامة , حيث التخاذل منهم في تنفيذ القوانين وحل المشاكل ومحاربة الشباب , وفي هذا المشهد أيضا كان هناك كماً هائلاً من القضايا التي طرحت وتبادل الممثلين النقاش فيها من خلال شخصياتهم المرسومة , منها قضايا وزراة التربية والتعليم ومشاكلها التي لا تنتهي , قضية البدون , البطالة عند الشباب الكويتي , المال العام والسرقات , الشوراع وصيانتها , قضايا الامن الداخلي .. وغيرها كل منهم طرحها بوجهة نظره وبما يقتضي حلها , وتبقى أهم وأشهر قضية طرحت في هذا المشهد كانت قضية الاسرى الكويتيين , وذلك من خلال الحوار الطويل والمؤثر الذي القاه الفنان عبدالرحمن العقل وتفوق فيه على نفسه بأداءه لهذا المشهد الخالد , والجدير بالذكر ان هذا المشهد احتوى على شخصيات عديدة ومختلفة من النواب , منهم النائب الاسلامي والنواب البدو والنائبات الحضر ومنهم من تولت رئاسة الجلسة والنائب المجنس والنائبة (الخايبة) التي جسد دورها الفنان عبدالناصر درويش ,, يطول النقاش بين الاعضاء والوزراء على قضايا ومشاكل البلد وينتهي حديث ويبدأ آخر وتمر ساعات وساعات .. وينتهي المشهد مع دخول "بوعلي" الى مجلس الامة ليضع حد لهذا الضياع الاسري الذي تسببت فيه عضوية ام علي في المجلس ..
انتخبوا ام علي .. عندما تتفنتز السياسة
لا تحتاج ( انتخبوا ام علي ) لمثل هذا التحليل الطويل لكي تثبت مكانتها العريقة في تاريخ المسرح الكويتي , فلقد كنا ومازلنا وسنظل نشاهدها دوما ... ولكن الخط الاساسي والاهم في هذا العمل , كان يتعلق ويرتبط بشيء غير موجود على ارض الواقع - وقت صدور المسرحية - وهو اقتحام المرأة الكويتية للحياة السياسية ودخولها الى مجلس الامة , اذا فهو خط فانتازي نجح المؤلف بصياغته وتقديمه على المسرح وكأنه موجود في الواقع , ولم يكن هكذا فقط .. بل كان مثل الرؤيا المستقبلية للوضع السياسي في دولة الكويت بعد ذلك , اذ بعد عرض المسرحية بـ 12 عام حصلت المرأة الكويتية على حقها في الترشيح والانتخاب وحققت ام علي رؤيتها المستقبيلة , ويبدو ان الكاتب لم يتنبأ بهذا الشيء فقط , بل تنبأ بحال بعض النائبات في هذا الوقت من خلال الشخصيات التي رسمها , فبمجرد أن يطرأ أمامي اسم النائبة ( سلوى الجسار ) اتذكر معها مباشرة النائبة ( ام عهدي ) التي جسد دورها عبدالناصر درويش .. ويخلق من الشبه اربعين .
ولكن يبقى القول بأن قوة النص واحتواءه على خطوط اجتماعية وسياسية متعددة كان اغلبها حديث الشارع الكويتي وقتها بالاضافة الى قوة الاخراج وقوة الفريق التمثيلي وحسهم الكوميدي العالي جداً وتجانسهم واخلاصهم في الاداء وتعاونهم معاً ساهم في تخليد هذه المسرحية , فالنجوم هنا كانوا في اقصى وأفضل حالات التعاون فيما بينهم وكل منهم أخذ حقه واعطى الآخر ما يستحق , ولاعزاء لنجوم اليوم مدعي الفن والكوميديا ... ويجدر بالذكر أن فكرة هذه المسرحية كانت في مخيلة كاتبها محمد الرشود منذ العام 1987 ولكنها لم تترجم الى الورق وتقدم كعمل مسرحي الا في العام 1993 , وقد حاول الرشود أن يعيد نجاح هذا العمل الكبير في مسرحيتين , الاولى كانت ( بشت المدير ) عام 1996 بنفس فريق الممثلين مع بعض التغييرات ولكنها لم تكن بمستوى "ام علي" أبدا , والثانية كانت في مسرحية ( زوج سعادة الوزيرة ) عام 2006 وكانت من أسوأ واتفه المسرحيات , فالصورة مهما تُعب عليها .. فلن تكون كالأصل أبدا
نجوم العمل :
داود حسين ... لا أبالغ ان قلت انه كان نجم العمل الاول بدوره الرهيب والتاريخي , وهذه المسرحية بالنسبة له كما يصفها ( هدف في الدقيقة تسعين )
عبدالرحمن العقل ... لم يقل عن داوود ابداعا , كان (الجوكر) في هذا العمل وثنائي في كل مشهد اما مع داوود او العجيمي او عبدالناصر
انتصار الشراح ... الممثلة التي تفرض نفسها بين مجموعة فنانين , انجح من يقدم شخصية المرأة القوية وسلطية اللسان خصوصا في المسرح
محمد العجيمي ... كركترات متعددة ومتنوعة ولم ينفرد بدور واحد , وابدع في كل ادواره في هذه المسرحية
عبدالناصر درويش ... خط كوميدي مميز في المسرحية وقدم اجمل ادواره
الراحل خليل اسماعيل ... من أواخر مسرحياته قبل الاعتزال , وكانت له بصمته واضافته التي لاتنسى في هذا العمل
ولذلك ~~ انتخبوا ( أم علــــــي ) .. يا بعد أهلــــي