قصة قصيرة فازت بجائزة البغلي تحياتي للجميع
هذه القصة ، عثرت عليها وأنا أقلب ملفاتي القديمة في الكمبيوتر
وقد فازت قبل سنوات في مسابقة القصة القصيرة
القصة :
واحد اسمه : عبد التواب
بقلم : حامد العلي
بين مخلفات البناء والحديد وأكياس الأسمنت ، جلس عبد التواب - ذو الأربعين عاما ونيف - يشرب الشاي الكشري ، وقفت في جهة وقد أدركني الملل من طول مدة البناء ، سألته : " متى راح تخلص الشغل ؟ " .
انتهى من رشفته سريعا ليجيبني بلهجة أهل الصعيد المحببة :
" كمان أسبوع " ، قالها وعاد يدير كوب الشاي ليخلط الحثالة المتبقية أكثر ، فعبد التواب يعشق الشاي الكشري .
دخلت ، وكعادة أصحاب القسائم اليومية ، أتفرج وأتخيل النهاية السعيدة لهذه الأيام الصعبة المتعبة في بناء البيت ، فقدمٌ في وزارةِ كذا وقدمٌ أخرى في إدارةِ كذا ، وبين طلبات عبد التواب بتاع الطابوق وأبو الكلام البنغالي بتاع الصحي ، أقسّم وقتي وعقلي وجهدي ، وحق لي ذلك ، أليس هذا هو بيت العمر ؟!
وبينما أنا غارق في خيال تقسيم الغرف ولون السجاد الملائم وتوزيع التحف ، إذ أسمع صوت عبدالتواب متحدثا على هاتفه النقال .. المغبر ، ابتسمت ، فكلام أهل الصعيد ممتع مميز، وله موسيقى خاصة ، ولابد أن ينتهي بابتسامة .. منّي ، ولا أدري ما هو سر هذه الابتسامة ، ربما يعرف " بافلوف " سرها .
انتهيت من توزيع الأثاث والتحف ، وفرشت السجاد ، كل ذلك في ذهني وخيالي ، ودونما تشاور مع الزوجة صاحبة الرأي الأخير ، ففي ذهني أستطيع أن أفعل كل شيء ، من دون اعتراض من أصحاب الشأن ! أما في عالم الواقع ، فرحم الله امرئ عرف قدر نفسه .
تركتُ عملية التأثيث الذهني ، واقتربت من عبدالتواب وهو يضع هاتفه المغبر في كيس ثم يضعه في جيبه حفاظا عليه من .. الغبار ، سألته بلهجته مازحا :
" إيه الحكاية يا عبدالتواب ؟ "
قام وهو يحمل كوب الشاي - الذي طبع عليه بصماته - بيدٍ ، وترمس الشاي بيدٍ أخرى ليضعهما قرب الحائط كي لا يتسخا ! وهو يقول :
" مفيش يا بو أحمد ، أبويا .. بكلمه كل يوم مرة ، بينشغل علي على طول " .
قلت متصنعا الاهتمام مجاملة : " بس إنت كبير منت صغير علشان يخاف عليك ! "
رد بلهجته المميزة ، ولكن بجفاف وكأنه لم يستسغ ما قلته ، ولكنه احتراما للعقد المبرم بيننا خفف من نبرة الجفاف وقال :
" راجل كبير ، لزماً أراعيه " .
أحسست بأنني قلت ما لم يعجب عبدالتواب دون قصد ، فبعض الناس لهم مقدسات قد لا يعرفها من يحيط بهم ، ورغم ذلك ، لم أحسن الخروج من ورطة لساني الذي خرج عن طوع عقلي ، فقلت : " والوالدة ؟ ليش ما تكلمها ؟ " .
التفت إلى بهدوء وكأنه يلقي وراء ظهره عبارات وجمل ثقيلة كثيرة تنفع كإجابات وإجابات على سؤالي ، ولكنه اختصر كل ذلك ، وقال :
" الله يرحمها " ، عرفت هنا بأنني قد زدت الطين بلة ، وعرفت أن الصمت حكمةٌ ، لم أُعطَ منها شيئا .
تحرك عبد التواب نحو كومة الطابوق وهو يشد الربطة الصفراء فوق رأسه ، تلك الربطة التي كانت بيضاء قبل سنوات ، ليست بالغترة ولا بالعمامة ! وطرقت أذني كلمات تمتم بها لم أتبينها ، يالله .. ماذا يقول عني عبدالتواب ؟
وقبل أن يرفع أول دفعة من الطابوق ، نظر إلي وقال :
" والله يا بو أحمد ، أنا بحسد كل واحد أمه عايشه "
رفع كمية من الطابوق كبطل أولمبي ، وابتعد ، ولكن كلماته كانت كافية لأجمد مكاني ، وقفت .. كلمات عبدالتواب كانت من أصل وصورة ، أما الأصل فدخل إلى قلبي وأما الصورة فانطبعت في عقلي ، لذا لم أتحرك من مكاني لحظات حتى لا أفقد ما انتابني جراء كلام عبدالتواب بتاع الطابوق .
لماذا يحسد هذا الرجل أقرانه ؟!
عبدالتواب ، رجل من صعيد مصر ، جل وقته بين الطابوق والأسمنت والتراب . وهو في أثناء البناء والشغل ، إذا لم يفكر في البناء والشغل ، فهو يفكر في البناء والشغل .
ثيابه الرمادية الخالية من الإحساس والمشاعر ، لحيته الخشنة ، التعابير الجافة المنحوتة على قسمات وجهه ، يده المشققة ، سيجارته الملتوية .. كلها مع غيرها توحي لك بأن الرجل ، سطحي ، ضحل ، غارق في الجمود ، الدينار هو غاية نظره ، والجنيهات منتهى رضاه .
عبدالتواب الذي تشققت يده من الأسمنت ومواد البناء ، ولطالما سالت منها الدماء أثناء العمل ولم يرف له مع ذلك جفن .. عبدالتواب هذا .. يحسدني ؟ على ماذا ؟!
لم يحسدني على مساحة بيتي وموقعه على شارعين ، وهو الموقع الذي يحسدني عليه حتى أصدقائي المقربين .
ولا على تصميمه الأوروبي ، ولا على سيارتي الفارهة ، ولا على وظيفتي أو راتبي .. وإنما يحسدني على أن لي .. أمّاً ؟
وهل يحتاج عبد التواب المغبر .. إلى أمْ ؟
**
الأم ، شيء مسلّم في الحياة ، موجودة دائما .. كالهواء ، لا تلتفت له لبساطته من حولك وإحاطته بك واحتضانه لك من دون علم منك ولا إرادة ، تعرف قيمته عند فقده .
**
" بدأت أستعيد ذكرياتي " ، والحقيقة أن هذه الجملة .. لا تقترب في معناها قيد شعرة مما عشته قبل لحظات ، وأنا أقود سيارتي عائدا إلى بيتي في حر الظهيرة ، أقسم أنني بدأت أشم رائحة أمي وعبق ثيابها الممزوج ببقايا دهن الورد الذي كنت أشمه منها وأنا في العاشرة من عمري .
وها أنا – في السيارة – أشعر بلمسة يدها وهي تمسح على شعري قبل ثلاثين سنة ، الآن .. فقط الآن ، عرفت معنى الدائرة الكهربائية المغلقة ، الآن عرفت لم يضيء المصباح ، هذا الاتصال ، هذا الحب ، هذه اللمسات على شعري كانت تنبع من قلبها لا من يدها .
رباه ، لماذا تأخرت الإضاءة إلى اليوم ؟
الآن ؟!
الآن وبعد أن ذرفت على الأربعين ، الآن أضاء مصباح روحي ؟!
وعلى يدي من ؟! عبدالتواب ؟!
وصلت إلى منزلي ، منزل مؤقت ، ريثما أنتقل إلى منزلي الجديد ، منزل عبدالتواب ! إن صحت التسمية ، أو وافقت عليها زوجتي ، ولا أظنها ستفعل .
وقفت ، نظرت للساعة ، تشير إلى دقائق قبل الثانية ظهراً .
لم أخرج من السيارة ، بل .. عدت أدراجي إلى الشارع ، محملا بذكرياتٍ ذاتِ حياة وعبق ، لا مجرد صور ثابتة أو متحركة لا طعم لها تدور في الأذهان التي لم يروها عبد التواب بكلماته .. أو حسده .
لحظات ، وجدت نفسي أمام منزل العائلة ، خرجت .. وقفت أنظر في الحديقة الصغيرة ، " الله يرحمك يبا " ، كلمات صدرت عن لساني بشوق جارف ، لرجل مات منذ حقبة ، رنّت صوت ضحكته الجميلة في أذني ، ضحكة لم ترد على بالي منذ زمن ، منذ دخل أحمد – ولدي – إلى الابتدائية .
منذ بدأت أصارع زملائي لرئاسة القسم ، فالبحث عن واسطة قوية بين الواسطات أمر يحتاج إلى جهد . وإذا كنت أرى في نفسي الكفاءة لأكون مديرا في يوم ما ، فلا بد من أن أضع قدمي على السّلمة الأولى بثبات ، وهي رئاسة القسم ، فلا مانع حينها أن أنسى كل شيء لأجل شيء ، فقديما قالوا :
" ألف عين لأجل عين تكرم " .. وقد صدقوا ، فهم السابقون !
تذكرت ضحكة أبي التي نسيتها عندما طغت عليها صوت أقدامي تركض وأنفاسي تلهث لتوفير مبلغ يكفي لسفري مع أسرتي إلى جولة أوروبية .
نعم .. نسيتها ونسيت صاحبها ، عندما دخلت قرعة توزيع الأراضي على المواطنين للبناء ، وبات صداها في عالم النسيان وأنا أسابق الزمن لأرفع أعمدة البيت وأساساته .
والآن ، لم أنته من تشطيب البيت ، وها أنذا منشغل في تقسيم الغرف ولون السجاد وتوزيع التحف ، فبالله عليكم كيف أتذكر ضحكة أبي ؟ أو لمسة حانية على شعري من راحة كف أمي ؟
تذكرت كل هذا مع صوت صرير الباب القديم لمنزل العائلة القديم وأدخل إلى فنائه ، الحوش .. الحوش الذي جمعنا صغارا ، كنا نلعب ، ونتصارع ، ونبكي ونضحك ، وكل ذلك يحدث في غفلة منا عن الستارة التي تُفتح بين الفينة والأخرى ، وتطل من ورائها علينا عين رحيمة ، تتابعنا رأفة بنا وخوفا علينا ، لم تتدخل أمي في لعبنا ولا في ضحكنا ولا حتى في صراعنا ، فكل همها هي أن نكون هنا .. في الفناء ، تُمتع ناظريها بنا ، ويطمئن قلبها إلى وجودنا .
دخلت الباب .. استوقفتني رائحة دهن الورد ، ممزوجة برائحة بدن أمي المميزة ، رائحة حنانها ، نعم حنانها .. عبدالتواب ليس بأحق مني بالتعبير عن رغبته بحنان والدته ، فإن كان يحسدني ويحسد كل من كانت أمه علي قيد الحياة ، فليحسدني إذا وأنا أتمتع ببقائها ورائحتها وتقبيلها واحتضانها ، بل .. ليحسدني ما شاء وأنا أضع يدها على رأسي ، وأمرر يدها بين بقايا شعري القصير ، فهذه المرة ، أنا أعرف لم يضيء المصباح . هذه المرة أنا أستمتع بإضاءة المصباح . هذه المرة ، أنا .. أحسست .. حقيقة .. بما تعنيه كلمة أم .
فليحسدني ، حتى لو كان هو بنفسه الشعلة التي أضاءت لي طريقا إلى الجنة كنت قد نسيته .
**
بعد أيام ، دخلت بيتي ، حيث أزال العمال أغلب الأنقاض ومخلفات البناء ، بدا البيت جميلا ، سألت فتحي المقاول : " وين عبدالتواب ؟ " .
قال بجمود : " عبدالتواب .. أبوه مات ، سافر يحضر الجنازة والعزى " .
ثم أردف وهو ينظر لبقايا الأنقاض : " بو أحمد .. عوزين خمسمية دينار علشان نخلص التشطيب ؟ "
قلت - وأنا أخرج ربطة الدنانير من جيبي - :
" فتحي ! أمك موجودة ؟ " ..
فهذا جفاف من لم تلمس شعره .. يد أمه .
**
|