جرير في رثاء الفرزدق .... بداية من هو شاعرنا اسمه :جرير بن عطية ، بن حذيقة الملقف بالخطفى ، بن بدر ...بن كليب بن يربوع من تميم .
عطية اسم والده الذي كان خامل الذكر ، ضعيف الهمة ، لا شأن له في القبيلة ، بخيلا ، شحيحا . قيل : إنه كان إذا جاع ، عمد إلى عنز ، و جعل يمض ضرعها خوفا من سماع صوت الحليب فيطلب منه اللبن .
أمه هي حقة بنت معبد الكلبية . وفي قاموس الفيروز آبادي : إن حقة هو لقب أمه لا اسمها . كنيته : أبو حرزة الذي كان كبير أولاده . و كان للشاعر شقيقان عمرو و أبو الورد و قيل : إنه لم يكن على وفاق معهما . عائلته : تزوج شاعرنا ثلاث نساء ، ذكرهن في أشعاره .
الأولى : خالدة ، أم ابنه البكر حرزة ، و كانت أحبهن إلى قلبه . و قصيدته المشهورة في رثائها أبلغ دليل على ذلك الحب .
الثانية : زرة الديلمية ، أم و لديه : نوح و بلال .
الثالثة أمامة أم زينب .
كان لجرير من الأولاد عشرة ، ثمانية من الذكور ، و اثنتان من الإناث . علاقة الشاعر بالشعراء
علاقة جرير بزملائه الشعراء ، كانت كعلاقة زملاء الصنعة الواحدة و المهنة الواحدة . تراوحت بين المد و الجزر ، والسلبية والإيجابية . و إن كان الجزر يغلب عليها و السلبية تسيطر .
و أخبرنا الأصمعي أنه ناهش ثلاثة و أربعين شاعرا ، فكان يرميهم ، واحدا و احدا و راء ظهره ، و لم يصمد له إلا الفرزدق و الأخطل .
التحم الهداء بين هذا المثلث الأموي حتى " ملاء الدنيا و شغل الناس " . و ما يمر يوم ، إلا و هذا الثالوث ، يتحف القوم بقصيدة هجائية مقذعة لاذعة فاحشة . فكانت تنتقل على الأفواه من مكان إلى آخر ، أسرع من انتقال النار في الهشيم ، و الوساوس في نفوس الشكاكين .
و انقسم الناس في أي من هؤلاء الثلاثة أحسن و أفضل . غير أن الرأي الغالب هو أن الأخطل أجودهم مدها و أوصفهم خمرا ، و الفرزدق أعظمهم فخرا ، و جريرا أفحمهم و أفحشهم هجاء و أعلمهم نسبا و أجمعهم لفنون الشعر .
و دامت هذه الحرب الهجائية الطاحنة ما يزيد على الأربعين سنة ، دمرت أمامها كل الحدود الأخلاقية ، فانتهكت الأعراض ، و قذفت المحصنات .
و كانت حممها قذائف من ألفاظ الفحش و العهر و الفجور . عنذ ذاك اجتمع عقلاء تميم و أشرافهم ، و الألم يعصرهم ، معترضين على شعرائهم لأنهم يسببون لهم الخزي و العار . و استغلت القبائل المعادية هذا الأمر ، فكانوا ، إذا خمدت نار هذه الحرب الضروس ، يتولون إشعالها من جديد . إذ ينشرون هذا الشعر الفاحش ، فتعود القلوب إلى قساوتها و العواطف إلى تحجرها و تفجرها ، حقدا و كرها و ألفاظا بذيئة مبتذلة . و قد ساعد على تسعيرها ، أيضا بعض الولاة و الأمراء و الحكام طلبا للمداعبة و النكتة و التفكه ، و من هؤلاء بشر بن مروان والي البصرة و الحجاح بن يوسف الثقفي .
طغى على هجاء الفرزدق و جرير الإفحاش و التعهر و الكلمات البذيئة و الإسفاف حتى إن سكينة بن الحسين رفضت استقبال جرير في ناديها الأدبي رغم منحها إياه ألفي درهم إياه ألفي درهم .
أما الخليفة عمر بن عبدالعزيز ، فقد منع عنه العطاء ، بل عاقبه و الشاعر عمر بن لجأ ، لتبادلهما الهجاء الفاحش ، و قذف النساء المصونات و نهش الأعراض فأمر بربطهما و أوقفهما على باب المدينة ، مشهرا بهما ليكونا عبرة لمن لا يعتبر (شرح ديوان جرير : ص ص 5-10)
و بشكل عام ، نستطيع أن نعتبر شعر جرير سجلا تاريخيا موثوقا ، به لما كان يدور ، في ذلك الزمن ، من أيام و معارك و حروب . فقد ذكر أسماء أبطالهم المنتصرين و عدد أسماء أعدائهم المنهزمين ، سواء من قتل أو أسر . فإذا بهذا الشعر و ثيقة واضحة صادقة لما حدث بين الحكم و معارضيه من شخصيات و أحزاب و قبائل ، و ما كان يتحلى به من عادات اجتماعية و مزايا أخلاقية مذمومة أو محمودة . و بعد ، فهذه حياة شاعر شكل مع منافسيه ، الأخطل و الفرزدق ، مرحلة مهمة في ذلك العصر . و كانوا محور الحياة الأدبية و الشعرية ، فما إن تصدر القصيدة من فم أحدهم ، حتى تناقلها الأفواه من قطر إلى قطر ، لتعم البلاد الغربية بكاملها . و كان صوت شاعرنا الأعلى و الأقوى و الأحب و الأكثر جمعا لفنون الشعر ، حتى قال عنه منافسه الأخطل حين طلب منه أن يبدي رأيه في كل منه و الفرزدق : " الفرزدق ينحت من صخر ، و جرير يغرف من بحر " . و صدق في هذا الرأي الراجح الصائب .
و كما قال عنه مروان بن أبي حصفة : " و إنما حلو الكلام و مره لجرير " الحديث عن شاعرنا يطول و رغم ما دار بينه و بين الفرزدق و قد ناهز أ كل منهما التسعون سنة و هم بين مد و جزر إلى أن حين وفاة الفرزدق رثاه شاعرنا مرثية تعبر عن صدق حبه و بليغ حزنه فما أعجب شاعرنا هذا و أروعه رائعة جرير قالها في رثاء الفرزدق : لَعمري لقد أشجى تَميما و هدها * على نكباتِ الدَهرِ موتُ الفرزدقِ(1) عشيةَ راحُوا للفراقِ بنعشه ِ* إلى جَدَثِ في هوةِ الأرضِ مٌعمَقِ(2)
لَقد غَادرٌوا في اللحدِ من كان ينتمي* إلى كُلَ نجمٍ في السماء مُحَلقِ(3)
ثَوَى حَامِلُ الأثقالِ عن كلَ مُغرمٍ* وَدامِغُ شَيطانِ الغَشومِ السًمَلقِ(4)
عِمَادُ تَميمٍ كُلها ، و َلسانُها* وَنَاطِقُها البَذّاخٌ في كلّ مَنطِقِ(5)
فَمَنْ لذَوِي الأرْحَامِ بَعدَ ابن غالبٍ* لجارٍ وَعَانٍ في السّلاسلِ مُوثَقِ(6) ـــــ // الشَّرح // ــــ
(1) المعنى: يقول إن موت الفرزدق قد أحزن تميما و أصابها في الصميم .
(2) المعنى : يقول ساعة حملوا نفسه إلى مثواه الأخير و وضعوه في قبر عميق .
(3) المعنى : يقول ساعة : إنهم تركوا في القبر الإنسان الذي كان ينتمي إلى كل نجم مرتفع في السماء . أي إلى أصل كريم .
[4]... المفردات : المغرم : من عليه مال . الغشوم : الظالم . السملق : الطويل المعنى : يقول راثيا ، مات الذي كان يدفع عن المدين دينه ، و يرد الظالم عن ظلمه .
[5] المفردات : البذاخ : المبدع المعنى : يقول إن الفرزدق كان عماد تميم ، و المدافع عنها ، و الناطق باسمها في كل مكان .
(6) المفردات : العاني : الأسير . المعنى : يقول معدد صفات الفرزدق ، متسائلا من يصل الأرحام بعده و يساعد الأسير على فكاك أسره .
[شرح ديوان جرير : 445]. نتابع وَمَنْ ليتيمٍ بَعدَ مَوتِ ابنِ غالبٍ* وأٌمّ عِيَالٍ سَاغِبين َ و َدَرْدَقِ(1)
وَمَنْ يُطلقُ الأسرَى وَ من يَحقنُ الدما* يَداهُ وَيَشفي صَدْرَ حَرّانَ مُحنَقِ(2)
وَكَمْ مِن ْ دَمٍ غَالٍ تَحًمّل ثِقلَهُ* وَكانَ حَمُولاً في وَفَاءٍ وَمَصْدَقٍ(3)
وَكَمْ حِصْنِِ جَبّارٍ هُمامٍ و َسُوقَةٍ* إذا ما أتَى أبْوَابَهُ لَمْ تُغَلَقِ(4)
تَفَتَحُ أبْوَابُ المُلُوكٍ لِوَجْههِ* بِغَيرِ حٍحابٍ دونَهٌ ، أو تَمَلُقِ(5)
لَتَبْكِ عَلَيهِ الإِنْسُ و الجنُ إِذْ ثَوَى* فَتى مُضَرٍ في كَلّ غَرْبٍ و مَشرِقِ(6)
فتىً عاشَ يَبني المَجدَ تسعين َ حِجّةً* وَكانَ إلى الخَيرَاتِ والمَجدِ يَرْتَقي(7)
فَما ماتَ حتى لمْ يُخَلّفْ وَرَاءهُ* بِحَيّةِ وَادٍ صَوْلةً غيرَ مُصْعَقِ(8) ـــــ // الشَّرح // ــــ
[1] المفردات : الساغبون : الجائعون . الدردق : الأطفال المعنى : يقول من يساعد الأيتام بعد موت الفرزدق ، و من يساعد الأرامل و الأطفال الجائعين .
[2] المعنى : يقول من يطلق سراح الأسرى ، و يمنع سفك الدماء ، و يأخذ بثأر المظلوم .
[3] المعنى : يقول كم كان يحمل من ديات القتلى عن أصحابها و كان في عمله هذا وفيا صادقا .
[4] المعنى : يقول : إنه كان يقصد قصور الملوك و بيوت السوقة . و لم تكن تغلق الأبواب في وجهه.
[5] المعنى : يقول ، إن أبواب الملوك كانت تفتح أمام الفرزدق ، دون أن يعترضه حاجب ، و دون تزلف أو تملق منه .
[6] المعنى : يقول إن الإنس و الجن تبكي على فتى مضر أي الفرزدق ، و في كل جهة في الشرق و في الغرب ، عندما يوضع قبره .
[7] المعنى : يقول إنه عاش تسعين سنة يبني مجده و يرتقي إلى أفعال الخير .
[8] المعنى : يقول ، إنه مات بعد أن أسكت كل أعدائه و أجهز عليهم .
[شرح ديوان جرير : 445-446].
طبتم و طاب يومكم ،،،، من كتاب شرح ديوان جرير قدم له و شرحه له ، تاج الدين شلق : دار الكتاب العربي __________________ لم يكتشف الطغاة بعد سلاسل تكبل العقول... اللورد توماس
|